يتبنى ف. س. نايبول، الحائز على جائزة نوبل للآداب (2001) أفكارا يمكن تصنيفها دون عناء في خانة المركزية الأوروبية البيضاء. وفي هذا ما يجعل منه وسيلة إيضاح مغرية لكل من يريد التدليل على أفكار شائعة لفرانتز فانون عن أبناء المستعمرات، الذين تحوّلوا إلى ضحايا للكولونيالية مرتين: مرّة عندما تبنوا تحيّزات الرجل الأبيض إزاء شعوبهم ومجتمعاتهم، وفي المرّة الثانية (وهي نتيجة منطقية للأولى) عندما فقدوا هوياتهم الأصلية، ولم يتحوّلوا إلى بيض كاملين.
هذه نتيجة محزنة، بالتأكيد، خاصة في زمن انفجار الهويات، والهوس الأصلاني، وبفضلها فإن الاقتراب من نايبول يبدو محفوفا بالمخاطر، إلا إذا كان بهدف القذف والتشهير. ومع ذلك فإن كلامي عن نايبول لا يستهدف النيل منه، بل تأمل ما كتبه عن أحوال المسلمين في جنوب شرقي آسيا. ولا أجد غضاضة في القول إن بعض ملاحظاته تنم عن دقة في الملاحظة ونفاذ البصيرة، ناهيك، بطبيعة الحال، عن البلاغة وكفاءة السرد، واللغة الفاتنة.
وإلى كل ما سبق، لا أعتقد أن الهجنة مسألة سلبية. ومنظورا إليها من الشرفة العالية لمطلع ألفية وقرن جديدين، وبأثر رجعي على ضوء ما جلبه وهم الهويات الصافية من كوارث على البيض والسود معا، تبدو الهجنة أكثر تمثيلا لعالم اليوم من أيديولوجيا الأصالة.
ومن بين ملاحظات نايبول الكثيرة تحضرني عبارة يقول فيها إن الإسلام في تلك البلدان، أي في جنوب شرقي آسيا، يتصرّف “وكأنه ما يزال في مرحلة الدعوة”، أي يتجلى في سلوك أصحابه قلق البدايات، وحماسة الروّاد، رغم أن البداية كانت قبل 14 قرنا من الزمان، وهي فترة كافية، بما لها وما عليها، للطمأنينة بالمعنى التاريخي واللاهوتي، فقد انتصر وتكرّس، أنشأ دولا وإمبراطوريات، وأصبح ديانة لمئات الملايين من البشر. وبهذا المعنى لم يعد ما يسم البدايات من مشاعر القلق الوجودية مبررا.
والواقع أن هذه الملاحظة تنسحب على بلدان المنشأ نفسها، أي على البلدان العربية التي كانت الحاضنة الأولى والطبيعية، حتى في الجزيرة العربية يتضح في الوقت الحاضر قلق البدايات ممزوجا بحماسة الروّاد. وعلى الرغم من أن السعودية، مثلا، نشأت بفضل تحالف الحكّام والفقهاء، ولم تعرف بعد الدستور والقانون المدني والبرلمان والأحزاب، لكن أكثر الدعوات حماسة وتشددا تصدر من هناك. وهي دعوات يسهل العثور في ثناياها على إحساس عميق بالقلق، الذي تفشل في التقليل من فداحته حماسة غالبا ما توحي بسباق مع الزمن.
وقد وسمت تلك الحماسة، وما ينتابها من مشاعر قلق عميقة الظاهرة التي نسميها في الوقت الحاضر بالإسلام السياسي، والذي استمد بدوره الكثير من مرافعاته الأيديولوجية، ومصادره المالية، وكراهيته للأزمنة الحديثة، من الوهابية، ومن حركة الأخوان المسلمين، خاصة في زمن صراعها مع الناصرية، والحركات القومية في العالم العربي.
ولكي نفهم ملاحظة نايبول بطريقة صحيحة، فإن ما يعنيه بالإسلام الذي يتصرّف “وكأنه ما يزال في مرحلة الدعوة” يتمثل في ما أسميناه للتو الإسلام السياسي، الذي انتقل منذ أواسط السبعينيات من الهامش إلى المتن، وتحوّل إلى مصدر تهديد لدول قائمة ومجتمعات.
على أية حال، يمكن العثور على تجليات مختلفة للقلق وحماسة الروّاد في ردود الفعل “الإسلامية” المصاحبة للاستفتاء على مشروع قانون في سويسرا لمنع إنشاء المزيد من المآذن. صدرت حتى الآن ردود كثيرة عن مختلف أذرع وتنظيمات الإسلام السياسي ومن المؤكد أننا سنشهد ما لا يحصى من ردود الفعل (مقالات وخطب وتصريحات وبيانات ومقابلات) إلا أن مضمونها لن يتجاوز اللعب على، وإعادة إنتاج، مجموعة قليلة من المرافعات التقليدية، التي أصبحت قيد التداول في العقود الثلاثة الماضية. منها، وأهمها فكرة الضحية، ومفادها أن المسلمين يعانون من اضطهاد وعدوان الغرب المسيحي. ومنها فكرة النفاق، أي أن الغرب يكف عن كونه ديمقراطيا ومتسامحا كلما تعلّق الأمر بالمسلمين (وهي مرافعة حديثة خلافا للمرافعة التقليدية السابقة، وهي غالبا ما تكون مصحوبة بنوع من الورع الذاتي والصدمة والاستنكار). وغالبا ما يتم المزج بين هاتين الفكرتين عبر تنويعات لا حصر لها.
