لم يكن صدفة أن يحمل السيد موسى الصدر منذ عاد إلى لبنان تراث السيد عبد الحسين شرف الدين(أي التراث الوطني اللبناني المستند إلى عروبة حضارية لا لبس فيها ولا غبار عليها)، وان يتمايز عن أقرانه ورفاقه الذين أسسوا “حزب الدعوة” في النجف الأشرف ( ما بين عامي 1957 و1959 وهو تاريخ عودة الصدر إلى لبنان).. وهنا تاريخ مجهول لم يفتح أحد صفحاته بعد إلا أنه يستحق الاهتمام والدراسة كونه يلقي لنا ضوءاً كاشفاً على أمور ومواقف ما تزال تتردد أصداؤها إلى اليوم…
فالسيد صدر الدين الصدر (والد السيد موسى) قاد حركة دينية إصلاحية تقدمية وارتبط اسمه بالنهضة الأدبية والثقافية للنجف والعراق ومن ثم إيران التي هاجر إليها وتزوج فيها من السيدة صفيّة كريمة المرجع الديني السيد حسين القمّي..ومن خلال السيد القمي ارتبط السيد صدر الدين بكل اقطاب الحركة الاصلاحية التجديدية وخصوصاً المرجع الكبير المجدد الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي الذي عاونه الصدر في إدارة الحوزة الدينية في قم وصار لاحقاً أحد أركانها وساهم معه في إنشاء مؤسسات علمية ودينية واجتماعية وصحية.. وهذان المرجعان تتلمذا معا على الميرزا محمد حسن المعروف بالمجدد الشيرازي، وعلى الشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ محمد كاظم الخراساني وشيخ الشريعة الأصفهاني.. وهؤلاء لمن لا يعلم كانوا أركان التيار التجديدي الإصلاحي في الحوزات الشيعية وقادة الإصلاحية الدستورية في التاريخ الشيعي… كما أن السيد القمي لم يكن فقط صديق ورفيق درب المجدد الشيرازي بل هو رفيق وزميل المجدد النائيني (صاحب كتاب تنزيه الأمة وتنبيه الملة وأحد أكبر الدعاة إلى الحكم الشوروي الدستوري).. والى هذا التراث ينتسب السيد موسى الصدر… فهو درس في الحوزة العلمية بقم على أيدي أعلام التجديد والإصلاح الكبار.. كما انه كان أول معمم يدخل جامعة طهران الحديثة وكلية الحقوق فيها..وهذه نقطة ثانية مهمة لفهم العقل المنفتح والثقافة الواسعة التي ميزت الإمام الصدر عن أقرانه… وهو تخرّج من جامعة طهران الحديثة العلمانية وعاد إلى قم أستاذاً محاضراً في الفقه والمنطق ومؤسساً لأهم وأكبر مجلة إسلامية شيعية تنويرية إصلاحية ( مكتب إسلام ) مع الشهيد بهشتي والشيخ ناصر مكارم وبدعم وتوجيه من آية الله شريعتمداري..وهنا لا بد من الإشارة إلى أن رئاسة الحوزة الدينية في قم كانت معقودة للمجدد الكبير السيد البروجردي الذي لم يكن الإمام الخميني من أنصاره ومؤيديه بعكس الإمام محسن الحكيم والإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين وهم كانوا من أنصار البروجردي. وفي ذلك يكتب الشيخ هاشمي رفسنجاني صراحة أنه “حدثت بعض المشكلات بين السيد الخميني وآية الله البروجردي… قامت منافسة بين نشرتنا “مكتب تشيع” وبين نشرة “مكتب إسلام” التي كان يديرها متقدمون علينا حوزوياً ومن أنصار شريعتمداري… لو أن الإمام الخميني في عصر السيد البروجردي تدخل في الصراعات السياسية لما نجح، لعدم الانسجام بينهما…في عصر البروجردي كانت الأكثرية المطلقة من الطلبة تابعة له…وكان هو المرجع المطلق في باكستان وأفغانستان والعراق والخليج.. وأسس دار التقريب بين المذاهب ومركز هامبورغ الاسلامي…الخ…”(كتاب رفسنجاني:حياتي.دارالساقي،بيروت،2005،ص32-33-36-38-39).
وقد انتقل السيد موسى الصدر إلى النجف بعد وفاة والده (1953) حيث لمع نجمه خلال فترة وجوده هناك (حتى العام 1959) أي في فترة توهج وسطوع نجم مرجعية السيد محسن الحكيم الذي احتضن الإمام الصدر كما احتضن علماً آخر من جيله هو الإمام شمس الدين… وكانت أول زيارة للسيد الصدر إلى لبنان العام 1955 (حيث تزوج من ابنة السيد عزيز الله خليلي).. وقد تميّزت مرحلة النجف التي شهدت زيارات متكررة إلى لبنان والى قم، بدراسته على كبار المراجع: أبو القاسم الخوئي، محسن الحكيم، محمد رضا آل ياسين.. وبإتمامه لمرحلة الدراسات العليا (بحث الخارج) واشتراكه في تأسيس جمعية منتدى النشر… وهنا زامل ورافق الإمام الصدر كبار النجف يوم ذاك: الشهيد محمد باقر الصدر(ابن عمه)، والسادة الشهداء مهدي ومحمد باقر الحكيم (ابني السيد محسن)، والشيخ الموسوي الاردبيلي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والسيد مرتضى العسكري (أحد ابرز قادة حزب الدعوة) والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم.
