المحلّل التركي سونر چاغاپتاي يعرض في المقال التالي أسباب “خوف” إردوغان وحزبه الإسلامي من لعب دور أكبر في سوريا. وينتهي إلى على واشنطن “أن تشجع تركيا على إقرار سياسة صريحة غير طائفية تجاه سوريا، لا سيما فيما يتعلق بالتطهير العرقي. وهذا يعني إدانة الأعمال الوحشية التي يقوم بها السنة والعلويون على حد سواء، فضلاً عن بذل جهود خاصة لإغاثة المدنيين العلويين وفتح أبواب تركيا أمام اللاجئين المنتمين لتلك الطائفة، والإعلان عن هذه المبادرات.”
وهذا اقتراح في محلّّه، ولكنه لا يقدّم ولا يؤخّر في مصير الأسد والثورة الشعبية ضده!
الكاتب التركي لا يعرف، ربما، ان قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية السورية من العلويين لا “يؤمنون” إلا بأميركا (أميركا وحدها، وليس بريطانيا أو فرنسا) لحمايتهم “شخصياً” من الملاحقات القضائية السورية والدولية إذا انشقوا عن النظام، وأن “الطائفة”، عموماً، تعرف أن الجيش التركي، إذا قدّمت تركيا ضمانات رسمية وقاطعة، قادر (لفترة إنتقالية قصيرة بعد سقوط النظام) على حماية “الجيب العلوي” من أي اجتياح أو أعمال ثأرية بعد سقوط الأسد. ولكن لعب دور مؤثّر يتطلب من إدارة أوباما أن تخرج من “عقدة أفغانستان والعراق”! ويتطلّب من حكومة إردوغان أن تلعب دوراً تاريخياً لإنقاذ سوريا من الحرب الأهلية بدل لعبتها “الإنتهازية” الحالية التي أمّنت لها (مثلاً) الحصول على صواريخ “باتريوت” أوروبية لحماية نفسها (!!) من بشّار الأسد!
الشفاف
*
رغم ابتعاد أنقرة الحاد عن بشار الأسد على مدار الحرب الأهلية في سوريا، إلا أن التعقيدات الداخلية حالت دون لعب تركيا دوراً قيادياً في الإطاحة به. فهناك العديد من العوامل الديموغرافية والسياسية والتاريخية الفريدة الفاعلة في محافظة “هاتاي” الحدودية التركية، الأمر الذي يزيد من مخاطر انتشار عدوى العنف الطائفي من البلد المجاور. إن كبح جماح هذا الاتجاه سوف يتطلب من واشنطن العمل بشكل وثيق مع أنقرة لإبعاد شبح المشاعر الطائفية عن سياستها تجاه سوريا.
هاتاي: بين تركيا وسوريا
محافظة “هاتاي” هي الأقصى بين محافظات تركيا في جنوب البلاد، وتقع بشكل اصبع بين سوريا والبحر الأبيض المتوسط. كما أنها فريدة من الناحية الديموغرافية، حيث تسكنها أكبر نسبة من العرب في البلاد (ما يقرب من ثلث سكان المحافظة البالغ عددهم 1.5 مليون شخص).
وكونها المحافظة الوحيدة التي انضمت إلى تركيا بعد تأسيسها عام 1923، تتفرد هاتاي من الناحية السياسية أيضاً. ففي عام 1921، وقّعت تركيا على “معاهدة أنقرة” مع فرنسا، التي كانت تسيطر على سوريا في ذلك الحين. وقد نصت المعاهدة على بقاء “هاتاي” — التي كانت تسمى آنذاك “سنجق الاسكندرونة” — ضمن حدود سوريا الفرنسية تحت نظام خاص. لكن تغير هذا الوضع في عام 1936 عندما انتهى الحكم الاستعماري الفرنسي في البلد المجاور، ومارست تركيا ضغوطاً على باريس من أجل استقلال “هاتاي”. وقد رضخت فرنسا لتلك الضغوط، رغبة منها في عدم تنفير أنقرة ودفعها إلى أحضان المحور الناشئ تحت قيادة النازيين — وحصلت المحافظة على الاستقلال عام 1938، وتم ضمها إلى تركيا عام 1939 (الصورة: دخول القوات التركية الى الإسكندرون في العام ١٩٣٩).
وبحلول ذلك التاريخ، كانت “هاتاي” قد تجنبت الحركة الكمالية القوية التي اجتاحت تركيا في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي نشرت وعياً قومياً وعملت على تأصيل اللغة التركية بين الجماعات غير التركية. ونتيجة لذلك لا يزال العرب في “هاتاي” يختلفون عن الجماعات العرقية الأخرى في أماكن أخرى من البلاد اليوم، حيث يحافظون على هوية عربية قوية ويواصلون التحدث بالعربية حتى في أوساط النخبة المتعلمة.
كما أن “هاتاي” هي المحافظة الوحيدة التي تعكس الانقسام العرقي الجوهري في سوريا. فبالإضافة إلى سكانها من ذوي الأصول التركية، فهي موطن للعرب العلويين (من نفس الأصول الدينية لنظام الأسد)، والعرب السنة، والأكراد، والشركس، والأرمن، والمسيحيين العرب. وعلاوة على ذلك، هناك روابط عائلية وقبلية تربط بين العلويين والسنة العرب في “هاتاي” والعلويين والسنة السوريين.
ونظراً لتاريخها وديموغرافيتها، تتعرض “هاتاي” للمستجدات في سوريا بصورة أكثر مباشرة من محافظات تركيا الأخرى. ولو أصبحت الحرب عبر الحدود تأخذ طابع المواجهات الصريحة بين السنة والعلويين، فإن إخوة كل منهما في “هاتاي” قد ينقلبون ضد بعضهم البعض، سواء من حيث تصعيد التوتر السياسي الحالي أو إثارة العنف داخل تركيا أو المشاركة في الحرب في سوريا.
لقد ظهرت مؤشرات تحذيرية لهذا الأمر على مدار شهور. على سبيل المثال، تقوم الجماعات العلوية المحلية — مثل “البرنامج ضد التدخل الإمبريالي في سوريا” — بتنظيم مسيرات مؤيدة للأسد لبعض الوقت — جرت أكبرها في أيلول/سبتمبر الماضي، وشارك فيها أكثر من عشرة آلاف شخص. وكما قال أحد العلويين خلال مقابلة مع قناة “الجزيرة”، “تحاول القوى الإمبريالية الغربية، جنباً إلى جنب مع الأنظمة التي يقودها السنة، الإطاحة بنظام شرعي في سوريا”. كما تحدثت بعض التقارير عن قيام توترات طفيفة بين اللاجئين السنة من سوريا والعلويين في محافظة “هاتاي”. كما يشكو رجال الأعمال العلويون وموظفي الخدمة المدنية من اللاجئين السوريين حيث يسألونهم عن هويتهم الطائفية، وهناك من يدّعي أن المهاجرين العرب السنة قد أعدوا لهم قوائم سوداء ويقومون بمضايقتهم.
هاتاي والمعارضة التركية
يتسم العلويون في “هاتاي” بطابع علماني قوي ومن ثم فإنهم يختلفون مع التوجه المحافظ — بل والإسلامي أحياناً — لـ«حزب العدالة والتنمية» الحاكم. ومعظمهم يدعم فصيل المعارضة الرئيسي في البلاد، وهو «حزب الشعب الجمهوري». وبعد أن بدأت أنقرة في توفير ملاذ آمن لجماعات المعارضة السورية والمتمردين المسلحين في خريف عام 2011، أصبح العلويون في “هاتاي” أكثر انتقاداً لسياسات «حزب العدالة والتنمية». كما أنهم لعبوا دوراً كبيراً لا يتناسب مع حجمهم في المسيرات المناهضة لـ«حزب العدالة والتنمية»، بما في ذلك مظاهرة جرت في 9 آذار/مارس جذبت ألفي شخص وكذلك أحتجاج في أواخر عام 2012 شارك فيها ما يقدر بثمانية آلاف متظاهر.
وينظر بعض العلويين في “هاتاي” إلى السُنّة السوريين الذين فروا إلى محافظتهم لا كلاجئين، بل كمتمردين كانوا قد قتلوا عائلاتهم في سوريا أو عرضوها للخطر. كما يصورهم آخرون على أنهم جهاديون يهددون العلويين على جانبي الحدود. على سبيل المثال، تحدث صاحب عمل مؤخراً عن سوري سأل صاحب محل في “هاتاي” إن كان من العلويين. وبعد علمه بأنه من العلويين، مضى السوري في حديثه قائلاً إن العلويين الأتراك سوف يلقون نفس مصير العلويين السوريين — وهذا يعني بإيجاز أن دورهم سوف يحين. وكان يتوجب على قوات الأمن التدخل لتفريق الشجار الذي تلا ذلك.