قبل التعليق على هذه المرافعات أود العودة إلى ملاحظة نايبول لأن فيها ما يُسهم في بناء الحقل الدلالي لقلق البدايات وحماسة الروّاد بطريقة تمكننا من العثور على مفاهيم جديدة لتحليل ظاهرة الإسلام السياسي نفسها.
ونقطة البدء، هنا، أن هذه الظاهرة كما يراها أصحابها، وخصومهم في حالات كثيرة، نشأت في سياق نقد ونقض للأيديولوجيات القومية والعلمانية استنادا إلى وجود قومية (أمة) إسلامية عابرة للحدود والتاريخ وأعلى شأنا من قوميات نشأت بحكم اللغة والعرق والثقافة والجغرافيا، مثل العربية، أو التركية، أو الإيرانية..الخ.
وانطلاقا من حقيقة أن لكل حركة قومية جغرافيا مقدسة، تمتزج فيها التهويمات التاريخية، والمصالح الذاتية، بأنصاف الحقائق، والمغالطات، فإن الطموح الرئيس لظاهرة الإسلام السياسي يتمثل في: أولا، استعادة جغرافيا المقدّس في العالم القديم (دار الإسلام)، التي فتتها القوميات الإثنية الناشئة، وقصمت ظهرها الدولة الحديثة، وثانيا، إعادة ترسيم الحدود بينها وبين جغرافيا المدّنس (دار الحرب)، التي شوّهتها الأزمنة الحديثة، وبددها التوّسع الكولونيالي، وأصبحت في زمن العولمة نوعا من البقايا الأركيولوجية القديمة.
وهي بهذا المعنى تخوض حربا على جبهتين: جبهة القوميات الإثنية والدول المحلية الحديثة، التي ينبغي القضاء عليها، أو توظيفها في خدمة الطموح الرئيس، وجبهة الغرب، الذي ينبغي إعادة تعريفه كعدو (لذا يتم استحضار وإحياء تعبيرات من نوع الكافر والذمي والمُشرك بعدما سقطت من التداول في القرن العشرين باعتبارها من مخلفات الماضي، ويتم تطبيقها ليس على الغرب وحسب وبل وعلى المسيحيين العرب أيضا، الذين يُراد لهم أن يكونوا ذميين بعدما كانوا في زمن الحركات الاستقلالية، والصعود القومي، وبناء الدولة الحديثة مواطنين وأهل البلاد).
حرب الإسلام السياسي المزدوجة هذه تضفي عليه سمة المحارب على التخوم frontiers الواقف على الحدود الفاصلة بين الكيانات الدولانية الجديدة التي تتشكّل منها دار الإسلام، وعلى الحدود الفاصلة داخل الكيانات نفسها بين الطوائف والمذاهب والإثنيات والأديان، وعلى الحد الفاصل بين المجتمع والدولة القومية الحديثة، وهي أيضا حرب الواقف على الحد الفاصل بين كل ما يمثل “دار الإسلام” في مواجهة الغرب، أي “دار الحرب”، التي أصبح الموقف منها أكثر تعقيدا مما كان عليه في قرون الإسلام الأولى، نتيجة وجود أعداد كبيرة من المسلمين في الغرب.
وهذه الخصوصية، بالذات، تحول دون إلصاق مفردة الإصلاح بمختلف التسميات المحتملة لمشروع الإسلام السياسي. فهو يمثل حركة راديكالية انقلابية تستهدف فك وتركيب العالم مرّة أخرى استنادا إلى خارطة أولى، قديمة، ناجزة، ومقدسة، للطريق. ولهذا السبب يترافق ظهورها مع، ويؤدي إلى، حروب أهلية ضمنية أو معلنة، وإلى حرب مفتوحة على الوطنيات المحلية، تكون الوحدة الوطنية، والدولة نفسها، أوّل ضحاياها. هذا ما حدث في أفغانستان، وفي السودان، والصومال، وما يحدث في اليمن، وفي مصر، والجزائر، والعراق، وفي فلسطين، ولبنان، مع تنويعات وخصوصيات محلية بطبيعة الحال.
أما في الغرب، الذي يشكّل واجهة لدار الحرب، فإن العمليات الإرهابية تسمى بالغزوات، ويتم استحضار مفاهيم من القرن العاشر لوضع سياح من الأوامر والنواهي بين الجاليات الإسلامية هناك والمجتمعات المضيفة، لتذكيرها بما لا يدع مجالا للشك بحقيقة وجودها خلف خطوط العدو.