إن انتماء الصدر إلى التيار الإصلاحي المجدد في إيران والعراق، ورفقته وزمالته لرموز الحركة الإسلامية الإيرانية المدنية (حركة تحرير إيران وقيادتها: آية الله طالقاني، د. مهدي بازركان، د. مصطفى شمران، د. علي شريعتي، د. إبراهيم يزدي… وهي حركة إصلاحية كبرى كانت استمرارا وتطويرا لحركة الرئيس مصدق وتيارها المسمى الجبهة الوطنية) وصلته أيضاً بالمرجع الكبير المعتدل والليبرالي آية الله كاظم شريعتمداري، كل ذلك جعله يفترق ومنذ البداية عن أترابه الذين شاركوا لاحقا في تأسيس حزب الدعوة…وكان العراق يشهد نهضة ثقافية وسياسية هائلة كان النجف مركزها والمراجع الكبار محورها… فمع السيد الخوئي والسيد محسن الحكيم وولديه مهدي ومحمد باقر، ومع الشيخين الأخوين محمد رضا ومرتضى آل ياسين(أخوال السيد محمد باقر الصدر)، والسيد محمد صادق الصدر(ابن عم السيد موسى وجد السيد مقتدى)، تشكلت حلقات الدراسة والتفكير ووضعت برامج الحركة والعمل بدءا بجمعية منتدى النشر وجماعة العلماء (ومجلتها الأضواء) ومرورا بمنظمة الشباب المسلم ومنظمة المسلمين العقائديين (وقائدهما عز الدين الجزائري) والحزب الجعفري (عبد الصاحب دخيل وحسن شبر ومحمد صادق القاموسي وقد صاروا لاحقاً من المؤسسين لحزب الدعوة)، ووصولا إلى حزب الدعوة… وكانت الأجواء العربية الملتهبة حافزا للطلبة والعلماء في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء إلى البحث عن اطر مناسبة للتحرك الإسلامي الجاد يلبي احتياجات الشيعة العراقيين من جهة (وهم كانوا حرموا أية مشاركة في الحكم رغم ثوراتهم التاريخية ضد الاحتلال البريطاني)، ويواجه الاتجاهات الحديثة التي كانت تغزو بسرعة عقول وقلوب الشباب في مواجهة الملكية والاستعمار (المقصود الاتجاهات الليبرالية والقومية واليسارية والشيوعية منها تحديدا)… وهنا يجدر تسجيل حادثة مهمة كان لها الأثر الكبير في التحركات اللاحقة وهي مظاهرة النجف الكبرى دعما لمصر في مواجهة العدوان الثلاثي.. فقد شهد العراق مظاهرات صاخبة ودامية كان أعنفها وأكثرها تأثيرا مظاهرة النجف الأشرف التي قمعتها السلطة بوحشية رهيبة وتلاها إعلان الأحكام العرفية في البلاد… ورغم ذلك استمرت التظاهرات في النجف وأبرزها تلك التي خرجت يوم 23-11-1956 وشارك فيها علماء الدين وأسفرت عن مجزرة دموية ارتكبتها السلطة وراح ضحيتها عدد كبير من الأهالي (ذكرت مجلة العرفان اللبنانية إن عدد القتلى بلغ 450 الا ان العلامة الكبير الدكتور السيد محمد بحر العلوم أكد لي ان العدد لم يتجاوز اصابع اليد الواحدة في النجف)… وقد تلا ذلك بيان عنيف للمرجع الشيعي السيد الحكيم وإعلان الإضراب العام الشامل في النجف وهو إضراب تجاوب معه العراق كله وانضمت إليه مصر ولبنان وسوريا… والى تأثير هذه الحركة الجماهيرية في النجف، وتأثير حركة مصدق في إيران والتي أسقطتها المخابرات الأميركية، جاءت تجارب لبنان (ثورة 1958) والجزائر (انطلاق ثورة التحرير الوطني) وفلسطين (حركة فتح) لتضيف وعيا كبيرا إلى تحرك شباب الحوزات والطلبة والعلماء في النجف. كما بدا بوضوح تأثر النجفيين بالتجربة الإيرانية الشديدة الوطنية إلى حدود التعصب (وكلنا نعرف ذلك) كما بالتجربة الجزائرية والتجربة الفلسطينية الوليدة، وهما تجربتان وطنيتان صافيتان لا بل أنهما تشكلتا من رحم الاعتماد على الذات الوطنية وليس على المد العربي (تجربة الجزائر المتميزة بمزيج إسلامي – جزائري شديد الخصوصية و تجربة حركة فتح التي خرجت قياداتها من رحم الإخوان المسلمين وعلى أساس الوطنية الفلسطينية).. وقد عرف عن الإمام الصدر في تلك المرحلة تأثره الكبير بفرانز فانون وعلي شريعتي وبثوار الجزائر وفتح بقدر تأثره بالدراسة الحوزوية (وأساتذته فيها) وبالتجربة الإيرانية الوطنية-الإسلامية…في مثل هذه الأجواء ولدت فكرة تشكيل حزب إسلامي شيعي في العراق أسوة بالإخوان المسلمين وحزب التحرير وحركة فتح وجبهة التحرير الجزائرية وحركة تحرير إيران ومنظمة فدائيان إسلام الإيرانية (وقائدها نواب صفوي المتأثر بحسن البنا)… وقد رأى الداعون إلى هذا العمل ضرورة النهوض بأعباء المرحلة وفي مقدمتها طرح الإسلام كعلاج للازمات الاجتماعية السياسية في مقابل التيارات الفكرية الأخرى التي كانت تستقطب شباب العراق، ومواجهة هذه التيارات بنفس الأسلوب الحركي التنظيمي الهادف إلى إيجاد وسائل للوصول إلى قطاعات في المجتمع كان يصعب الوصول إليها من خلال العلماء والطلبة الحوزويين في ذلك الوقت (مثل قطاعات الموظفين الحكوميين والطلبة الجامعيين في المدن الكبرى وأصحاب المهن الحرة وظباط وجنود الجيش)… وفي تلك المرحلة بالضبط بدأ المشروع الإصلاحي اللبناني للإمام الصدر بالتبلور… فهو عايش معايشة وثيقة الحلقة الضيقة المؤسسة والقائدة لما أصبح فيما بعد حزب الدعوة… إذ في منزل السيد محسن الحكيم أو ولديه مهدي ومحمد باقر، أو في منزل السيد الخوئي نفسه، أو الشيخ مرتضى أو الشيخ محمد رضا آل ياسين، كانت تعقد الاجتماعات التأسيسية وبحضور أبناء السيد محسن ووكلائه الأساسيين (محمد مهدي شمس الدين ومحمد باقر الصدر إلى جانب السيد مرتضى العسكري ومحمد صادق الصدر ومحمد حسين فضل الله والشيخ عبد الهادي الفضلي والسيد محمد بحر العلوم والشيخ عارف البصري والسيد طالب الرفاعي والسيد محمد هادي السبيتي وغيرهم). غير أن السيد موسى الصدر لم يكن مرتاحا للعمل وفق النمط الحزبي الإسلامي الحركي للإخوان المسلمين أو حزب التحرير…خاصة وان بعض كبار مؤسسي حزب الدعوة كانوا ينتمون في البداية إلى هذين الحزبين (عارف البصري ومحمد هادي السبيتي من حزب التحرير- وطالب الرفاعي من الاخوان المسلمين).. كما أن التوجهات الفكرية والتنظيمية الأساسية للحزب الجديد جرت صياغتها استنادا إلى كتابات الباكستاني أبو الأعلى المودودي والمصري سيد قطب والفلسطيني تقي الدين النبهاني.. وكان السيد الشهيد محمد باقر الصدر متأثرا بكتاباتهم إلى حد كبير.. وهذه حقيقة أكدها لي مرارا الإمام شمس الدين كما أشار إلى دور المجلات المصرية التي كانت تصل إلى النجف في تلك الأيام…كما أن الإمام الكبير آية الله حسين منتظري أكد في أحاديث كثيرة تأثير سيد قطب عليهم في قم والنجف ومحاولتهم التوفيق بينه وبين عبد الناصر.. وقال منتظري انه يوم إعدام سيد قطب (آب 1966) بكى بحرقة وهو في السجن في طهران…كما روى أكثر من مرجع إيراني وعراقي تأثرهم بالثورة الجزائرية وبتجربة جبهة التحرير الوطني (وقد ظلت العلاقة المميزة بين حركة أمل والجزائر إلى يومنا هذا تأسيسا على ما بدأه الإمام الصدر، ولعل الإمام لم يكن ليسافر إلى ليبيا لولا الطلب الخاص من الرئيس بومدين)….كانت مرحلة قم والنجف إذن عاصفة ومليئة بالتحولات الفكرية التي كانت تعيشها النخب الدينية الشيعية.. وهنا نفتح قوسين لعرض بسيط للحراك الإيراني الذي كان السيد الصدر مرتبطاً به منذ مرحلة الرئيس مصدق.. فالمعروف أن القيادات الدينية الشيعية وقفت مع مصدق ضد الشاه الذي انتصر بدعم أميركي كبير وعاد إلى الحكم في 19 آب 1953. أدى انهيار حركة مصدق الوطنية إلى نشوب صراعات بين قوى الجبهة الوطنية وقوى علماء الدين وعلى رأسهم آية الله كاشاني وحركة فدائيي إسلام(نواب صفوي).. دعم آية الله كاشاني وصدر الدين الصدر والخوانساري حركة نواب صفوي إنما بتحفظ بسبب تطرفهم، في حين كان المرجع البروجردي يعلن عن عدم رضاه عن تصرفاتهم.وبعد وفاة كبار المراجع في قم (البروجردي والخوانساري والصدر) برز العلماء شريعتمداري والحكيم والكلبايكاني ومرعشي نجفي والخوئي.. إلا أن السيد محسن الحكيم أخذ محل البروجردي كمرجع أوحد في عصره.. والجدير ذكره هنا أن الإمام الخميني تجنب الإعلان عن إقامة مجالس عزاء للبروجردي(على مقتضى ما جرت به العادات) “خوفاً من ظهور شائبة من الشوائب ولم يكن راغباً حتى في كتابة رسالة”(رفسنجاني-ص49).إن هذا الأمر يكشف لنا تماماً عن حقيقة الصراعات في قم وأطرافها ومواقعهم وأدوارهم. ومن رحم هذه الصراعات ولدت حركة نهضت آزادي (حركة تحرير إيران-1960) وقائدها مهدي بازركان وآية الله طالقاني والدكتور علي شريعتي “وهم كانوا يعطون أهمية كبيرة للانفتاح الفكري ولإرضاء المثقفين المتنورين.. والعلماء وتجار البازار المتدينين..(رفسنجاني، ص60). وأسس آية الله شريعتمداري دار التبليغ وهدفه “إيجاد مراكز تعليم أكثر تنظيماً متعددة البرامج داخل الحوزات التقليدية… وكان قانعاً بإلقاء الدروس والأبحاث والتبليغ والمهام الدينية..”(رفسنجاني، ص106-107)). وكان السيد الحكيم يؤسس في العراق المكتبات العامة ويقوم بتحديث التدريس الحوزوي والاحتفالات بمناسبة عاشوراء يساعده السيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهما.
حين قرر السيد موسى الرجوع إلى لبنان كانت قد نضجت في رأسه واختمرت فكرة العمل الذي كان ينوي القيام به… وقد أخبرنا الإمام شمس الدين أن الفكرة نضجت بالتشاور مع السيد محسن الحكيم الذي أعطى الإمام الصدر وكالة عامة وتفويضا كاملا.. ولم تمض اشهر على عودة الصدر إلى لبنان (1959) حتى اندلعت الانشقاقات والصراعات داخل حزب الدعوة الأمر الذي أدى إلى طلب السيد محسن الحكيم من أبنائه والمخلصين له الانسحاب من الحزب (1960).. فانسحب السيد مهدي ثم السيد محمد باقر (اثر عودته من بنت جبيل في لبنان ولقاءاته مع السيد الصدر، والسيد محمد باقر الحكيم هو للمناسبة ابن شقيقة السياسي اللامع علي بزي وكان يحضر مجالسه في لبنان، وبالتالي فهو ابن خالة السيد فضل الله) ثم الشيخ محمد مهدي شمس الدين وتبعهم آخرون.. وما زالت هذه الوقائع في أساس السجالات والخلافات داخل حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وما بينهما إلى يومنا هذا.. المهم هنا تسجيل الفرادة والتميّز للإمام الصدر ومنذ مرحلة مبكرة، ووعيه لظروف وأوضاع الشيعة ولحاجات التنظيم والاستنهاض التي رأى أنها لا بد أن تختلف عن نمط التنظيم الحزبي الغربي الذي يحمل أسماء إسلامية.كما أن المسالة الاساس التي حكمت كل الصراعات اللاحقة تتمثل في اكتشاف المراجع (السيد محسن الحكيم بداية ثم السيد محمد باقر الصدر الذي كان يعتبر المؤسس لحزب الدعوة) ارتباطات الحزب الخارجية (مع الشاه ومع الاردنيين والبريطانيين) وعقلية النخبوية الحزبية التي تستحل استغلال الناس كما استغلال المراجع والعلماء للوصول الى اهداف الحزب الباطنية..فكان الفراق باكراً بين جماعة المرجعية من جهة وجماعة الحزب من جهة اخرى، وهو فراق ما يزال يحمل بصمات التشكيك والتوتر الى يومنا هذا..