وقد اتخذت أنقرة خطوات للحد من هذه المظالم. فمنذ أيلول/سبتمبر، ابتعدت عن توطين أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في “هاتاي”، بنقلها العديد منهم إلى المحافظات الداخلية. واليوم، لم يتبق منهم في “هاتاي” سوى14,500 من بين261,000 لاجئ مسجل في البلاد. ورغم ذلك، لا يزال لدى أنقرة ما يدعوها للقلق، حيث من المرجح أن يسفر انتشار النزاع الطائفي في سوريا عن تدفق أعداد أكبر من اللاجئين إلى المحافظة، مما قد يؤدي بدوره إلى انفجار الأوضاع المحلية بين السنة والعلويين.
وفي غضون ذلك، فإن العلويين الأتراك — الذين يشكلون نحو 15 في المائة من سكان البلاد — قد يعقدون الأمور أيضاً. ورغم أنهم يتشابهون بالاسم مع العلويين السوريين ولكن ليست لديهم علاقات عائلية معهم، إلا أنهم يتسمون أيضاً بطابع علماني قوي، ويعارضون سياسة «حزب العدالة والتنمية» تجاه سوريا، ويدعمون «حزب الشعب الجمهوري» بقوة. فقد أشار استطلاع أجراه مؤخراً برلماني من «حزب الشعب الجمهوري»، هو صباحات أكيراز، إلى أن 83 في المائة من العلويين الأتراك والعلويين السوريين دعموا حزبه في انتخابات 2011. ولو حشد العلويون السوريون في “هاتاي” مسيرات أكثر قوة ضد سياسة الحكومة، فسوف يحذو حذوهم العلويون الأتراك بشكل شبه مؤكد.
ومن جانبه، تبنى «حزب الشعب الجمهوري» منذ فترة طويلة موقفاً مغايراً بشأن الحرب. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2011، أرسل الحزب وفداً عبر الحدود بدعوة من “الاتحاد النسائي السوري”. وبعد زيارته لدمشق وحماة واللاذقية لدراسة الأوضاع هناك، أعلن الوفد معارضته للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية السورية. ومؤخراً، زار نواب عن «حزب الشعب الجمهوري» الأسد في دمشق في أوائل آذار/مارس. وفي عمل من أعمال العلاقات العامة الجاذبة للأنظار، أضعفوا مكانة «حزب العدالة والتنمية» من خلال مزاعم بأن الشعب التركي “يرفض التدخل في سوريا ولا يريد شيئاً سوى قيام علاقات حسن الجوار” مع الأسد، وهو ما أجاب عليه الدكتاتور قائلاً: “أٌقدِّر موقف الشعب التركي والأحزاب السياسية التي تفضل الاستقرار في سوريا على عكس الحكومة التركية”.
هذا ويرجح أن يواصل الحزب معارضته القوية لسياسة «حزب العدالة والتنمية» تجاه سوريا. ففي مناقشة برلمانية مؤخراً، تبجح أحد مسؤولي «حزب الشعب الجمهوري» أوميت أوزكوموز ضد وزير الخارجية أحمد داود أوغلو حيث قال له “إن مزاعم ارتكاب الأسد لمجازر، ما هي إلا محض أكاذيب!”. إن موقف الحزب القوي حول هذه القضية يقوم جزئياً على موقفه المناهض للولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، وهو ما يقوده إلى المعارضة الفطرية للسياسات العسكرية الأمريكية (والعمليات العسكرية بشكل عام) لأسباب أيديولوجية. ولهذا السبب سوف يصبح الحزب أكثر عدوانية لو أقرت تركيا سياسة تعتمد على التدخل النشط أو إذا عملت مع واشنطن للوصول إلى نتائج مماثلة. إن القاعدة القوية من العلويين الأتراك التي يحظى بها «حزب الشعب الجمهوري» قد ترغمه على اتخاذ موقف أكثر تشدداً لو أثار النزاع السوري العداء بين العلويين الأتراك والحكومة.
دلالات لواشنطن
إن احتمال امتداد العنف من سوريا الى تركيا هو مجرد سبباً إضافياً يتوجب فيه على الولايات المتحدة أخذ زمام المبادرة بدلاً من انتظار لأنقرة. ينبغي على الولايات المتحدة في الوقت ذاته أن تشجع تركيا على إقرار سياسة صريحة غير طائفية تجاه سوريا، لا سيما فيما يتعلق بالتطهير العرقي. وهذا يعني إدانة الأعمال الوحشية التي يقوم بها السنة والعلويون على حد سواء، فضلاً عن بذل جهود خاصة لإغاثة المدنيين العلويين وفتح أبواب تركيا أمام اللاجئين المنتمين لتلك الطائفة، والإعلان عن هذه المبادرات. وهذا هو الطريق الوحيد لمنع أسوأ آثار الحرب من عبور الحدود بين البلدين.
سونر چاغاپتاي هو زميل باير فاميلي ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن