(في ٢٠١٦، تفكيك الشباك القديم لضريح العباس بين علي بن أبي طالب)
كثيرا ما ترتاب المجتمعات المحافظة من التجديد والمراجعة والقراءة النقدية لتراثها الثقافي والاجتماعي والديني، كون هذا التراث يشكل “ذاكرة جمعية”، تمنح أصحابها نوعا من الطمأنينة والقداسة، والاعتقاد بالقوة والصلابة، وأن المجتمع محصن من الاختراق، خصوصا إذا كان المجتمع يحكمه هاجس “الأقلية” في مقابل “أكثرية” تشكل المحيط الأوسع، وتمتلك من القوة أضعافا!.
هذه “الممانعة” للتجديد نراها في معظم المجتمعات العربية، كونها بيئات اعتادت على الرتابة وعدم المساءلة، وترسخت فيها ثقافة السمع والطاعة، وتجذر فيها الخطاب الديني بحيث تحول لحاكم ومسيطر على كثير من النشاطات الفردية والعامة.
المحافظون الشيعة
بالرغم من تحفظي على إطلاق مسمى “المجتمع السعودي الشيعي”، كون المواطنين الشيعة في المملكة ليسوا كتلة واحدة متماثلة، بل هم نسيج متعدد متنوع. إلا أن هنالك قوى فاعلة داخل هذا النسيج، مازال لها تأثيرها وحضورها بين شريحة واسعة من الناس، في مقدمها القوى التقليدية المحافظة، وتحديدا منها تلك التي تقدم ذاتها بوصفها “حارسة للعقيدة” تجاه ما يطرح من شبهات.
“حراس العقيدة” هؤلاء، يعتقدون أن أي مراجعة للمقولات العقدية، أو سيرة أئمة آل البيت، أو نقد للشعائر الحسينية، إنما هو سلوك من شأنه أن يعرض المجتمع الشيعي لـ”فساد المعتقد”، وأن يفقده تماسكه، ويهدم مرتكزاته المذهبية، وهو ما سيقوده تاليا لأن يذوب في بحر “السنة” الأكبر، ليتحول المسلمون الشيعة من أقلية إلى “أقلية الأقلية”!.
الخوف من التلاشي من جهة، والرغبة في رد “شبهات الخصوم”، كما السعي الدائم لـ”شد عصب الجماعة”، وهاجس التمايز عن الآخر، وترسيخ “الولاية” كأساس للبيت الشيعي، كل ذلك جعل التيار المحافظ يقلق من أي مراجعة، ويتهاون أمام روايات تاريخية ضعيفة، ويتسامح تجاه خطاب غرائبي، طالما أن ذلك من شأنه أن يزيد من يقين المؤمنين، ويحافظ على “المذهب”!.
مواجهة سؤال التجديد
في نوفمبر 2017، استضاف “منتدى الثلاثاء الثقافي” بالقطيف، الشاعر وعالم الدين الشيخ علي الفرج في محاضرة بعنوان “أسطورة الرموز التاريخية، الأسباب والنتائج”، كان محور النقاش فيها الكتاب الذي ألفه الفرج “العباس بن علي.. بين الأسطورة والواقع”. حيث وجه المحاضر نقداً لاذعاً لخطباء المنبر الحسيني، معتبرا أن 70% منهم يعتمدون على روايات تاريخية غير صحيحة، مستفهما عن سبب شيوع الأساطير والخرافات لدى كثير من جمهور المجالس العاشورائية.
الشيخ الفرج انتقد أيضا المرجعيات الدينية، لقلة اهتمامها بالمنهج العلمي والبحثي في التاريخ، وتركيزها على علمي الفقه والأصول. وهو الانتقاد الذي قُوبل بـ”ردود عنيفة” من التيار المحافظ، استدعت أن يصدر الفرج لاحقا بيانا توضيحيا، بسبب الضغوط الكثيرة، كما “الشتائم النابية” التي وجهت له.
الشاعر والفقيه
علي الفرج، عالم الدين الشاب، الذي درس العلوم الشرعية جوار مرقد السيدة زينب بريف دمشق، قبل أن يكمل دراسته في حوزة “قم”. شخصية محبة للأدب، وشاعر ذو تجربة جديرة بالاهتمام. تأثر بالشاعر العراقي السيد مصطفى جمال الدين، وبصداقته ونقاشاته الأدبية مع الشاعر جواد جميل، وسجالات الثقافة والأدب مع مجموعة من طلبة العلوم والمثقفين من العراق والخليج.
بعيد عودته إلى قريته “القديح”، واصل تجربته الشعرية، وتأثر أيضا بالشاعرين السعوديين محمد العلي وعبد الله الجشي. وبدأ في كتابة نصوص أكثر حداثة، سواء على مستوى اللغة أو الأفكار أو البنية السردية والموسيقية للنص. حيث نشر عددا من قصائده في صحف ودوريات سعودية وخليجية عدة. وهو الذي كان يقول لي ذات يوم إنه كان يغفو في منزله بمدينة “قم” الإيرانية، وإلى جوار فراشه كتب الفيلسوف نيتشه!.
