من يراقب الحركة السياسية والاجتماعية لتنظيم حزب الله في الكويت، التنظيم الذي يعتقد بأنه الوحيد الذي يحمل أجندة تسمى بـ”الإسلام المحمدي الأصيل”، يجد بأنها واقعة بصورة مباشرة تحت إمرة المرجعية الدينة وولاية الفقيه، التي هي صورة من صور الفكر الديني الشيعي الأيديولوجي الوصائي الخاضع لنظام “التقليد” الصارم. وهو إطار تشترك فيه جميع تنظيمات الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي، باختلاف بينها يتعلق بالأهداف والوسائل والتفاصيل.
فولي الفقيه، الذي هو مرجع ديني، هو الذي يهيمن بتصوراته على الخطوط العريضة لتلك الحركة وينظّر لأفكار التنظيم ويرسم سياساته الرئيسية، فيما التفاصيل الصغيرة وما يسمى بالتكتيكات على أرض الواقع تبقى في أيدي الأفراد المحليين. ففي الكويت – مثلا – ترتبط تفاصيل النشاط السياسي الاجتماعي الديني لتنظيم حزب الله بيد أفرادها الكويتيين، فيما الخطوط العريضة تأتي من ولي الفقيه أو من ينوب عنه، أو إنها لابد ألاّ تخرج عن إطار أيديولوجيا ولاية الفقيه. فلو أن ولي الفقيه أمر أو أفتى – مثلا – بمقاطعة البضائع الأمريكية احتجاجا على سياسات واشنطن “العدائية” تجاه “القضايا الرئيسية للأمة الإسلامية”، فإن أنصار تلك الأيديولوجيا من مفكرين ومنظّرين وسياسيين وأفراد عاديين ملزمون إتباع ذلك الأمر أو تلك الفتوى، حيث يبنون تفاصيل خططهم السياسية والاجتماعية والإعلامية على أساس ما أمر وأفتى به ولي الفقيه وما دعت إليه الخطوط العريضة لأيديولوجيا ولاية الفقيه. لذلك لا يمكن للمراقب السياسي أن يتوقع تغيّرا في مواقف وأنشطة أنصارها قبل تغيير قرار المرجع الديني أو ولي الفقيه.
لذلك، لو أن تلك الأيديولوجيا رأت أن عماد مغنية “شهيد” وأنه يجب الدفع بهذه القضية في المجتمع والسير خلفها بقوة، مثلما فعل حزب الله الكويت، لا يمكن لأي شخص ينتمي إلى التنظيم أن يخالف أو يختلف مع تلك الرؤية وإلا اعتُبر مرتكبا ذنبا دينيا ووجد نفسه خارج أسوار التنظيم. ومع أن هذا السلوك ينعكس في طبيعة جميع التنظيمات الدينية المؤدلجة، لكن في التنظيم الشيعي الخاضع لنظام “التقليد”، أي لذلك الذي يتسم بالخضوع التام لكل أوامر وفتاوى ولي الفقيه أو المرجع الديني ذي المشروع السياسي، فإن الأمر يعكس خضوعا أكبر إذا ما تم مقارنة ذلك بمسألة الخضوع في التنظيمات الدينية السنية.
