لا أعتقد أن غبطة بطريرك بكركي سيكون غاضبا إن خاطبته باعتباره رجل سياسة لا دين، أو رجلاً يمارس السياسة من موقعه كرجل دين. تفرض الصراحة علي أن أتحدث معه بهذه الطريقة، فأنا لا أريد أن أمسّ بمقامه السامي في الكنيسة، الذي ليس محل نقاش هنا، وأرى من واجبي التعامل معه كرجل دنيا من غير الضروري أن أجامله، أو أن يكون كل ما يصدر عنه حول شؤون الدنيا معصوما أو متمتعا بالقداسة، التي ربما كان يضفيها عليه موقعه في التراتبية الدينية / الكنسية، لدى مؤمنين كثيرين.
ولأقل منذ البداية إن سيادته أخطأ في أمرين:
ـ أولهما انه تحدث باسم مسيحية المشرق، مع أنه لا يمثل إلا أقلية فيها، ومع أن بقية المسيحية المشرقية لم تكلفه في أي يوم النطق باسمها، علما بأن ما قاله ينعكس عليها جميعها، وفي الحالة التي أتوقف عندها، ينعكس عليها انعكاسا سلبيا إلى حد بعيد، الأمر الذي كان على سيادته مراعاته وأخذه بالحسبان، عندما أدلى بتصريحه حول سوريا والمسيحية المشرقية ومستقبلها، خاصة أن كنائس عديدة، قد لا تتفق معه في ما يقوله نيابة عنها وفي غيابها. لقد أعطى السيد الراعي نفسه صفة ليست له، وعالج موضوعا شائكا حمّله بأحكام مسبقة ومقولات تعميمية من شأنها إلحاق ضرر جدي بالمسيحية جملة، من غير الجائز أن يغامر رجل سياسي، ناهيك عن رجل دين، بتعريض المسيحيين له.
ـ ثانيهما أنه عالج مسألة معقدة، ذات حمولات فكرية وتاريخية وعملية بعيدة الغور، وهي بالأصل حمالة أوجه، من منظور سياسي ضيق، تكتيكي، حصر ما يقع اليوم في الصراع السني / الشيعي وممكناته، مع أن ما يجري في سوريا ليس جزءا من هذا الصراع، بل هو جزء من صراع آخر، رأى سيادته ورأينا معه علاماته الأولى في تونس ومصر، وامتداداته في اليمن وليبيا، حيث لا سنة ولا شيعة فيكون هناك صراع سني / شيعي، ووُجد بالفعل صراع بين مجتمعات، اختنقت من القمع والقهر وشرعت تصرخ مطالبة بشيء أوحد هو الحرية، وبين نظم استبدادية شمولية لم يعد لديها ما تقدمه لمواطنيها غير القهر والحرمان، علما بأن الطرف السياسي الإسلامي / السني في هذه المجتمعات كأن أوضح وأقوى بكثير من مثيله في الحدث السوري، وبأن هذا الأخير يجب أن لا يعتبر نتاجا حتميا أو وحيدا لأي حراك يشارك فيه المسلمون، ما دام المسلم مؤمناً يعبد ربه ويطيع رسوله، والإسلامي سياسيا يركض وراء الدنيا ومصالحها، مهما رفع من رايات دينية، والمؤمن ليس بالضرورة سياسيا والسياسي ليس بالقطع مؤمنا، والهوة التي تفصل بينهما قد تمر بمختلف أشكال العلمانية والقومية والليبرالية والماركسية… الخ.
والآن: هل صحيح أن غبطته يخاف من تحالف السنة السوريين واللبنانيين ضد الشيعة، فيصاب المسيحيون بالضرر؟ أم الصحيح أن مسيحية غبطته السياسية بنت حساباتها كلها خلال القرن الماضي، وهي تبنيها اليوم أيضا على هذا الاحتمال، احتمال نشوب صراع سني / شيعي يريح كنيسته ورعيتها، وإلا ما معنى تحالفها مع سنة لبنان اليوم، ضد قسم مهم من المسيحيين اللبنانيين يقف وراء الجنرال ميشال عون، وشراكتها السياسية مع تحالف 14 آذار الذي يمثل السنة؟ ليغنِّ سيادته غير هذا الموال، إلا إذا كان يعتقد أنه يستطيع تمريره علينا، ويظن أننا لا نرى ما يحذرنا منه باعتباره واقعا راهنا يفيده وليس خطرا مستقبليا يهدده، وأنه كان عليه بدل التحذير من هذا الواقع إعلان القطيعة معه، بعد أن تبنته الكنيسة المارونية منذ ما قبل لبنان الكبير، وأقامته فعليا على تقاسم وظيفي بينها وبين السنة، مثّل إجحافا جديا بحق الشيعة، الذين كانوا قوما فقيرا ومتأخرا وخاضعا، ثم طفق يطالب بحقوقه خلال السنوات الأربعين الماضية، ويعمل على إعادة إنتاج الشراكة الداخلية بما يعطيه نصيبا عادلا من بلاده، دون أن يجد استجابة طوعية من التحالف الماروني / السني، مما أجبره على استخدام سياسات إكراهية أدت إلى ترتيب جديد للبيت اللبناني دفعت المسيحية الجزء الأكبر من ثمنه، وستدفع أكثر إن وقع تفاهم سني / شيعي، لذلك تحامت بالأول، ليس لأن الشيعة معادون لها، بل لأن حلفها مع السنة كان يعطيها حصة لا تستحقها، ولأن أية شراكة جديدة ستعيد توزيع الحصص السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وستقلص بالتالي امتيازاتها أو ستلغيها.
فبأي منطق يعلن السيد الراعي خوفه من تحالف سنة لبنان مع سنة سوريا، وخشيته من أن يدفع المسيحيون الثمن، إن كان السنة اللبنانيون يتحالفون معه ويحــمون ما بقــي له من دور ومكانة، وكان هو نفسه يتحالف معهم لهذا الغرض؟ وعلى من يريد تمرير أحكامه المسبقة ومخاوفه المستقبلية، التي تتعارض مع جوهر مواقف كنيسته التاريخية ومواقفه الشخصـية اليوميــة؟ ثم من يريد السيد إقناعه بأن المارونية تخسر مواقعها نتيجة الصراع السني / الشيعي في لبنان والمنطقة، وليس نتيجة النمو الطبيعي للمجتمع ولوعي اللبنانيين بالعدالة والإنصاف، ومطالبتهم بتحقيقهما؟
لا حاجة إلى التأكيد: إن مواقف السياسي الراعي ليست صحيحة. وهناك حاجة كبيرة لتذكيره بقول هيغل، أحد أعظم فلاسفة التاريخ: وفيه أن الحرية بدأت في التاريخ البشري مع المسيحية. أذكره بهذا، لأن موقعه يلزمه بالإيـمان به والتـصرف بما يتفق مع مضمونه، ولأنه لا يفهم ما يجري على مقربة منه، أي أمام باب كنيسته، على نحو صحيح ويتفق مع منطق الأمور وحقيقتها، ولأن الســوريين، سنة كانوا أم غير سنة، لا يخوضون اليوم صراعا مع الشيـعة، وإذا كان بينهم مستاؤون من مواقف حزب الله أو إيران، فلاعتقادهم أن الحــزب لم يبد القدر نفـسه من التفهم حيال مطالبهم الذي كان قد أبداه حيال مطالب غيرهم من العرب، مع أنهم قاموا بحراك متماثل مع حراك غيرهم، ولإدراكهم أن تأييد الحزب لهم مهم وحيوي. إنهم لا ينتقدون الــحزب هنا أو هناك لأنهم يعتبرونه عدواً شيـعياً يقـف على الجانب الآخر من المتراس، ولأن العتب في هذه الحالة على قدر المحبة، كما يقال. وليس لدى السيد الراعي أو غيره أدلة تثبت أن الســوريين ينزلون إلى الشوارع للمطالبة بحكم إسلامي / سني، وأنهم يحتالون على الموضوع أو يخفونه من خلال رفع شعارات تتركز على الحرية والدولة المدنــية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والمواطنة، مع أنهم ضد هذا كله في قرارة أنفسهم اللعينة، ولا يريدون من الدنيا شيئا غير حكم إسلامي / سني يتحالف مع سنة لبنان ضد المسيحيين في المشرق، كي يحدث لهم هنا ما حدث لإخوتهم في العراق، ويتم تهجيرهم!
ترى، لو أن أجدادنا مسيحيي المشرق فكروا بهذه السذاجة في الزمن الصليبي، واعتبروا أنهم في معركة مع الإسلام السني وفي حلف مع من يحكم المسلمين ضد إرادتهم أو يعاديهم، هل كان بقي مسيحي واحد في المشرق كله إلى اليوم؟ أليس من الضروري أن يرى سيدنا الراعي وغيره من آباء وأمراء الكنائس المسيحية الواقع بأعين المحبة التي لا يكفون لحظة واحدة عن الحديث عنها، إلا عندما يتعلق الأمر بالمسلمين، وأعين الواقعية والإنصاف، وأن يفهموا ما يجري على حقيقته، ويخرجوا أنفسهم من معادلة قاتلة تجعلهم جزءا من معركة لا حاجة بهم أصلا إلى خوضها ضد المظلومين. لو عاد يسوع اليوم لكان أول المدافعين عنهم، ولقال بلا مواربة ودون لف ودوران: على صخرة هؤلاء المساكين المظلومين، إلى أي دين انتموا، أبني كنيستي، لأنها بهذا وحده تكون كنيسة ابن الإنسان.
سيدنا الراعي: كان سلفك مار نصر الله بطرس صفير يكرر الشطر الثاني من بيت شعر عربي قديم يقول:… إن الحرب أولها كلام. أنت يا سيدي تبدأ الحرب!