كان اول اللبنانيين المنتسبين الى حزب الدعوة الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله (1958)… وفي العام 1960 صدرت مجلة الاضواء نصف الشهرية باسم جماعة العلماء التي كانت واجهة للحزب يومذاك..وقد استمرت بالصدور حتى العام 1966..وكان يكتب افتتاحيتها السيد محمد باقر الصدر او الشيخ محمد مهدي شمس الدين (باسم رسالتنا)..وفي العام الثاني على الصدور (1961)، انقطعت “رسالتنا” وحلت محلها “كلمتنا” التي صار يكتبها محمد حسين فضل الله.. وكان ذلك يشير الى تطور اساسي تمثل في انسحاب آل الحكيم من الحزب ومعهم شمس الدين، ثم الى انسحاب السيد محمد باقر الصدر نفسه..بعد ذلك سيطر على الحزب هادي السبيتي وطالب الرفاعي وعارف البصري ومرتضى العسكري ومحمد حسين فضل الله وعلي كوراني وكاظم الحائري ومهدي الآصفي..والحقيقة ان حزب الدعوة استظل مرجعية السيد الحكيم والسيد الخوئي في سنوات 1957-1960 ثم مرجعية السيد محمد باقر الصدر (حتى استشهاده 1980)..و لم تتوقف الصراعات والانشقاقات في الحزب بخصوص مسألة العلاقة بين الحزب والمرجعية، وبين المدنيين ورجال الدين..نذكر هنا انشقاق جماعة من العلماء وعلى راسهم عبد الهادي الفضلي حين سيطر السبيتي على قيادة الدعوة (1963)..وانشقاق سامي البدري وجماعة بغداد (1967) لصراعهم مع عارف البصري..الا ان القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقة بين الحزب والمرجعية تمثلت في تخاذل الحزب عن الوقوف خلف السيد الحكيم حين قاد المواجهة مع نظام البعث(1969-1970)..وبعد وفاة المرجع الحكيم (1970) صاغ السيد محمد باقر الصدر نظريته حول العلاقة بين المرجعية والحزب (اطروحة المرجعية الصالحة) داعياً الى ضرورة الفصل بينهما بحيث يكون الحزب ذراعاً من أذرع المرجعية وتحت أوامرها..في حين ان الحزب كان يرى ويعمل للعكس اي استغلال المرجعية واستخدامها..واستمرت المجادلات داخل وخارج الحزب 3 سنوات 1970-1973..الا ان الحزب لم يترك العمل داخل الحوزة وباسم السيد الصدر الامر الذي أدى الى الصدام العنيف بينهما والى اصدار الصدر لفتواه الشهيرة حول عدم جواز انتساب طلبة العلوم الدينية الى الحزب (1974)..وفي اثناء ذلك كانت موجات القمع البعثي الدموي تتوالى من موجة 1970-1972 الى موجة 1974 التي انتهت باعدام عارف البصري وعزالدين القبنجي وعماد الدين الطباطبائي ونوري طعمه (13 نوفمبر 1974) واعتقال محمود الهاشمي (الشهرودي لاحقاً : رئيس القضاء الايراني حالياً)..في تلك الايام كان الامام الخميني منفياً في النجف وعلى صلة طيبة بالنظام العراقي الامر الذي أدى الى الجفاء لا بل العداء بينه وبين العراقيين..وبدءاً من العام 1975 أعاد هادي السبيتي تشكيل الحزب في حين فر العشرات الى الخارج ومنهم اللبنانيون (صبحي الطفيلي وعلي الكوراني وحسن ملك وعبد المنعم مهنا) والذين بقوا في النجف التفوا حول السيد الصدر (علي الامين،حسن طراد،محمد جعفر شمس الدين،عباس الموسوي…)ومع تصاعد الخلاف داخل الدعوة انعقد مؤتمر عام عٌرف باسم مؤتمر مكة (موسم الحج 1977) لم يحضره السبيتي وجماعته وسيطر عليه الثنائي كاظم الحائري (ايران) ومهدي الآصفي (الكويت)..حاول مرتضى العسكري حل الخلاف موسطاً فضل الله والكوراني..وقد اتهم حزب الدعوة كلاً من محمد باقر الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد باقر الحكيم بانهم يتصلون بالكوادر ويحاولون شق الحزب..في حين قررت لجنة العراق في الدعوة (مهدي عبد مهدي) الالتزام بقرار المرجع الصدر..وبحسب صدر الدين القبنجي فان الاختلاف كان كبيراً بين رؤية الصدر ورؤية الدعوة للمرحلة..ذلك ان حزب الدعوة بنى استراتيجية عمله على اساس المرحلية مقسماً مراحل العمل الى اربع رئيسية هي الثقافية (الدعوة وتغيير الافكار) فالسياسية (الصراع السياسي مع الحكم) فالثورية (السيادة السياسية) ثم مرحلة الحكم وبناء الدولة وتصدير الافكار…لذا فان الحزب لم يكن يتبع تحديد المرجعية للمرحلة ومهماتها وانما يتبع نظريته هو حتى حين كانت المرجعية تقود المواجهة الكبرى (ايام الحكيم ثم الصدر كمثال)..غير أن أخطر مظاهر الخلاف يتعلق باختراق الحزب لوكلاء المرجعية (جاء في مجلة الجهاد الناطقة بلسان الحزب في ايران-العدد 12-كانون الاول 1983) ان 80% من وكلاء الصدر عام 1980 كانوا من الدعوة..غير ان الوضع كله تغير مع انتصار الثورة في ايران..تصاعدت المقاومة الشعبية في العراق وتصاعد معها القمع الدموي الذي لم يكن له مثيل في التاريخ المعاصر..فكان اعتقال السيد باقر الصدر (12-6-1979) شرارة انتفاضة 17 رجب التي قمعت بالحديد والنار..أعدم البعث 86 قيادياً معظمهم من وكلاء الصدر وحكم بالسجن المؤبد على 200 وبالسجن مدداً متفاوتة على 814..وبلغ عدد المعتقلين عدة آلاف استشهد الكثيرون منهم تحت التعذيب..وفي 16 تموز 1979 اقال صدام حسين أحمد حسن البكر وقام باعتقالات واسعة في صفوف قيادات وكوادر البعث لحقتها اعدامات شملت 5 وزراء و21 قيادياً بعثياً (غالبيتهم الساحقة من الشيعة)…عن تلك الايام القاسية الدامية خرج حزب الدعوة بتحليل قال فيه ان “تحرك رجب كان تحركاً محدوداً لم تنزل الدعوة فيه كل طاقتها ولم تستنزف كل امكانياتها وهذا نابع من طبيعة المرحلة .وكان عدم انزال كل قوتنا تصرفاً حكيماً وصحيحاً لأن المخزون من طاقتنا ينفعنا ليوم آخر،يوم الحسم”(ثقافة الدعوة الاسلامية،الجزء الرابع،ص 338).غير ان ما يراه الدعوة تصرفاً حكيماً كان بالنسبة للصدر والحكيم خيانة ثانية للمرجعية وللناس بعد الخيانة الاولى في انتفاضة عام 1969…بعد ذلك صعد نجم الثورة الايرانية وجرى اغتيال السيد باقر الصدر وشقيقته بنت الهدى (نيسان 1980)..وتصاعد الصراع المسلح بين البعث والدعوة في بيروت والكويت (محاولة اغتيال الكوراني ،اغتيال شري،اغتيال السيد حسن الشيرازي من الشيرازيين ومنظمة العمل الاسلامي، في بيروت،واغتيال عبد المنعم الشوكي في الكويت..الخ..) قرر الحزب نقل قيادته ومعظم كوادره الى ايران..انتقل الكوراني والآصفي في حين رفض السبيتي القرار ودفع حياته ثمناً لذلك (هو حفيد السيد عبد الحسين شرف الدين،قال يومها انه لم يتعود العيش الا من كد يمينه،وانه لا يجيد اللغة الفارسية..اعتقل في الاردن 9 أيار 1981 وجرى تسليمه الى صدام حسين ليقتله)..وقررت لجنة العراق بقيادة عبد الامير منصوري وحسن شبر الارتباط بالسبيتي وقطع صلتها بالآصفي..وفي ايران اسس الحزب لجنة جهادية بقيادة مهدي عبد مهدي وصبحي الطفيلي وفخري مشكور وعينت حسين كوراني ضابط اتصال بالحرس الثوري الايراني…وصار الحزب بأجنحته تحت قيادة اسمية لا تجتمع ضمت السبيتي والآصفي والعسكري والحائري والكوراني..وبعد اعدام السيد الصدر انهار تنظيم بغداد..فدعا كوادر الحزب الى مؤتمر انعقد في طهران أواخر عام 1980 وعرف باسم مؤتمر القواعد وحضره 72 كادرا وشكل لجنة من 9 للتحكيم بين جناحي القيادة..رفض السبيتي والكوراني وكوادر البصرة مؤتمر طهران وانتخاباته وتلا ذلك اعتزال مرتضى العسكري للعمل الحزبي، في حين واصل جماعة طهران اعادة التنظيم بقيادة ضمت الآصفي (ناطقاً باسم الحزب) والحائري (فقيهاً للحزب)..أعدت القيادة الجديدة لمؤتمر عرف باسم مؤتمر الشهيد الصدر (1981-طهران) شارك فيه من لبنان صبحي الطفيلي ومحمد رعد ونعيم قاسم (ذكر لي أحد الحضور انهم لم يتكلموا ابدا في المؤتمر)وانسحب الكوراني نهائياً من الحزب (اصدر كتابه الشهير “طريقة عمل حزب الله”)..واستمر الصراع الداخلي حول ولاية الفقيه فعقد الحزب مؤتمراً جديداً في 1984 ليعيد العمل بمنصب فقيه الحزب وقرر تعيين الحائري مجدداً .. الا ان القيادة المدنية ظلت تسحب البساط من تحت أرجل الفقهاء فقرر الحائري والآصفي الانسحاب والتفرغ للمرجعية مع تبنيهما لولاية الفقيه..الا ان الحزب قرر استعادتهما وتشكيل مجلس فقهي ضمهما الى جانب الشيخ محمد علي التسخيري (أحد كبار مستشاري الخامنئي حالياً وخصوصاً في قضايا العلاقة مع أهل السنة)على أن يكون الحائري فقيه الدعوة.. وكانت القيادة المدنية تريد المجلس الفقهي مرجعية تقليد لا ولاية أمر.. وحاول الحائري والآصفي خلال العام 1985 ربط الحزب بالقيادة الايرانية مباشرة (بعد الاعلان عن تشكيل حزب الله اللبناني على اساس ولاية الفقيه)..ولكن الصراع م يتوقف.. وحين اصدر الامام الخميني قراره بتعطيل اعمال الحزب الجمهوري (10 حزيران 1987) انسحب الشيخ التسخيري من المجلس الفقهي في حين كان الحائري والآصفي يقودان حملة لتعزيز ولاية الفقيه ويدعوان الى حل الحزب اسوة بما حصل في لبنان..وفي مطلع عام 1988 انعقد مؤتمر الحوراء زينب وانتصر فيه خط ولاية الفقيه اذ قرر المؤتمر “ان الحزب جزء من الامة وهو مرتبط بالولاية العامة شأنه في ذلك شأن بقية ابناء الامة ويسري عليه ما يسري على كافة قطاعاتها”.ولم بنته الصراع..ففي العام 1989 أعلن عدد من قادة الحزب انشقاقهم معتبرين ان الحزب ما يزال منفصلاً عن القيادة الشرعية وانه يعتبر نفسه بديلاً عنها وان فقيه الدعوة الخفي هو السيد فضل الله رغم تأكيد هذا الاخير انه ترك الحزب منذ 1982 بسبب عدم اختياره فقيهاً للحزب يومذاك..وتسمى المنشقون باسم تنظيم الدعوة-ولاية الفقيه وتفرغ الحائري للعمل لمرجعيته واستمر الآصفي في قيادة الحزب(ناطقاً رسمياً) ممثلاً الاتجاه الايراني في مقابل الباقين الذين التفوا حول فضل الله..
في العام 1989 توفي الامام الخميني..يومها قرر الايرانيون تولية الخامنئي ولياً لامور المسلمين دون ان يكون مرجعاً للتقليد..واعتبروا ان السيد الآراكي هو مرجع التقليد..وبين الاعوام 1990-1991(حرب العراق الاولى) و2003 (حرب العراق الثانية) هاجر مئات الكوادر من العراق والدول العربية الى بريطانيا وانخرطوا هناك في العمل السياسي الديمقراطي وسط الجالية العراقية التي يصل تعدادها الى أكثر من مليون..وارتبطوا بعلاقات مع قوى عربية ودولية.. تمخضت التحولات الكبرى بعد وفاة الخميني وحرب العراق الاولى عن قرار للدعوة انها في حل من التزامها بقيادة الخميني الذي كانت نصت على ولايته بالاسم في نظامها الداخلي..والغى الحزب منصب الناطق الرسمي واستبدلته بثلاثة ناطقين:ايران (علي الاديب) وواحد في بريطانيا عن اقليم اوروبا (ابراهيم الجعفري) وواحد في سوريا عن اقليم الشرق الاوسط (نوري المالكي)..
وفي العام 1992 توفي المرجع الخوئي، وفي آخر العام 1993 توفي المرجع السيد الكلبايكاني.. وبعده بقليل توفي المرجع السيد السبزواري .. وتلاهم مرجع ايران بعد الخميني الشيخ الآراكي (1994).. حينها قرر الخامنئي طرح نفسه كمرجع وهو الذي انتخب ولياً لأمر المسلمين دون أن يكون مجتهداً ومرجعاً .. إثر ذلك عيّنت جمعية مدرسي حوزة قم سبعة مراجع للتقليد بينهم الخامنئي دون محمد
حسين فضل الله.واعلن الحائري اعتزاله حزب الدعوة وطرح مرجعيته على الناس،وأعلن الآصفي التزامه قيادة الخامنئي وولايته، في حين أعلن فضل الله تصديه لمنصب المرجعية..واختاره حزب الدعوة مرجعاً له وفقيهاً معتمداً..ثم قرر الحزب تبني رأي فضل الله حول تعدد الولاية :”فكما يمكن ان يكون للامام (المهدي) في حال حضوره أن يحكم عدة اقاليم وله في كل منها نائب فانه يمكن كذلك ان يكون له في حال غيبته عدة نواب ايضاً…فالأصل في الولاية النائبة عن الامام (المهدي) تعدد الولي الا اذا كانت هناك مصلحة اسلامية عليا تفرض وحدته وكانت الوحدة واقعية”(صدرت الفتوى في 13-9-1998)..
ومنذ 2003 صار الدعوة عدة خطوط: خط الحائري، وخط الآصفي، وخط الجعفري، وخط المالكي، وخط البصرة (جماعة السبيتي)، وخط هاشم ناصر محمود، وخط خضير موسى جعفر، وخط موفق الربيعي، ناهيك عن الخطوط التي التحقت بحركة مقتدى الصدر أو بحزب الفضيلة أو بمرجعية السيد حسين الصدر أو بمرجعية وخط محمد حسين فضل الله…
وهنا لا بد من التوقف عند دور الدعوة في لبنان….
مع عودة فضل الله الى لبنان العام 1966 شرع في العمل على بناء كوادر وخلايا لحزب الدعوة..فكانت أسرة التآخي ومجلتها “الحكمة”، وكان الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين ومجلته “المنطلق” ..وأبرز من تخرج من الاتحاد محمد رعد ونعيم قاسم وهاني قاسم ومحمود قماطي وحسن حدرج (من حزب التحرير) ومحمد سعيد الخنسا .. ومن جيل لاحق علي فياض وقاسم قصير ونواف الموسوي وحسان عبد الله. وكان فضل الله متأثراً بتقي الدين النبهاني وبسيد قطب (لاحظ تفسيره للقرآن بعنوان من وحي القرآن تيمناً بظلال سيد) كما بنظرية او مبدأ القوة..وقد نشر فضل الله كتابه “منطق القوة في الاسلام”عام 1967 واستمر على ترداد مفهوم منطق القوة كما يظهر ذلك بوضوح في مقاله عن الشهيد باقر الصدر في جريدة العهد، العدد 42 ،22 رجب 1405-1985،بعنوان “لأنك قوة”..ونقل السيد حسن نصرالله عنه هذا المفهوم (راجع محاضرته في الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين بعنوان “التعبئة الثورية في عملية التغيير”،النهار في 27-1-1986)..وفي العام 1978 حمل الشهيد حسن شري فتوى الى الحركيين الاسلاميين (من دعوة وغيرها) بوجوب الانضمام الى حركة أمل والعمل من داخلها بعد اختطاف السيد موسى الصدر..