وعلى هذا الأساس لا يمكن لأي مراقب سياسي أن يتوقع نتيجة إيجابية تتمثل في تغيير موقف حزب الله الكويت من وصف مغنية بـ”الشهيد”، لأن مواقف الحزب تستند إلى رؤية دينية مؤدلجة، رؤية تتثبت وتتغير حسب آلية “التقليد” وفي إطار لا يمكن أن يخرج عن ثقافة وفكر ولاية الفقيه، التي يهيمن القرار أو الفتوى فيها إلى ولي الفقيه أو من ينوب عنه. وبما أن الصراع في شأن قضية مغنية كان حول وصفه بـ”الشهيد”، التي تعتبر أحد المفردات الأساسية في خطاب حزب الله، وفي خطاب الإسلام السياسي بشكل عام، فإنه من الصعوبة بمكان تراجع أنصاره في الكويت عن ذلك قبل تراجع أو تغيير موقف ولي الفقيه. وبما أن “الشهادة” هي صفة مقدسة في الخطاب الديني المؤدلج، الشيعي والسني، فمن غير المتوقع حصول تغيير في موقف حزب الله الكويت بشأن قضية مغنية. وكما يقول الكاتب السعودي مشاري الذايدي فإن الثقافة الحاكمة لحزب الله “استثناء في كل شيء وليست مثل البقية الخائضين في وحل الطين البعيدين عن نور الشهادة ونداء السماء” مؤكدا أن “من مظاهر هذه الاستثنائية عدم التعويل كثيرا على الدولة والوطن، فهي تنشد شيئا أعمق، إنها تنشد الوحدة الإسلامية تحت شعار المرشد، قدس سره الشريف، وما هذه الدول والحدود إلا لوثة من لوثات الطين، وما نحن إلا مشاريع شهادة حتى يأذن الله بقيامة الحق وخروج صاحب الزمان، نعم هذه هي الثقافة المحركة التي تجعل شبانا متوقدين يتحولون إلى مجرد بنادق أو قنابل تتحرك بإشارة من السيد، أو بأمر من الحاج رضوان، كما فعل ويفعل نظراؤهم في الجانب السني من جنود القاعدة والجماعات الإسلامية من ربيبي السلفية الجهادية”.
إن “بيت الطاعة” الذي يبنيه نظام “التقليد” الديني في عقول أفراد التنظيم يعتبر أحد الأسباب التي تساهم في تثبيت سيطرة قضايا أيديولوجيا الإسلام السياسي في أذهانهم، وهذا النظام لا يبالي في النتائج المترتبة على ذلك حتى لو كانت شبه كارثية على الأمن والسلم الاجتماعيين. وحيث أن الأيديولوجيا الدينية السياسية تستند في خطابها إلى تفعيل قضاياها وتثبيت مواقعها على الساحة السياسية والاجتماعية المحلية، حتى لو كان ذلك في الضد من مصالح المجتمع وعلى حساب أمنه، تبدو توقعات عدم تراجع موقف حزب الله الكويت بشأن تأكيده على “شهادة” مغنية هي الأكثر رجحانا، إن لم تصبح يقينا، لأن الفكر الديني المؤدلج دائما ما يعبّر عن هيمنة احتكارية دينية، فإما قبول الهيمنة وإما قبول تأويلات الخروج من الحزب، التي هي في معظمها تأويلات تكفيرية وتخوينية.
إن مفكّري وسياسيّي أيديولوجيا ولاية الفقيه عادة ما يهيئون المجتمع الذي يعيشون فيه لقبول نظام “التقليد”. فلو أن المرجع، وفقا لهذا النظام ووفقا لـ”مصلحة الأمة”، قد أصدر أوامر تفضي إلى تحسين العلاقة بين “الأمة” وبين واشنطن، فإن أنصار تلك الأيديولوجيا من مفكرين وسياسيين ومقلًّدين مجبرون على تغيير مواقفهم وخططهم، وتحويلها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، باتجاه رؤية المرجع الديني لمصلحة “الأمة”، لا لشيء إلاّ لأنّ “التقليد” يلزمهم التغيير، باعتبار أن الفتوى أو أوامر المرجع الديني تشكل عصب الأيديولوجيا.
إن جماعة حزب الله الكويت كانت تعادي سياسة الحكومة الكويتية إبّان ثمانينات القرن الماضي بسبب تعارض مصالح الأخيرة مع دولة ولاية الفقيه أثناء الحرب العراقية الإيرانية. فولي الفقيه كان قد دعا آنذاك إلى معاداة الحكومات الخليجية التي تقف إلى جانب العراق أو التي تعادي الجانب الإيراني. لكن تلك النظرة تغيّرت بمجرد انتهاء الحرب وظهور واقع سياسي جديد انبنت عليه منظومة جديدة من العلاقات القائمة على المصالح المشتركة، الأمر الذي غير النظرة العدائية تلك بمجرد تغيّر قرار المرجع الديني المستند إلى المصلحة. لكن تنظيم حزب الله في الكويت لم يجد أي حرج في إعلان التغيير المفاجىء في نظرته تلك، ولم يأل جهدا في نقد فترة ما قبل التغيير وشرح عملية التغيير، إذ أن الإلتزام بالفتوى بالنسبة إليهم هو فوق أي اعتبار.
وفي الواقع فإن هذه الأيديولوجيا، وغيرها من أيديولوجيا الإسلام السياسي في الجانب السني، تمثل تهديدا لمصالح البلاد. فعامل المصلحة في ظل ثقافة “التقليد” من شأنه أن يميل إلى جانب الأيديولوجيا الدينية على حساب سلامة الوطن وأمنه. وهو ما لمسناه من إصرار غير طبيعي من قبل التنظيم ورموزه على عدم تقديم اعتذار إلى الشعب الكويتي في قضية تأبين مغنية ولو أدى ذلك إلى الإضارا بأمن وسلم المجتمع.
إن قوة الإنسان الحديث، الإنسان الذي يعيش في العصر الراهن، تستند إلى قوة مفهوم “الحقوق”، كحقه في الحياة، وحقه في التفكير، وحقه في النقد وفي تغيير الكثير مما يسمى بالثوابت والمسلمات والمقدسات، دون انتظار من فقيه أو ولي أمر بذلك. فيما استند الإنسان ما قبل الحديث، الإنسان الذي عاش في الماضي القديم، والذي لا تزال مجتمعات عربية وإسلامية عديدة تنتمي إليه، استند هذا الإنسان وذلك الماضي إلى مفهوم “التكليف” الديني، واعتبر أن الإنسان مكلف بالسمع والطاعة إذا ما بلغه أمر التكليف، سواء بلغه من رجل الدين أو الفقيه أو الحاكم الشرعي أو ولي الأمر، وأنه لا يحق له الاعتراض أو تغيير مواقفه إلا إذا جاءه تكليف آخر بذلك، وأن أية حقوق يملكها إنما هي منبثقة من التكليف الموجه إليه، بمعنى أنه لا يستطيع أن يمارس أي نقد إلا إذا جاءه تكليف ديني. وهذا هو بالطبع الثقافة التي تعبر عن نفسها في ولاية الفقيه.
إن “أدلجة الدين” هي تفسير يحبس الدين في سجن التفسيرات الإطلاقية الجامدة غير المتطورة، أو التصورات التاريخية غير القابلة للنقد، أو المسلّمات. بمعنى أنه يعتبر نفسه فوق أي سؤال أو نقد، ويكون موقع العقل فيه غير واضح، ما ينتج النظريات المقدسة، ثم يعتقد بأن ميزان الحقيقة يوجد فقط عنده. فهو يستند إلى الإكراه والجهل بدلا من الرغبة والإقناع، ويضحّي بالحقيقة من أجل المصلحة. بمعنى أنه يقوم على أساس أحادية الفهم، ولا يهتم سوى بصعود ميزان قدرته وسطوته على أرض الواقع. وبما أن مفهوم “الدولة الإسلامية” في الفكر الديني المؤدلج، عند الجانبين السني والشيعي، مستند إلى تصورات تاريخية وتفسيرات إطلاقية مقدسة ومسلمات معرفية، فبطبيعة الحال فإنه يتعاطف مع الاستبداد الذي سيؤثر بدوره على جميع مناحي الحياة. لذلك فإن أي نقد لثقافات وسياسات الإسلام المؤدلج، ومن ذلك إسلام ولاية الفقيه، أصبح يعتبر نقدا لذات الدين، ما أدى بهذا النوع من الإسلام أن يصبح فوق النقد، وأن يتحول إلى نظرية مقدسة تعبر عن مسلّمات. على هذا الأساس فإن الأيديولوجيا الدينية ليست سوى منظومة من التصورات والمسلمات التي تخدم طبقة خاصة من الناس، من أجل السيطرة على طبقة أخرى والاستبداد بها بذريعة تنفيذ وتفعيل تلك التصورات والمسلمات.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي
“الدين أفيون الشعوب”
أستاذ فاخر:
أضافة الى ما ذكرت و استناداً اليه وضع المخططون الاستراتيجييون الأمريكان نظرية ” اعادة المنطقة _طبعاً العربية_ الى صراعات ما قبل سياسية ( دينية و مذهبية و طائفية و اثينية…)” وذلك من أجل خلق موزاييك في المنطقة يلبس لبوس الدين و يتلون بألوانه المذهبية و الطائفية….فيكون طبيعي للغاية و جود دولة خاصة لليهود.
و شكراً لك
أبو العلاء