لك أن تتخيل، شاب بقدر ما هو محب للفقه والأصول وعلوم الشريعة، بقدر ما هو منفتح على قراءة الفلسفة والنقد الثقافي والأدبي.
الفرج في نقاشه لظاهرة “أسطرة” عاشوراء، مؤخرا، كان منسجما مع تجربته الثقافية السابقة، وهو الذي في جميع نصوصه عن واقعة “كربلاء” والإمام الحسين بن علي، لم يكن ليرثي الحسين وآل بيته، وإنما يكتبهم فرحا، شعرا. لا يبكيهم متفجعا أو يقدمهم منكسرين مهزومين في لباس أسود قاتم، ومناحة لا تنتهي!. وإنما شخصيات يبني من خلالها عوالمه الشعرية والرمزية.
“مراهقة جليدية”، هي واحدة من عناوين نصوصه الكثيرة في الحسين بن علي. ومن خلال العنوان يتضح أن المقاربة التي انتهجها مختلفة عن السائد، وليست على غرار ما تكتبه الشيعية الكلاسيكية.
ربما كان الشاعر الفرج في ذلك متأثرا بتجربة جواد جميل في ديوانه “الحسين لغة ثانية”. إلا أنني أعتقد أن الفرج تجاوز هذه التجربة في نصوصه الأخيرة قُبيل مرضه، وكان بإمكانه أن يصوغ ديوانا أكثر عمقا شعريا وفلسفيا، لولا التداعيات الصحية لما ألم بجسده.
العباس.. سَبع القنطرة!
يحضر العباس بن علي بن أبي طالب، كشخصية رئيسة في واقعة كربلاء، بوصفه أخ الإمام الحسين – غير الشقيق- الذي يذود عن حياض آل البيت، ويفضل الموت عطشانا على أن يذوق الماء قبل أن يشربه الحسين ومعه أخته زينب وبني هاشم. هو مثال على الفداء، الإيثار، الشجاعة، الشهامة، ونبل الأخ مع أخيه!.
هو أيضا “حامي” زينب بنت علي، والتي عندما قتل سندها، تعرضت للسبي وسيل لا ينتهي من المصائب.
“باب الحوائج”، “سبع القنطرة”، “ساقي العطاشى”، “أبو رأس الحار”، “قمر العشيرة”، “كبش كتيبتي”.. كلها ألقاب تحضر في الثقافة الشعبية الشيعية للعباس بن علي، راسمة صورة بهية لها العظيم من الجلال والنور. ولذا كثرٌ من “العامة” يشعرون بـ”الخوف” قبالة شخصية العباس، فتراهم لا يجرأون على قول الكذب في حرم مرقده وأمام ضريحه في كربلاء، خوفا منهم أن يعاقبهم على قبيح حديثهم، حتى وهو موسدٌ في الثرى!.
إذن، العباس هنا لا يحضر بوصفه عنصرا مكملا لسردية ومشهدية البطولة والتضحية في كربلاء، بل هو ثيمة أساسية لا تقل أهمية عن حضور الإمام الحسين ذاته، مع الفرق العقدي أن الحسين “إمام معصوم واجب الطاعة”، وهي الميزة التي لا يمتلكها العباس.
الذود عن الحياض!
الشيخ علي الفرج في كتابه، وأيضا خلال محاضرته عن “الأسطورة”، قوبل بردود عنيفة بين أوساط المحافظين الشيعة، حتى إن شخصية مثل الشيخ منصور السلمان، كتب منتقدا بعنف منتدى الثلاثاء، معتبرا أن المنتدى “يبحث في ضمن جلساته عن بعض من يهمس بالجرح في قضايا المذهب، بالتشكيك في الفقه أو الشعائر، أو القضايا التاريخية. وما يهمنا هو من يعتجر العمامة من أي طيف من أطياف المجتمع، متى ما علقت به شبهة من الشبه، إلا وتسارع هذا المنتدى إليه، وأباح له طرح كل ما في جعبته، وخصوصاً النيل من المراجع”.
السلمان رغم كونه شخصية عامة تحظى بالاحترام، وتنفتح في تواصلها مع المؤسسات الرسمية، ومن دعاة خطاب “عدم العنف”، إلا أنه مارس “عنفا رمزيا” تجاه الفرج، ولم يستطع أن يتقبل الاختلاف الفكري، وراح يبحث في نوايا المحاضر وأصحاب المنتدى، وكأن هنالك مؤامرة ما تحاك ضد “التشيع”. بالرغم من أن الفرج ذاته انطلق في تأليفه لكتابه من منطلق ديني غيبي، وفاء لنذر نذره على نفسه، إن استجاب له الله وشفيت زوجته أن يؤلف كتابا عن شخصية العباس، وهو ما حصل. أي أن المراجعة التاريخية، أتت من شخص هو ابن المدرسة الدينية، وطالب وأستاذ في الحوزة العلمية، وبدافع “الغيرة” و”تصحيح المفاهيم” لا النقض والهدم.
ذات النقد “العنيف” ضد خطاب الفرج، صدر من شخصيات دينية عدة، سواء عبر صفحاتهم الخاصة في فيسبوك، أو الرسائل والمقالات التي يتداولها الناس عبر الـ”واتس أب” داخل المجتمع في القطيف ونواحيها، أو في مجاليهم. وهو نقد في جزء منه لا يخلو من “شتائمية” لا تليق بأشخاص يدعون أنهم أتباع مدرسة آل البيت!.
ردة الفعل “المتشددة” هذه، مردها ما أشرت له من مكانة العباس في “المخيال الشيعي”، وتوجيه الشيخ الفرج نقده للمرجعيات الدينية، والتي لامها على عدم وقوفها في وجه الخطاب الشعبوي الأسطوري، وهو ما اعتبره قطاع واسع من علماء الدين وجمهورهم، تجاوزا للخطوط الحمر في التعامل مع “المراجع”، والذين ينظر لهم بوصفهم نوابا عامين عن الإمام المعصوم. بل تم إضفاء صبغة من القداسة على كثير منهم، وكأنهم يريدون استجلاب ما لـ”الإمام المعصوم” من هالة خاصة وعلم وإحاطة، ليلبسوها لمرجع الدين، وإن لم يتم القول بذلك لسانا، وإنما طريقة التبجيل الرفيع، تنم عن ذلك. متناسين أن لكل علم أناس مختصين به، وأن المراجع هم شخصيات حازت درجة “الاجتهاد” في الفقه والأصول، وعلى معرفة بالعلوم المتصلة ببحوثهم الشرعية، وليس من المنقصة أن يشار إليهم بمحدودية العلم التخصصي في “التاريخ”، لأن ذلك ليس هو ميدانهم المعرفي، وإنما يحيطون بشيء منه، فيما يتعلق بتاريخ وسيرة الرسول وآل البيت ونشأة الإسلام والفرق والمذاهب، أو ما يدخل في صلب علم “الرجال والجرح والتعديل”. فعلم التاريخ، حقل قائم بذاته، له باحثوه الأكاديميون، ومناهجه المختلفة، والتي هي ليست من شأن الفقيه.
جدل بين فريقين
هذه النقدانية المبالغ فيها تجاه أطروحات الفرج، قابلها عدد من الكتاب والمثقفين السعوديين الشيعة بعدد من المقالات، على صفحات “فيسبوك”، حيث أشار المسرحي أثير السادة إلى أن “مراجعة صورة العباس في النص الكربلائي تتجاوز في مشروع الفرج النزعة التبريرية والتي ترى في التوسع في منح الأوسمة للرموز التاريخية سلوكا طبيعيا، باتجاه مساءلة السلطة بكافة تجلياتها، السلطة السياسية والدينية والاجتماعية و…، وطبيعة حضورها في بنية النص ورسم اتجاهاته، وهو ما يجعله في مواجهة مقدرة مع المؤسسات الحارسة لهذا النص”.
بدوره الشاعر حبيب محمود، كتب مساجلا “الممتعضون من نتائج التحقيقات التاريخية؛ لا يمكنهم تحمّل مثل هذا الصعق الباغت. بل لا يمكنهم استيقاف تحقيق واحدٍ والردّ عليه. إنهم يردّون على ما يجهلون، و “الناس أعداء ما جهلوا”. وما يجهلونه عن الكتاب أوسع بكثير مما يعرفونه. وعليه؛ فإن معضلة الشيخ علي الفرج؛ ليست مع من يقرأ ويناقش، بل من لا يقرأ أصلاً، ومع ذلك يريد أن يناقش ويتحدث ويردّ ويستدلّ ويحتجّ على كلامٍ لم يقله الشيخ”.
يخبرني أحد الأصدقاء أن شخصية دينية مرموقة في القطيف، طلبت من لديهم تعليق أو رد على حديث الفرج وكتابه أن يرد بعلمية ووفق منهج بحثي، عوض اللجوء إلى الشتم والتوهين المذهبي. وهو ما يشي بوجود تيار عام من مثقفين وعلماء دين داعمين لمنهجية مساءلة التراث وتنقيحه من الخرافة والسرديات الموضوعة.
المخاض الصعب
قصة الشيخ الفرج هذه، مثال على ما يعيشه السعوديون الشيعة من حراك ثقافي وديني، يتم بشكل يومي، ساحته المنابر ودروس المساجد والحسينيات، ونقاشات الديوانيات، وما يكتب في وسائل التواصل الاجتماعي. وهو الجدل الذي سيكون أمام أصحابه مهمة شاقة في ترسيخ قواعد الإيمان بالتعددية وقبول الآخر، والخروج من خوف نقد الذات، في مخاض لن يكون سهلا، ولن تفرش أمام رواده السجاجيد الحمر، بل سيكون عليهم أن يتحلوا بكثير من الصبر والحكمة والمنهجية العلمية والشجاعة الأدبية. فتيار “حراس العقيدة” لن يجلس متفرجا على هيكله يتداعى أمامه، دون أن يذود عن حياضه “المقدسة”. متناسيا أن ما يدعي أنه مقدس، ليس إلا تأويلا بشريا للدين، لا يمتلك أي حصانة أو منزلة فوق البشر!.