في رواية “مطر حزيران” (الصادرة ترجمتها الفرنسية عن دار “أكت سود” الفرنسية)، يسرد جبور الدويهي بطريقة باهرة الموجة الصادمة للثأر الجماعي.
هل أشار المطر السماوي الى بداية حمّام الدم أم هل غَسل القتلة؟ هل كانت (الشتوة) علامة استباقية على ثأر البشر كما في التراجيديا اليونانية، أم هل كانت تعبيراً عن غضب الله الذي سعى الى التفريق بين المتقاتلين؟ صحافيو تلك الفترة وشخصيات اليوم ما زالوا يتساءلون…
الأحداث تدور حول عملية ثأر سياسي بين عائلات مسيحية ارتكب في جوار وداخل كنيسة إحدى القرى في شمال لبنان، في حزيران من العام 1957: أكثر من مئة قتيل وجريح حُصدوا كسنابل القمح الناضج، سقطوا بنيران أطلقت عليهم من الخلف، من قبل رماة كامنين… انطلاقاً من حدث تاريخي حقيقي وإذ يقف الى جوار الفجوة المفتوحة في نفوس الأهل كالناظر الى مقبرة جماعية، يبني الروائي اللبناني جبور الدويهي رواية قوية متشكّلة من عدة أصوات وينسج بمهارة خيوط الذاكرة الطفولية وتحقيق الرجل البالغ.
ينوّع الكاتب بؤر النظر تبعاً للفصول في تداول لروايات الطفولة على لسان أبناء القتلى ورفاقهم الصغار، سرد يعبق بالحنين، مع ألم الأرامل المنهارات والشهادات النادرة للناجين والتي جُمعت بعد مرور وقت طويل على الأحداث. صراخ النساء وصمت الرجال. الحزن المحجور عليه حيّاً والتكتم على ما حصل الذي يقتل مرة ثانية: قد يعتقد المرء أن ذلك يحدث في صقليّة أو في كورسيكا.
يجمع الروائي بين النفس التاريخي والتنفس الأكثر حميمية للمتخيَّل ليجعل من هذه المذبحة تمريناً عاماً على الحروب الأهلية التي ما انفكت تدمي البلاد في السنوات اللاحقة، ويوفّر هكذا مفتاحاً للفهم أمام القارئ غير المطّلع على هذا التاريخ.
على غرار المطبخ اللبناني المرهف الذوق، يحشو الكاتب (والمترجم والناقد في ملحق “لوريان ليتيرير” الأدبي باللغة الفرنسية والاستاذ في الجامعة اللبنانية في طرابلس) روايته بمقاطع لذيذة الطعم يقلّد فيها التغطية الصحافية والإضاءآت السوسيولوجية أو اللغوية حول مختلف الفئات الاجتماعية وحول تمجيد “الذكورة” وأهمية المسدس الفردي ـ الكولت عيار 9 أو الهرستال عيار 14 ـ والكلمات العربية التي توصّفه… أو حول مكانة اللغة الفرنسية في تلك الفترة.
في وسط هذه الرواية يقف ايليا الذي حملت به أمه يوم المذبحة من أب اغتيل بعد ساعات. فكبر كولد مثير للرأفة، يلبس النظارات ويخوض غمار العراك من دون قوة، فهو مطوّق باهتمام والدته، الأرملة الشابة، كاملة، التي انتظرت طويلاً وصلّت كثيراً أملاً بمجيئه… أبعدته عن زعران “حارة العصابة” الصغار بأن أرسلته الى المدرسة الداخلية في بيروت ومنها الى نيويورك. ومثل “عوليس” حديث، ضاعف هذا الرجل “صاحب الألف حيلة” من هوياته وسيره الذاتية المتخيّلة بحسب من يتوجّه اليهن من الفتيات كغاوٍ مغرم بالبدايات، ليعود بعد عشرين عام الى بلدته “ايتاك” اللبنانية. هناك يجد والدته التي باتت عمياء البصر، هوميروس أكثر منها بينيلوب… “يبدو احيانا ان كاملة عاشت خفوت نظرها كما يتابع المتأمل الهادئ أفول الضوء في الغسق، بُعيد غياب الشمس…”.
كالعائد من العدم، من قارة أخرى، يسعى ايليا لاستيضاح سرّ موت والده، هذا المجهول، وهو يحمل بيده دفتر الملاحظات، يجول في البلدة ويستمع الى كبار السنّ… تضايقه أمه التي تحضّر له المآكل دون توقف، وهي تتلمّس ما تفعله أكثر مما تراه، فيهدد بالخروج للأكل في المطعم. ” يعرف الولد كيف يؤذي امه اذا اراد”. كاملة، الأرملة صاحبة الحزن العتيق، أم عمياء لكن ثاقبة الرؤية، تأخذ على ابنها العائد عدم طرح الأسئلة عليها… “سيؤلفون لك عني قصصا لا تخطر في بال أحد. جسمي لبّيس، يا ابني، القصص تلبق لي. هنالك اناس تليق بهم الاخبار وانا منهم”.
هل لبنان، وطن الكتابة، هو صورة الأب الغائب الذي يلهم السعي اليه أو صورة الأم التي “تليق” بها الأخبار؟ هذه الرواية المحفوفة بالجمل الطويلة التي تحفر في الذاكرة، والذي حظي بترجمة أدبية رائعة الى الفرنسية، يذخر بالمجابهات المقلقة وينتهي بتقديم الجواب.
لو كانار أنشينيه11 آب/أغسطس 2010
اندريه فونتين
(Jabbour Douaihy, Pluie de Juin , Actes Sud, Paris, 2010, 312 pages)
لقراءة النص بالفرنسية: إضغط على الصورة، ثم إضغط على zoom:
حرب لبنان الحميمة: “لو كانار أنشينه” الفرنسية حول “مطر حزيران” لجبور الدويهي m.samih afyouni — afyounim@hotmail.com في رواية “مطر حزيران”……يسرد جبور الدويهي بطريقة باهرة الموجة الصادمة للثأر الجماعي. ثار جماعي؟ ممن وضد من؟ موجة صادمة؟ من أين تاتي؟ باسلوب متميز ومن السطور الاولى اراد الكاتب ان يعطي شمولية جماعية للحادثة فبدأ السرد باسم الجماعة, جاعلا القارىء والشخصيات تتشارك الروءية: (اخبرونا في اليوم التالي.. تركونا ننام ليل الاحد غافلين.ص9) ليبدو ان الحادثة قدرت في الزمن اذ لا تفاصيل عن تحضيرات لثأر , بل اتت حادثة بما تحمله من قدرية وعبثية في الانتقاء : غير معروفة الاسباب ولكنها مسلم بها,وانتقت اناسا لم… قراءة المزيد ..