إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
قد تكون معاهدة السلام القائمة منذ فترة طويلة بين مصر وإسرائيل آمنة، لكن التوترات المتزايدة تهدد بإبطال سنوات من التقدم وصرف انتباه مصر عن هدفها الأكثر أهمية، وهو تأمين وقف إطلاق النار مع “حماس”.
في 27 أيار/مايو، فتحت القوات المصرية المتمركزة على حدود غزة النار على القوات الإسرائيلية المتواجدة في رفح، على خلفية “تضررها من المذبحة” التي كانت تحصل بنظر المصريين في المدينة، وفقاً لبعض التقارير. وأسفر تبادل إطلاق النار بين الجانبين عن مقتل جندي مصري. وفي حين أن مثل هذه الحوادث ليست الأولى من نوعها، إلّا أن المناوشات التي وقعت يوم الاثنين تشير إلى تحوّل كبير في العلاقات الثنائية. فبعد سنوات من العلاقات الودية، دفعت حرب غزة العلاقات المصرية الإسرائيلية مجدداً إلى الحضيض.
الأيام الخوالي الجميلة
يعود تحسن العلاقات بين البلدين إلى عام 2013، عندما دفع تمرد جهادي متنامٍ في شبه جزيرة سيناء القاهرة إلى طلب المساعدة من إسرائيل. وعلى وجه التحديد، طلب المصريون إدخال تعديلات على الملحق الأمني لمعاهدة السلام لعام 1979، بما يسمح لهم بنشرِ قوات ومعدات عسكرية كانت محظورة سابقاً في جميع أنحاء شبه الجزيرة. وتم إرسال الطلب عبر “القوة متعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء”، وهي المنظمة الدولية التي أنشئت لمراقبة الامتثال للجوانب العسكرية للمعاهدة. ولم توافق إسرائيل على ذلك فحسب، بل قدَّمت أيضاً الدعم الجوي والمعلومات الاستخبارية التي ساعدت مصر على احتواء التهديد ودَحرِه في النهاية.
ومن خلال تقديم هذه المساعدة الاستراتيجية وقبول تواجد ما يقرب من 66 ألف جندي مصري في سيناء، أي ثلاثة أضعاف العدد المسموح به في المعاهدة، غيرت إسرائيل ديناميكية العلاقة الثنائية. وفي عام 2019، أيّد الرئيس عبد الفتاح السيسي أحد المراسلين الذي أشار إلى أن حملة مكافحة الإرهاب كانت “أعمق وأوثق تعاون” على الإطلاق بين مصر وإسرائيل. وتعززت العلاقات أيضاً بفضل المساعدة الظاهرية التي قدّمتها القاهرة في حصار غزة في أعقاب سيطرة “حماس” العنيفة على القطاع عام 2007، – وهو الترتيب الذي دفع الحركة إلى اتهام مصر بـ”التعاون” مع ما يسمى بـ “الحصار” الإسرائيلي.
قائمة متزايدة من المُهَيِّجات الثُنائية بين البلدين
من المُؤسف أن الحرب الحالية في غزة أبطلت قدراً كبيراً من هذا التقدم. فبعد وقت قصير من هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، نظمت الحكومة المصرية احتجاجات على مستوى البلاد ضد إسرائيل. ثم، في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر، صرح السيسي أن “تهجير الفلسطينيين إلى مصر أو الأردن” يشكل “خطاً أحمر” بالنسبة إلى القاهرة، مما يعني أن إسرائيل ستعرّض معاهدة السلام للخطر إذا حاولت إجلاء المدنيين من غزة عبر الحدود أثناء عملياتها العسكرية.
وشكلت الأنفاق العابرة للحدود سبباً آخراً للاحتكاك الثنائي المتزايد. ففي كانون الثاني/يناير، ألمحت إسرائيل إلى أنها ستسيطر في النهاية على “محور صلاح الدين”، أو “محور فيلادلفيا”، وهو شريط ضيق من الأراضي يمتد على طول الحدود بين غزة ومصر– من أجل منع أي إعادة تسليح فلول “حماس” بعد الحرب عبر أنفاق التهريب في سيناء. ورداً على ذلك، رفضت القاهرة أي وجود إسرائيلي في المحور، مشيرةً إلى أن ذلك سيشكل انتهاكاً للالتزامات الأمنية المنصوص عليها في معاهدة السلام. وحذر أحد المسؤولين بشكل غير مباشر من أنه في حال استيلاء إسرائيل على المحور، فإن “مصر ستدافع عن أمنها القومي والقضية المركزية لفلسطين”.
وفي كانون الثاني/يناير، أشار مسؤول آخر إلى أن مصر “دمرت أكثر من 1500 نفق” على طول الحدود مع غزة على مر السنين، مما يجعل أي عمليات تهريب جديدة “مستحيلة”. وفي الواقع، من المعروف أن القوات المصرية قامت بإغراق الكثير من الأنفاق في عام 2015 لوقف التدفق الهائل للأسلحة بين المتمردين في سيناء و”حماس”. ولكن بعد دخول القوات الإسرائيلية رفح في وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت هذه القوات عن اكتشاف ما لا يقل عن خمسين نفقاً تصل إلى مصر. ولا شك في أن هذا الإفصاح يشكل مصدر إحراج للقاهرة. فبالنسبة للكثير من المراقبين، تؤكد هذه الأنفاق تواطؤ مصر، سواء من خلال الرشوة أو الإهمال، في تهريب الأسلحة التي مكنت “حماس” من تنفيذ هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.
وأصبحت المساعدة الإنسانية نقطة خلاف أخرى. فمنذ أشهر، تتبادل إسرائيل ومصر اللوم على التأخير الشديد في تسليم المساعدات إلى غزة، وبلغت هذه الاتهامات المتبادلة ذروتها عندما استولت إسرائيل على معبر رفح الحدودي في السابع من أيار/مايو. وبعد ذلك، رفضت القاهرة إرسال شاحنات المساعدات المصطفة على الحدود منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع، حيث أعلن أحد المسؤولين أنه “طالما بقيت القوات الإسرائيلية عند معبر رفح، فلن ترسل مصر شاحنة واحدة إلى رفح”. ووفقاً لمسؤول أمريكي كبير، “تمنع” مصر دخول المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة لأنها لا تريد “أن يُنظر إليها على أنها متواطئة مع احتلال إسرائيل للمعبر”.
وفي الأسبوع الماضي، رضخت القاهرة إلى حد ما وسمحت لشاحنات المساعدات بالعبور إلى إسرائيل واستخدام معبر كرم أبو سالم إلى الجنوب، لكنها تواصل منع الحركة عبر معبر رفح، الذي كان في السابق القناة الرئيسية للمساعدات الأجنبية. بعبارة أخرى، اختارت مصر التعبير عن استيائها من الهجوم على رفح من خلال استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح لدرجة أن بعض هذه المساعدات بدأ يتعفن، ومع ذلك لا تزال إسرائيل تتحمّل نصيب الأسد من اللوم الدولي عن الأزمة الإنسانية.
وفي غضون ذلك، أدت بعض الإجراءات الدبلوماسية التي اتخذتها القاهرة خلال الحرب إلى زيادة الاحتكاك الثنائي. وأبرز مثال على ذلك، انضمامها إلى جنوب أفريقيا في القضية التي رفعتها ضد إسرائيل في “محكمة العدل الدولية”، متهمةً شريكتها في السلام منذ فترة طويلة بارتكاب “إبادة جماعية” بحق الفلسطينيين.
وما زاد الطين بلة هو الكشف عن قيام مسؤول في المخابرات المصرية بتغيير البنود التي وافقت عليها إسرائيل لاقتراح وقف إطلاق النار في غزة، وذلك عند تقديم الاقتراح إلى “حماس” في وقت سابق من هذا الشهر. وسواء أكان هذا التغيير مقصوداً أو ناتجاً من عدم كفاءة، فقد أهدر فرصة تأجيل هجوم رفح ووقف الحرب مؤقتاً على الأقل، في حين قوّض ثقة إسرائيل في الوساطة المصرية. ونفت القاهرة من جهتها الخبر، إلا أن الضرر كان قد وقع.
