كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال أنه لابد أن يكون الحديث عن التعذيب مقرفاً تشمئز منه النفوس ولكنه- في الوقت نفسه- لابد أن يُعرف، ولابد أن نقف منه موقفاً حاسمًا لأنه جمع إلى جانب الوحشية في العقوبة القيام بممارسات للإذلال ولإهدار الكرامة ولجعل الإنسان يفقد الإرادة تمامًا، بحيث ينفذ كل ما يطلب منه مهما كان شائناً.
وهذه شكوى ثالثة جاءت من سجين بسجن برج العرب الاحتياطي اسمه «حاتم سيد محمد جمعة»، وتاريخ الشكوى ١٧/٢/٢٠١١م يقول: «إنه قبض عليه مع مجموعة من مجموعات حملوها مسؤولية الانفلات الأمني المدبر وأخذونا ورحلونا إلى سجن برج العرب، أنا أقول سجناً ولكنه في الأساس يشبه معتقل المغول في العصور الوسطى، هل تصدقون أن كل من تسول له نفسه أن يتكلم عن الأكل يوضع له الأكل في إناء ويأتون بالكلب ويأكل مع الكلب؟ هل هذه معاملة بالله عليكم؟ ومن يحاول أن يعترض يقومون بخلع ملابسه ويجعلون الكلب يقفز عليه ليغتصبه، تماماً كما تفعل القوات الأمريكية بالعراقيين بسجن أبو غريب، أقسم لك بالله هذا ما يحدث الآن بمعتقل برج العرب.. بخلاف أشياء كثيرة تحدث أعجز عن وصفها في رسالتي، ولكم التحقق من ذلك وأنا على استعداد لتحمل أي مسؤولية عن الكذب، وعندي الشجاعة لمواجهتهم بكل ذلك».
وهذه شهادة تعذيب.. الجديد فيها أنها تثبت أن التعذيب استمر حتى بعد قيام الثورة، وجاءت تحت عنوان عاجل إلى قيادة الجيش المصري: تعذيب وقتل لمعتقلين منذ ٢٩ يناير حتى الآن، وهذه الحقيقة المفجعة مما يعطيها أهمية خاصة أنها من محمد إبراهيم السعيد سليمان ٢٤ عاما، يعمل مع والده في معرض للموازين بباكوس بالإسكندرية، كان مشاركاً في جمعة الغضب، وكان ضمن من أوقفوا بأجسادهم مدرعة الأمن في محطة الرمل وهو مصاب في يده، ومساء يوم السبت ٢٩ يناير حوالي الثامنة مساء توجه من مقر عمل والده في باكوس إلى «ونجت» في سيارة سكودا مع جار له لتوصيل شيك دم للمستشفى الأميري الذي تعالج فيه والدته من مرحلة ثالثة من السرطان، وبمجرد نزوله من السيارة نهاية شارع أبو هليل ألقى مجموعة من رجال الأمن القبض عليه رغم أنه أراهم شيك الدم، وأوضح سبب نزوله وأخذوا كل متعلقاته وشيك الدم وهويته ورخصة القيادة ومبلغ ٢٨٠ جنيها كانت بحوزته، واقتادوه إلى أحد المعتقلات، حيث تعرض وعشرات غيره هناك لتعذيب مستمر، يقول: «كنا ١٠٤ أشخاص فى حجرة واحدة، كنا «مكومين على بعض» وألقوا علينا المياه طوال الوقت وضربونا بعصيان معدنية»، واستمر تعذيبه لمدة ٥ أيام بالصعق بالكهرباء والكرابيج المعدنية، وأصيبت فقرات ظهره وساقاه بإصابات بالغة. «حاول اثنان من المعتقلين أن يسحبا عسكري الحراسة لداخل الزنزانة، وعندما دخل العسكري للحجرة كان وسطنا وطلبنا أن يفرج عنا، هنا جاء ضابط وأطلق الرصاص على الاثنين فى رأسيهما، وكان معه ٦ جنود أخذوا فى ضرب الجثتين بأقدامهم، وفى فجر يوم ٤ فبراير نقلونا فى كونتينر مكومين ومعظمنا فاقد الوعي ومصاب بجروح وثقوب من جراء الضرب والدق على أجسادنا بعصا معدنية وإطفاء السجائر، ونقلونا إلى سجن آخر رهيب، وفي الكونتينر- بحسب أحد ممن كانوا مع محمد ويدعى يوسف ٤٠ سنة- كان معنا جنود يحملون الرشاشات ونصف الآلي وكانوا يضربوننا خاصة من هو فى وعيه منا بالكرابيج أثناء نقلنا»، وفي ٤ فبراير نقل إلى أحد المعتقلات مجدداً حيث تعرض لنفس التعذيب وكان هناك معه رجل تعدى الستين وهو مصاب بكريزة كلى، جاء عقيد وقال له: أنت بتمثل.. اضربوه.. وأخذوا يصعقونه بالكهرباء حتى مات، وبعدها قال الضابط حرفيًا شيلوا الكلب ده وارموه من هنا، ثم نقلوا المعتقلين لسجن الحضرة، وهنا كان في عنبر واحد مع ٩٧ شخصًا (مات ٧ على الأقل منا) كلهم مقيدون بالحديد من الأيدي والأقدام وتعرضوا لتعذيب شمل أيضًا سكب المياه عليهم وإطفاء السجائر فى أجسادهم العارية وضربهم بعصا وكرابيج، توفى ٧ منهم أثناء التعذيب، وتوفى أيضًا مواطن ليبي كان مقيدًا مع نفس المجموعة. يقول محمد: كان هذا الرجل معي فى نفس السلسلة وبقيت جثته مقيدة من اليد معي لساعات، وفى المعسكر نادوا عليهم: «مين أصغر واحد فيكوا» فخرج «جاسر» وطلبوا منه أن يضرب أحد أمناء الشرطة.. موت أمين الشرطة ده ياله.. ده أمن دولة، وكان أكثر ضباط الأمن تعذيبًا لنا يدعى حسن.. وكان يسبنا دومًا ويضرب حتى من مات منا، وكان يدخل ويقول إيه اتظبطوا كويس.. ويقوم دايس بالجزمة ع الجروح فى جسمنا».
وجاء فى جريدة الأهرام (٩ مارس سنة ٢٠١١م ص ٥) تحت عنوان «طبيب يروى رحلة تعذيبه فى جحيم أمن الدولة» هذا الطبيب الشاب هو د. إيهاب العياشى الذي كان كل جرمه أنه أراد الجهاد فى حرب العراق، ولكنه عندما ذهب سقط صدام وانتهت الحرب فعاد، وفى المطار حجزوا جواز سفره ثم سمحوا له بالانصراف، وبعد ستة أشهر عام ٢٠٠٣م. أراد السفر للسعودية لأداء عمرة فاحتجز فى المطار جواز سفره واقتادوه من المطار، وهناك قاموا بسب الشرطي الذي جاء به لأنه لم يعصب عينه، يقول الدكتور إيهاب: «التعذيب بدأ بالسب والضرب بعد التفتيش وتجريدي من ملابسي بالكامل حتى الأماكن الحساسة لم تسلم من التفتيش، فقلت أنا طبيب ما الذي فعلته؟ فردوا: انس إنك طبيب! وبدأ التعذيب كالعادة فى اليوم الثاني بالتجريد من ملابسي بالكامل والتعليق على باب حديد من الأيدي والأرجل وهى مرفوعة عن الأرض بحيث يكون الحمل على الأيدي فقط ثم الصعق بالكهرباء فى الأماكن الحساسة، واستمر التعذيب والتحقيقات يوميًا لأكثر من شهر، ثم تلاه شهران آخران.. ثلاثة أشهر مرت وأنا معصوب العينين لا أرى من يقومون بتعذيبي، ولكن من خلال الأصوات أستطيع أن أتبين أنهم ٧ أو ٨ ضباط، وجميعهم يتبارى إلى التفنن فى التعذيب.
وأي ضابط يتهاون فى القيام بالمهمة يكون مصيره مثل المعتقلين حتى يكون عبرة للآخرين! لا يزال صدى أصوات المعذبين فى أذني حتى الآن وهم كثرة من مختلف الفئات، فمنهم أساتذة جامعات خاصة الأزهر، وكان معي فى التوقيت نفسه أبوعمر المصري بعد أن خطفته المخابرات الأمريكية فى إيطاليا ثم سلمته للسلطات المصرية. عصابة العينين تركت جرحًا شديدًا على أنفى، وكنت أحاول تحريكها من حين لآخر، ولكن كنت أخاف من العاقبة وهى زيادة التعذيب، ولكن أحد الضباط بعدما رآني أعانى من ذلك نصحني بالصبر حتى يتم ترحيلي إلى زنزانة.. وهى أرحم من التعذيب.
بعد سنة من خروجي من السجن تم استدعائي لمواجهتي مع شخص اسمه تامر إبراهيم أبوعمر، وهل توجد أي علاقة معه، وأنكر تامر واستمر تعذيبه إلى أن شلت يده، وكان من رفقائي فى ليمان طرة شيخ كبير كانت تهمته أنه قال لمبارك أثناء تأدية عمرة قبل ١٧ سنة: (اتق الله واحكم بالشرع)، فأحضره الأمن من السعودية إلى القاهرة ووجهوا له أكثر من تهمة، ولمدة ١٧ سنة ظلوا يقولون له: موضوعك مع الرئيس نفسه.
إن عزة وكرامة المواطن هي أثمن شيء، وعندما تهدر فلا فائدة في أي شيء.
*
إلى الحكومة
قانون تجريم التظاهر كائناً ما كان السبب يناقض حرية حق التعبير الذي يُعد من الحقوق الأساسية للإنسان، وصدوره من الحكومة المحمولة على أعناق ثوار ٢٥ يناير سقطة كبرى، إن لم يكن خطوة فى الانقضاض على الثورة.
ألحقونا بالدستور
الرجوع إلى الحق فضيلة.. ما زال من الممكن اختيار لجنة من خمسين تضع الدستور المنشود الذي تعقد على أساسه كل الانتخابات، ولن يتطلب هذا سوى أسبوعين.
* القاهرة