وكانت الضربات البعثية للدعوة في العراق تؤدي الى هجرة العديد من الكوادر الى لبنان..ففي السنوات 1975-1977 جاء الى لبنان عدد كبير من المشايخ الذين كانوا من تلامذة السيد محمد باقر الصدر ومن اعضاء حزب الدعوة..من علي الكوراني وعلي الامين ،الى صبحي الطفيلي وعبد المنعم مهنا وحسن ملك ، ومن عباس الموسوي و حسن طراد وجعفر شمس الدين الى عفيف النابلسي وحسين الكوراني…وحملوا معهم صراعات القوى والمحاور داخل حزب الدعوة..وقد جاء غيرهم واحتموا بعباءة السيد موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين وانتشروا في قرى النميرية-الشرقية-الدوير-جبشيت-عبا-القصيبة-وكفرتبنيت..الخ..وحصلوا على اذونات رسمية من المجلس الشيعي للعمل كمدرسين لمادة التربية الدينية في مدارس الجنوب والبقاع..(على سبيل المثال أقام الشيخ حسن ملك في كفرتبنيت والشيخ حسين كوراني في الشرقية وعلي الامين في حي السلم..في حين عاد هاني فحص ومحمد حسن الامين يحملان وعياً عروبياً يسارياً وثورياً….واسس عبد المنعم مهنا حوزة في صديقين،وعلي الامين حوزة في حي السلم..واسس حسين سرور وعلي ياسين واسعد فنيش حوزة صور، وعلي العفي ومحمد يزبك حوزة بعلبك،وهؤلاء كانوا مع عباس الموسوي من طلبة السيد باقر الصدر..اما راغب حرب فهو درس في النجف (1967-1977 وعاد الى لبنان ليعمل مع الشيخ شمس الدين في منطقة النبطية ويؤسس ويتولى مبرة السيدة زينب في جبشيت..وفي الغبيري سكن الشيخ حسن طراد والشيخ علي الكوراني (مسجد الغبيري) والشيخ حسن عواد (مسجد الشياح)..وهرب حسن ملك الى قم (1978) بعد محاولة اغتيال بعثية (كفرتبنيت كانت معقلاً للشيوعيين واليسار ومعادية لحركة المشايخ)..وعاد ملك الى الشياح عام 1980 بحماية حركة فتح التي أمنت الحماية للعشرات من قادة وكوادر حركة المحرومين (من بينهم النائب علي عمار)..يقول حسن ملك لوضاح شرارة (دولة حزب الله ص109و118) انه درب خلال الاعوام 1975-1980 حوالي 700 شاب شيعي عراقي ولبناني من حزب الدعوة في معسكرات حركة فتح..
أدى اجتياح 1978 واحتلال جزء من ارض الجنوب إلى نشوء وضع جديد..فالى جانب التحرك السياسي سارع الإمام الصدر (والشهيد مصطفى شمران) إلى تمتين العلاقات التي نشأت مع لبنانيي حركة فتح في الجنوب، والى احتضان التعبيرات اللبنانية المرتبطة بالثورة الفلسطينية وذلك في مقابل عمل عشرات الايرانيين من أنصار الخميني ممن وفدوا مبكراً الى لبنان واقاموا في قواعد حركة فتح وأقاموا علاقات مع أجهزتها الامنية ..
عن هذه المرحلة يروي الشيخ رفسنجاني وقائع زيارته إلى لبنان في مطلع الحرب الأهلية(1975) فيقول ما حرفيته:”في لبنان كانت الحرية أمراً لافتاً…كنت أعرف السيد موسى الصدر من قبل فقد قرأت عليه جزءاً من المطوّل(أي أنه تتلمذ عليه في قم)…الشهيد محمد منتظري (ابن الشيخ حسين علي وكان يومها زعيم التيار الراديكالي في حركة الخميني) كان على معرفة وثيقة بالقوى المناضلة والفاعلة في لبنان كلها…مباحثاتي كان لها تأثير في تعديل بعض المواقف ووجهات النظر المتطرفة(التي كان يحملها الإيرانيون الملتحقون بالثورة الفلسطينية مثل الشهيد منتظري والشهيد محمد صالح الحسيني وجلال الدين الفارسي ومحسن رفيق دوست ومحتشمي وغيرهم)…. وكان أنصار الإمام وعلى رأسهم ابنه المرحوم السيد مصطفى في نزاع مع السيد موسى مصدره الأصلي والوحيد مسألة المرجعية..إذ لم يعلن السيد الصدر تأييده لمرجعية الخميني… كان الشبان الإيرانيون في لبنان يريدون أن يأخذ السيد موسى موقفاً صريحاً.. وكانت لهم خطب لاذعة وبيانات ..ذهبت لمقابلة الإمام الخميني في النجف وللتقريب بينه وبين السيد موسى الصدر..”(من كتاب رفسنجاني:حياتي،الصفحات170 إلى 176).
حزب الله والمقاومة الإسلامية
كانت الحالة اللبنانية التي ولدت في الجنوب حول الكتيبة الطلابية وأفواج المقاومة اللبنانية (وقد وصفها الشهيد مصطفى شمران في كتابه التاريخي التوثيقي: شيعة لبنان) السباقة إلى التضامن مع طروحات الإمام الخميني في منفاه في النجف ومع اندلاع ثورة العصر في إيران…. ثم ابتدأ عصر الإسلام السياسي الجديد مع اللجان الإسلامية والشباب المؤمن والاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين ومجلة المنطلق (واجهات الدعوة)، ولجان العمل الإسلامي (خليط مرتبط بمنظمة العمل الاسلامي الشيرازية وبعض المستقلين من مشايخ اليسار المرتبطين بحركة فتح)، وأنصار الثورة الإسلامية (تيار منتظري والحرس الثوري لاحقاً وقد كانوا مرتبطين بحركة فتح)… وكلها شكلت لاحقا إلى جانب المنشقين عن حركة أمل (السيد إبراهيم أمين السيد ممثل امل في طهران، السيد حسين الموسوي رئيس هيئتها التنفيذية ومنافس بري على القيادة، السيد حسن نصر الله مسؤول الحركة في البقاع، وهم بالمناسبة من متسللي حزب الدعوة الى داخل حركة أمل وكان رئيسهم الفعلي حسن شري الذي قتله البعثيون في بيروت) الروافد التأسيسية التي صبّت جميعها في نهر حزب الله والمقاومة الإسلامية..
خطف الإمام الصدر، وانتصار الثورة في إيران، أديا إلى تفاعلات حتمية ادت إلى التحاق أعداد كبيرة من الشباب المقاوم بالجو الإسلامي الشيعي بعد 1979 (وتبوأ العديد منهم مراكز قيادية لاحقا كما أن العشرات أيضا استشهدوا وهم يقودون قوات وعمليات من المقاومة الإسلامية).وفي نفس المرحلة كان الصراع الداخلي بين حركة أمل وأحزاب اليسار اللبناني والفلسطيني (نتيجة الدور الليبي في اختطاف السيد موسى الصدر والدور اليساري في الارتباط بالعراق بعد اغتيال الشهيد السيد محمد باقر الصدر) قد وصل إلى ذروته العنيفة ما سمح لحزب الدعوة (الشديد المركزية والتنظيم الأمني المحكم) بالإمساك بالمواقع الأمنية والعسكرية داخل حركة أمل و بقيادة عملية الصراع هذه.ولا توجد دراسات موثقة حول دور حزب الدعوة في لبنان قبل تشكيل حزب الله إلا أن الأكيد أن كوادره عملت من داخل ومن خارج حركة أمل (وابرزهم الشهيد حسن شري)، كما من داخل ومن خارج حركة فتح الفلسطينية (وابرزهم الشهيد عماد مغنية).وأخيرا جاء اجتياح صيف 1982 ليطوي صفحة الوجود الفلسطيني المسلح في جنوب لبنان وليفتح صفحة التموضع الشيعي مع الحرس الثوري في البقاع..
صحيح أن حزب الدعوة حل نفسه وانخرط في تشكيلة حزب الله (صبحي الطفيلي،محمد رعد، نعيم قاسم، علي كوراني،حسين كوراني ،محمد حسين فضل الله،محمد سعيد الخنسا،محمود قماطي ،حسن حدرج)الا أن الصحيح أكثر ان من دخلوا حزب الله دخلوه فرادى مفككين مختلفين بسبب صراعات الحزب في العراق وسوريا والخليج ولندن..فبعد اغتيال هادي السبيتي في الاردن انفرط عقد الدعوة في لبنان.. ولم يترك الايرانيون الأمر للصدف او العواطف..فمنذ العام 1979 بدأوا بتأطير القوى اللبنانية التي كانت تؤيدهم ومن ضمنها حزب الدعوة المنفرط..وخلال 3 سنوات ركز الايرانيون على دعوة القيادات الدينية والمدنية الشيعية الى طهران وهناك كانت الحوارات والنقاشات والصراعات تدور حول الحركة الاسلامية المطلوب تاسيسها في لبنان..وقد شكلوا عدة تجمعات لرجال الدين (تجمع علماء البقاع، وتجمع علماء جبل عامل،وتجمع العلماء المسلمبن، ومعها الحوزات الدينية ومدارس الكوادر ..وبعد اجتياح 1982 عملت قيادة الحرس الثوري في بعلبك طوال 3 سنوات (مركز عشاق الشهادة)على تفكيك واعادة تركيب كل العلاقات الشيعية بما فيها حزب الدعوة الذي صار شيعاً وجماعات متفرقة ترتبط كلها بايران..فقد استطاع الايرانيون السيطرة على المجال العام عبر الاذاعة(صوت المستضعفين)والجريدة(العهد)والمجلة(الوحدة الاسلامية)وخطب الجمعة والمسيرات واليافطات والملصقات والمنشورات والزيارات المنظمة الى السيدة زينب في دمشق والى المقامات في ايران…كما سيطروا على غالبية المساجد والحسينيات في لبنان وعينوا رجال دين لها،وعملوا على اختيار شباب للدراسة في الحوزات في ايران،وتنظيم معسكرات التعبئة والتدريب،وتقديم الخدمات المجانية مثل الطبابة والاستشفاء والوقود وغيرها..وانشاء المدارس والمعاهد،والسيطرة على التعليم الديني في كل المدارس، والسيطرة على اوقاف الشيعة….وقاموا بالتنسيق مع قوات فتح في البقاع بالعمليات العسكرية الكبرى للمقاومة اللبنانية وتحت اسماء متعددة (حركة ابناء جبل عامل،العادلون،حزب الله،الشباب المؤمن)..وحين تشكلت لجنة قيادة حزب الله من 9 كان من الطبيعي ان تضم عباس الموسوي وصبحي الطفيلي وحسين كوراني وحسن نصرالله ومحمد يزبك وحسين الموسوي وابراهيم امين السيد وعفيف النابلسي ومحمد رعد..ثم قلصت الى 7 ،لتستقر في العام 1984 على خمسة وفي 1985 تعود الى سبعة (عباس الموسوي،صبحي الطفيلي،ابراهيم امين السيد،حسن نصرالله،حسين الموسوي،نعيم قاسم،محمد رعد)..كانت النسب التمثيلية تعكس كل التجمعات السالفة الذكر ولكن الحصة الاكبر فيها كانت من نصيب بقايا الدعوة…وكان الجامع بينها كلها هو الالتزام بولاية الفقيه.. ووصاية السفير الايراني في دمشق يومذاك علي اكبر محتشمي بور ثم حسين اختري..
في العام 1989 انتخب صبحي الطفيلي أميناً عاماً للحزب..وخرج السيد حسن نصرالله الى قم للدراسة..وفي 1991 ازيح صبحي الطفيلي عن منصب الامين العام وانتخب عباس الموسوي محله..الا انه اغتيل في شباط 1992 ليحل محله حسن نصرالله الذي استقدم على عجل من قم ..
وتعكس هذه التغيرات تغيرات كبرى في ايران (وفاة الخميني،تحالف خامنئي-رفسنجاني-احمد الخميني في وجه جماعة خط الامام وممثلهم الاول محتشمي مؤسس حزب الله وصديق الطفيلي…انتصار خط خامنئي-رفسنجاني واسقاط محتشمي وكل تياره من السلطة.)..اذن جاء حسن نصرالله كممثل لخط خامنئي منذ ذلك الحين وهو لما يزل…اما الدعوة فلم يعد حزباً واحداً ولا تياراً متجانساً ولذلك يصعب الحديث عنه داخل حزب الله وانما يتوجب الحديث عن اشخاص يرتبطون بمراكز قوى في ايران ليس الا..
mawsaoud@hotmail.com
* جامعي وكاتب لبناني
حزب الدعوة بين العراق ولبنان 1) هذا العرض يثبت ان “الاسلام السياسي” السني والشيعي ذو مصدرية واحدة وجذر واحد , وان الانقسام والتشرذم المتفشي والمتسارع الآن داخل المجتمعات التي اسسها الاسلام وتأسس بها هو خطيئة المؤسسين والقائمين على “الاسلام السياسي” وليس خطأ المتناحرين على امتداد العالم الاسلامي طمعا في جنة وهمية وارضاء لاله هو ليس الله الذي دعا محمد (ص) العرب والمسيحيين واليهود للتعايش في ظل توحيده , ففخري بوطني العربي مهد الديانات السماوية لم ينحصر وجوده الراسخ في العقل والوجدان بل تم سحقه في نفوس الجيل القائم والقادم والانقلاب عليه .. لم يتهدد أمن واستقرار ووجود ومبدأ التعايش في… قراءة المزيد ..