ولكن هل يُعقل أن يفكر أحد في مطلع القرن الواحد والعشرين في استعادة جغرافيا للمقدس والمدنّس تنتمي إلى القرن العاشر، وإذا فكّر بذلك هل يُعقل أن تنجح فكرة كهذه في تجنيد ما لا يحصى من البشر؟
ولعل ما طرحه إرنست غيلنر قبل سنوات يسهم في تفسير هذا الأمر. ومضمون فرضيته أن الفقهاء، الذين كانوا أقلية، في أزمنة مضت، وكانت وسائل اتصالهم وتأثيرهم على الجمهور محدودة، أصبحوا في الوقت الحاضر ـ نتيجة الانفجار الرهيب في وسائل الإعلام، وأنظمة التعليم والتوجيه المركزية ـ في وضع يمكنهم من التأثير على مختلف الشرائح الاجتماعية، ومن الوصول إلى أبعد قرية، وإلى أوسع جمهور ممكن، بصرف النظر عن المستوى التعليمي، وقدرة العامّة على الاستيعاب. وقد تبنى الفقهاء، دائما، جغرافيا المقدّس والمدنّس، لأنها من صميم العقيدة، بينما سادت أشكال مختلفة للتدين الشعبي في أوساط مختلف الشرائح الاجتماعية البعيدة عن التأثير المباشر لمركز السلطة والفقهاء. وأشكال التدين الشعبي تلك هي التي أضفت على المجتمعات الإسلامية في أزمنة مضت تعدديتها وحيويتها الثقافية.
وإذا أضفنا إلى الفرضية السابقة حقيقة القوّة المالية الهائلة وغير المسبوقة في التاريخ، التي أصبحت متوفرة لدى الفقهاء، خاصة في أنظمة نشأت استنادا إلى التحالف التقليدي بين “ولي الأمر” والفقيه، سنتمكن من تفسير النجاح بطريقة وأدوات جديدة.
وفي هذا السياق يمكننا، أيضا، تفسير مسعى الفقهاء، أو من يزعمون لأنفسهم ممارسة هذا الدور، لانتزاع المكانة التي فقدوها بحكم الحداثة والتحديث الاجتماعيين. وهذا جوهر دعوة القرضاوي، الذي لا يكف عن التذكير بالدور القيادي “للعلماء”، وفحوى هذه الدعوة التفاوض حول شروط جديدة للتحالف بين الفقهاء والحكّام، بعدما فقدوا مكانتهم التقليدية في الحواضر العربية، ولم يعد لديهم من مكانة سوى في مناطق الهوامش والأطراف.
بمعنى آخر، ما كان فكر الأقلية ذات يوم أصبح اليوم سائدا ومهيمنا، ويحارب الآن على التخوم الداخلية والخارجية. وفي هذا السياق فإن ما يستخدمه دعاة الإسلام السياسي من معايير أخلاقية لتعريف ما يجوز داخل دار الإسلام وما لا يجوز خارجها، يخضع لانتقائية واضحة للعيان.
وبالتالي تبدو أسئلة من نوع وضع الأقليات الدينية في العالم الإسلامي، وحرية الرأي والمعتقد غير قابلة للنقاش، بما في ذلك ما يعانيه المسيحيون من اضطهاد، وما تعانيه أقليات قومية مثل الأكراد من إنكار للحقوق واستباحة للحريات، بينما يتحوّل وضع الأقليات المسلمة في الغرب وحرية الرأي والمعتقد إلى خط للتماس، وإلى ذريعة لاتهام الغرب بالنفاق، والعداء للإسلام. تسمية الأقليات المسلمة في الغرب مضللة في الواقع، فتلك الأقليات تتكوّن من عرب وأكراد وأتراك وهنود وباكستانيين، ولدى أغلب هؤلاء تأتي الهوية القومية في المرتبة الأولى، وتليها الهوية الدينية.
ولعل نظرة سريعة إلى أوضاع العمالة الآسيوية المهاجرة في بلدان الخليج والسعودية، وأغلبها يتكوّن من مسلمين آسيويين فقراء، تبرهن على حقيقة ما يسم الكلام عن “دار الإسلام” من نفاق. ففي “دار الإسلام” التي ينبغي نظريا أن يكونوا جزءا منها، يعيش هؤلاء بلا حقوق ولا امتيازات، وحتى إسلامهم لا يمثل ضمانة حقيقية لنيل الحد الأدنى من الضمانات والمعاملة الإنسانية.
الجواب بشأن الاستفتاء السويسري لا يقبل التبسيط. ولكن الحقيقة المؤكدة أن الحرب على التخوم بقدر ما تسهم في صياغة الهويات في “دار الإسلام”، تتدخل أيضا في طريقة صياغة الغرب لهويته، أو هوياته في ظل “حرب بين الحضارات” لا يمكن تجاهلها.
والأكيد، أيضا، أن الذين صوّتوا بنعم لمشروع القانون الجديد، منحوا الإسلام السياسي قوّة إضافية في اللحظة التي أردوا فيها تحجيمه. وهذه مفارقة جديدة في الحرب على خطوط التماس، وآخرها حرب المآذن، بعد حرب الحجاب. وكلتاهما مشحونة بالعنف الرمزي، وبما ينجم من الصدام على تخوم الهويات من دوي بعيد المدى والصدى.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين