تساؤلات حول قدرة تفاهم مار مخايل على الصمود مع رئيس «التيار الوطني الحر»
معركة باسيل الحقيقية إقصاء كل المسيحيين خارج تفاهم معراب للحؤول دون وصول فرنجية إلى قصر بعبدا
هل القول أن مشكلة لبنان اليوم تكمن في شخص الوزير جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية… أم أن في ذلك بعضاً من المغالاة في التوصيف؟ مرد ذلك أن كل القوى السياسية، على مختلف مشاربها وتوجهاتها، تنظر إلى باسيل على أنه رئيس الجمهورية وليس عمه العماد ميشال عون الذي حقق في وصوله إلى قصر بعبدا عام 2016 ما حلم به عام 1989، ولو بات اليوم في عمر الثمانين.
المشكلة مع باسيل إدراكه بأنه «رئيس الظل»، وأن حلم أن يصبح «فخافة الرئيس» يتطلب منه العمل بكل ما أوتي من امكانات من أجل تحضير الأرضية الصلبة التي تجعل منه الرئيس المقبل. كل حسابات باسيل تنطلق من هذه المعادلة. وهو يتصرف على أساس أن الوقت داهم وأن الفرصة إن ضاعت اليوم فلن تتكرر غداً، وهو المتيقن كل اليقين أن الشريك المسلم على اختلاف انتماءاته السياسية يضع ورقة النائب سليمان فرنجية في يده كمرشح رئاسي مستقبلي للبنان إذا لم تتغيّر المعادلات.
كل الاطراف تنظر إلى أن ما يحرك باسيل في أي خطوة هو هوس الرئاسة المقبلة. بالطبع هو يدرك أن الرئاسة ليست وراثة. ولو كان ممكناً ابتداع نصوص دستورية تحوّل نظامنا الرئاسي إلى ملكي، ولو لفترة محدودة، لربما كان هذا هو الاتجاه الأمثل له، مع تعيين رئيس الجمهورية لصهره ولياً للعهد.
ولكن ما دام الأمر ليس كذلك، فإن الحل يكمن في إيجاد السبل الكفيلة بالامساك بزمام القرار والتحكم بالسلطة سواء التشريعية أو التنفيذية تحت عنوان «استعادة حقوق المسيحيين»، مستنداً في المهمة التي أوكلها لنفسه إلى مقولة أن العماد عون هو الأقوى مسيحياً وأن «التيار الوطني الحر» هو الأكثر تمثيلا، وهي مقولة فيها كثير من الصحة ولكن فيها أيضاً كثير من الوهم، ذلك أن «حزب الله» عمد بعد «تفاهم مار مخايل» في شباط 2006 وما نجم عنه من تحالف بين الحزب والتيار الوطني إلى عدم توفير فرصة أو مناسبة أو وسيلة إلا واستخدمها من أجل تظهير عون الزعيم المسيحي الأول والأكثر شعبية، وساهم في تعزيز كتلته النيابية والوزارية وموقعه الشعبي والسياسي، من منطلق حاجته الى حلفاء ذات ثقل يوفرون له غطاء داخلياً كان يفتقده في مقابل ما كانت قوى الرابع من آذار تشكله من قوة تمثيلية سياسية وشعبية لمختلف المكونات الطائفية في البلاد، وإن كانت اعترتها ثغرة التمثيل الشيعي، والذي يعود في واقع الأمر إلى «خطيئة» عدم احتضانها الفعلي لشريحة واسعة من الشيعة كانت في صلب الحركة الاستقلالية.
غالى «حزب الله» في تظهير قوة عون، نظراً إلى حاجته الى الغطاء الداخلي لمشروعه العابر للحدود، والذي أمنه له عون سواء في حرب تموز أو في انخراطه في الحرب السورية، حتى أن تلك المغالاة أحدثت مشكلة لدى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي كان يقارن بين كيفية تعزيز «حزب الله» لأوراق خصمه على الساحة المسيحية، فيما الحليف الأبرز المسلم في 14 آذار سعد الحريري لا يفعل الشيء ذاته ولا يجيّر له نواباً مسيحيين من هذه الدائرة او تلك من أجل إظهاره كتلة مسيحية بارزة وقوية في البرلمان.
ووفى «حزب الله» بتعهده لجنرال الرابية في دعمه للوصول إلى رئاسة الجمهورية على حساب تعطيل المؤسسات، وهي اللعبة التي بدأت تنقلب عليه، لا بل دفعت بكثيرين إلى الضحك في سرهم: سليمان فرنجية يتفرج فرحاً، ورئيس مجلس النواب نبيه بري يذكر بما كان يقوله عن السلة، وحلفاء للحزب يذكرونه أنه ذهب بعيداً في رفع عون والتيار على الراحات، وبعضهم كان يتوقع ارتداد نتائج الإستقواء بالقوة للتعطيل أو النكوث بالتعهدات.
اليوم، ثمة مشهد متبدل لدى «حزب الله». الحليف العوني الذي أضحى رئيساً للجمهورية صاحب توقيع «تفاهم مار مخايل» لا يزال يحظى بثقة «حزب الله»، وهو عاش في لبنان المتنوع الإسلامي – المسيحي، فليس فقط هو إبن حارة حريك ذات التنوع الطائفي، بل خدم يوم كان في المؤسسة العسكرية في مناطق لبنان من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله، وهو يعرف التركيبة المجتمعية اللبنانية، وذو تجربة سياسية بأبعادها المحلية والاستراتيجية. لكن تلك ليست حال جبران باسيل.
يراقب الحزب مدى جنوح الصهر. فهو كان يريد أن يقصي كلياً وجود تمثيل سليمان فرنجية في حكومة الحريري كمقدمة لاضعافه وأقصائه لاحقاً انتخابياً، لكن الرئيس تدخل وحسم في النهاية الموقف. وهو كان يريد اسماً آخر لقيادة الجيش لكن الرئيس حسم الأمر في النهاية. ومع سوء العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، كان ثمة فيتو على عودة الوزير علي حسن خليل إلى وزارة المال، لكن الرئيس عاد وحل الأمر. والحزب راقب كيف كان أداء باسيل في اجتماع بعبدا لدى زيارة وفد من قيادة «حزب الله» برئاسة نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم الموكل ملف الانتخابات، وكيف أن رئيس الجمهورية سعى إلى الاستفسار عن الصيغ لقانون على أساس النسبية حملها معه الحزب وما تفرزه من أصوات، فيما كان باسيل متمسكاً باقتراحه الاخير ولم يقبل بالأخذ بملاحظات الحزب حوله للسير به. والأهم أن «حزب الله» ومعه شخصيات سياسية عدة ترى أن باسيل يفتقر إلى مقومات وحيثيات مفهوم «العيش المشترك» لأنه لم يختبره، ولا يتوانى عند أي استحقاق سياسي عن تحويله إلى مواجهة طائفية، مشكلاً رأس حربة في التحريض الطائفي، وفي رفع الاسئلة المصيرية عن مغزى العيش المشترك.
مرّ قطوع 13 نيسان 2017 على خير. كان الحشد في الشارع سيقابله حشد آخر، استخدم رئيس الجمهورية صلاحياته الدستورية فتأجلت جلسة التمديد للمجلس بتعليق عمل المجلس لشهر، لكن المشكلة أرجئت ولم تحل ما دام لم بتم التوصل إلى قانون انتخاب.
المعركة راهناً ليست على قانون يؤمن أكبر نسبة من التمثيل المسيحي، فهناك صيغ وفرت نحو 55 نائباً منتخباً بأكثرية اصوات المسيحيين، وهو ما رفضه باسيل. حسابات باسيل تنطلق من عدد النواب الذين يمكن ان يفوز بهم «التيار الوطني». والمعركة حول قانون الانتخاب التي تخاض بالاستناد أيضاً إلى قوة «تفاهم معراب» هدفها إقصاء كل مَن هو خارج هذا الثنائي، لكن القراءة الموضوعية لهذا التحالف في ضوء طموحات باسيل لا ترى حظوظاً وقدرات لإمكانية استمرار التفاهم بنفس الزخم الذي بدأ به. فهو مر حتى الآن بمطبات كثيرة أمكن احتوائها، ولكن ماذا حين يصل الأمر إلى معركة الرئاسة؟ فسمير جعجع مرشح طبيعي لرئاسة الجمهورية، وعلى الرغم من عدم تأكيد أو نفي أي طرف لمضامين الاتفاق بين عون وجعجع حين رشح الأخير جنرال الرابية، حول ما إذا كان التيار سيدعم مستقبلا ترشيح جعجع، فإن الأكيد أن رئيس الجمهورية سيعبّد الطريق امام صهره، كما أن رهان جعجع الطبيعي أن التيار الوطني الحر ما بعد العماد عون لن يكون كما قبله، وأنه بالتالي قادر على استمالة شريحة واسعة منه، ولا سيما أن قسماً كبيراً من العونيين غير راضين على ما وصل اليه التيار البرتقالي الذي كان مناصروه يؤمنون أنه سيكون حزباً بعيداً عن أحزاب الاقطاع والتوريث العائلي، فإذا به يلتحق بركب تلك الاحزاب.
المشهد الذي يسيطر راهناً على الوضع الداخلي يعتريه ليس هوس صحة التمثيل المسيحي، بل هوس باسيل، متكئاً على «تفاهم معراب» إلى قانون يؤمن الثلث المعطل في البرلمان، ما يمكنه من تعطيل تأمين نصاب الثلثين المطلوب لانتخابات رئيس الجمهورية، ويقطع بالتأكيد الطريق على أي فرصة لفرنجية بالوصول الى البرلمان بكتلة نيابية معتبرة، إذا كان اقصاؤه مستحيلا، فضلاً عن إقصاء القدر الأكبر من المستقلين الذين يمكن أن يكونوا في لحظة ما مرشحين وسطيين، يمكن أن يرسو عليهم التوافق، ولاسيما أن باسيل يدرك أن رئيس الجمهورية يحتاج إلى الشريك المسلم.
القراءة المستقبلية لا تقف فقط عند حدود التساؤل عن مدى قدرة «تفاهم معراب» على الحياة، ولا يبدو السؤال يدور كثيراً حول ما إذا كان مطلوباً من باسيل أن يختار بين «تفاهم معراب» وتفاهم «مار مخايل». السؤال الذي بدأ يطرح في الكواليس وبهدوء أضحى متعلقاً بـ«تفاهم مار مخايل» وقدرته على الحياة مع باسيل الذي يرأس اليوم «التيار الوطني الحر»، «رئيس الظل»، والطامح الى الرئاسة في الغد.
ورغم أن بعض المتوجسين على ضفة 8 آذار، يحاولون فهم ما إذا كانت نبرة باسيل، التي لا تخلو من ملامح نزعة تقسيمية، تتماهى مع ما يجري في الإقليم من مشاريع قد تعطي الأقليات حكماً ذاتياً أو فيديراليات، أم أنها رفع للسقف لتحقيق الطموحات السياسية، والتي هي طموحات مشروعة، لكن شرطها أولا واخيراً ليس فقط فهم تاريخ لبنان بل فهم المغزى المتبقي منه حتى الآن بوصفه نموذجاً للعيش المشترك الإسلامي – المسيحي، والذي يشكل حماية له وللتنوع فيه، بفعل تلك الصيغة اللبنانية الفريدة التي يخشى أن يكون وقت اخضاعها للامتحانات قد آن أوانه.