توصيات في مجال السياسة العامة
مع اقتراب حرب غزة من شهرها التاسع، يبدو أن الاحتكاك بين القدس والقاهرة قد بلغ ذروته. ففي أوائل شهر أيار/مايو، بينما كانت المفاوضات التي جرت بوساطة مصرية مع “حماس” تنهار، قال مدير “وكالة الاستخبارات المركزية” الأمريكية ويليام بيرنز لإسرائيل وفقاً لبعض التقارير إنه إذا استمرت عمليات رفح، فـ”ستبطل مصر اتفاقية كامب ديفيد”. ونقلت تقارير أخرى عن مسؤولين مصريين قولهم إن القاهرة فكرت في سحب سفيرها.
وعلى الرغم من أن الحديث عن زوال اتفاقية السلام التي مضى عليها خمسة وأربعون عاماً هو سابق لأوانه، إلا أن تبادل إطلاق النار هذا الأسبوع والتدهور العام في العلاقات بين البلدين يثيران القلق. ولا يزال كلا البلدين يستفيدان بشكل كبير من معاهدة عام 1979، إذ لم يضطر الجيش الإسرائيلي إلى حشد قواته على طول الحدود مع عدوته السابقة منذ عقود، في حين تستفيد مصر من المشاركة والتمويل الأمريكيين على المدى الطويل اللذين يعودان إلى حد كبير إلى المعاهدة وما نتج عنها من تأييد إسرائيل لشريكتها في السلام. ومع ذلك، لا يزال الرأي العام مهماً في مصر ذات الطابع الاستبدادي، ومتعاطف للغاية مع الفلسطينيين وسلبي على نطاق واسع تجاه إسرائيل. ويتعرض السيسي أساساً لضغوط داخلية بسبب إدارته لاقتصاد ضعيف وبيعه مساحات شاسعة من الأراضي العامة لدول أجنبية، وقد يَعتبر بالتالي خفض العلاقات مع إسرائيل بمثابة صمام أمان مناسب لتفادي الانتقادات الداخلية.
وفي أغلب الاحتمالات، ستصمد معاهدة عام 1979 أمام حرب غزة بغض النظر عن هذه التطورات المثيرة للقلق. ومع ذلك، على واشنطن أن تفعل ما في وسعها في الوقت نفسه للحد من الضرر الذي يلحق بالعلاقات المصرية الإسرائيلية ومنع تصاعد التوترات بصورة أكثر. وعلى المدى القريب، يعني ذلك حث مصر على الحفاظ على انضباط أفضل في صفوف قواتها الأمنية. وعند انتهاء الحرب وتحسن العلاقات بين القاهرة والقدس، يجب على المسؤولين الأمريكيين تشجيع إسرائيل على بدء العمل مع “القوة متعددة الجنسيات والمراقبين في سيناء” ومصر للعودة إلى البنود الأصلية للمعاهدة المتعلقة بالانتشار العسكري في سيناء. وخلال أوقات عصيبة كهذه، من الحكمة تنفيذ فصل إلزامي للقوات لضمان السلام وراحة البال.
وربما الأهم من ذلك هو أنه يجب على إدارة بايدن أن تحث القاهرة على توجيه استيائها من إسرائيل نحو دبلوماسية أكثر إنتاجية بدلاً من تجميد المساعدات، ورفع القضايا أمام المحاكم، وتوجيه الاتهامات العلنية. فمع تعثر الوساطة القطرية الأخيرة، تتمتع مصر بفرصة فريدة بين الدول العربية للاضطلاع بدور دبلوماسي بنّاء في التوصل إلى وقف إطلاق النار الذي طال انتظاره، وتحرير الرهائن، والمساهمة في تحديد معالم “اليوم التالي” في غزة.
ديفيد شينكر هو زميل أقدم في برنامج الزمالة “توب” في معهد واشنطن ومدير “برنامج «ليندا وتوني روبين» حول السياسة العربية”، كما شغل سابقا منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى من عام 2019 إلى عام 2021.