يقول نبي الإسلام إن “حب الدنيا رأس كل خطيئة”، ويقول الإمام علي ابن أبي طالب في نهج البلاغة إن “الدنيا دار ممر إلى دار مقر والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها”، ويقول الإمام جعفر الصادق إن “الدنيا سجن المؤمن والقبر حصنه والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر والقبر سجنه والنار مأواه”، ويقول الشيخ أبو حامد الغزالي “ألا صلح لكافة الخلق فقد المال، وإن تصدقوا بها وصرفوها إلى الخيرات”.
من الممكن للدين والتديّن والسلوك الديني التاريخي، التعايش في بيئة تتصف بالفقر والجهل والتخلف، وقد لا يساهم ذلك في تطور تلك البيئة، وذلك ليس نقيصة في الدين، لأنه لم يأت لتطوير المجتمعات وتحديثها، إنما هناك من يسعى غصبا إلى إلباس الدين غير لباسه. بل لا يمكن أن نبني مجتمعا متطورا ومتقدما وحداثيا استنادا إلى مسائل الدين التاريخية. فالدين هو أحد أطر الحياة الخاصة بالمجتمعات التاريخية غير الحديثة. لكن، لأن منطلقاته غير دنيوية، وفقا للأحاديث السابقة، وقيمه ماضوية غير حديثة، فإنه لن يكون أساسا لبناء مجتمع. فرغم قدرته على العيش في الحياة الحديثة، إلا أنه لا يمكن أن يكون أساسا لنشأة الحداثة، بل هو في بعض صوره يعتبر عائقا في وجه نشأة الحداثة.
ومهما تباينت التفسيرات بشأن بدء نشأة الحداثة وتكوّن المجتمعات الحديثة، إلا أنه لا يمكن إنكار أن القيم والمفاهيم التي ساهمت في إنتاج الحداثة، تختلف عن القيم والمفاهيم الدينية التاريخية المولّدة للسلوك الديني. بمعنى أن هناك اختلافا واضحا بين أخلاق الحداثة وأخلاق السلوك الديني، ولا يمكن لتلك الأخيرة أن تنتهي إلى ولادة مجتمعات متطورة وحديثة، وبالتالي لابد أن تسبق نشأة المجتمعات الحديثة نشوء قيم تختلف عن قيم السلوك الديني التاريخي.
ويعتبر مفهوم احترام حقوق الإنسان أحد أبرز نتاجات قيم الحداثة. فمن شروط احترام حقوق الإنسان في أي مجتمع من المجتمعات، ولو كانت دينية، ألا يفرض فرد أو مجموعة من الأفراد رؤاهم على الآخرين، إذ تلك التصرفات تعبّر عن حالة وصائية في قالب سياسي وثقافي وديني، وهي تعزز هيمنة فرد أو جهة على أخرى. لكن يمكن معالجة ذلك بنشر سلوك اجتماعي ينظم الاختلافات الفردية. فالأخلاق الاجتماعية التي ترفض الهيمنة والوصاية المسببة للظلم والمنافية للعدل، يجب أن تنظم السلوك الفردي والتنوعات الفردية وتضعها في قالب خاص. كما عليها أن تشجع عملية الانتخاب لمختلف صنوف الحياة، وهنا يشترط أن تكون عملية انتخاب دين من الأديان أو تغيير الدين والمذهب إلى دين ومذهب آخر أو حتى عدم الإيمان بأي دين، عملية فردية خاصة. وإلا ستؤدي وصاية وهيمنة الأكثرية الدينية على الأقلية الدينية وغير الدينية، إلى التضييق على شعائر وطقوس وحقوق وحريات تلك الأقلية. فحق الإنسان الفرد في انتخاب طريقة حياته الشخصية، وانتخاب دينه ومذهبه وتدينه الشخصي وحياته الشخصية وحرياته، هو شرط أساسي من شروط الالتزام باحترام حقوق الإنسان في أي مجتمع، وهو أحد مقومات الحداثة وتطور الأخلاق الاجتماعية.
وتعاني الغالبية العظمى من الدول العربية والمسلمة من صعوبة نفوذ نهج احترام حقوق الإنسان في وسطها الاجتماعي، وذلك بسبب هيمنة السلوك الديني التاريخي الأخروي على الحياة، وتراجع دور السلوك الاجتماعي الحداثي وضياع بوصلته التي تنظم الاختلافات الفردية والاجتماعية، وهو ما أدى إلى تشجيع مفهوم “الوصاية”. في حين أن منع الأخلاق الدينية الوصائية من الهيمنة على الواقع الاجتماعي، والسعي لنشر ثقافة احترام حقوق الإنسان، ومواجهة الانتهاكات التي تنفذ ضده، منوط بتأكيد عدم تدخل الآخرين بالسلوكيات الشخصية الخصوصية للأفراد والسعي لنشر الأخلاق التي تساهم في تنظيم الاختلافات الفردية والعلاقات الاجتماعية.
إن القيم الأخلاقية التي تساهم في تنظيم العلاقات الاجتماعية المختلفة بين البشر، هي القادرة على أن تتبنى مفهوم الدفاع عن حقوق الإنسان، لأنها تدافع عن حق كل إنسان في الاختلاف، وفي جعل المختلفين يعيشون في إطار اجتماعي واحد، وأن يقوم كل طرف باحترام وجود الآخر، واحترام حقه في الإيمان بأي دين من الأديان، أو حتى في عدم الإيمان بأي دين، كل ذلك في إطار لا يهدم الواقع الاجتماعي المعاش بل ينظمه. في حين أن السلوك الآخر، سلوك أنصار الأخلاق التاريخية الأخروية، يثبت بأنهم غير قادرين على تقديم نهج يساهم في الدفاع عن حقوق الإنسان، لا سيما إذا ما سعوا إلى فرض رؤاهم الأخلاقية الدينية على أفراد المجتمع، حيث يعكس سلوكهم هذا انتهاكا للحقوق الفردية للأشخاص الذين يعيشون معهم في المجتمع.
إن الأخلاق الدينية الإسلامية لم تهدف، وفق الأحاديث السابقة، إلاّ إلى تحقيق السعادة الأخروية للإنسان، والتي تعتبر في نظر المفسرين المسلمين هي السعادة الوحيدة المنطلقة من الحق الديني. غير أنها لا تمتلك تصوّرا واضحا حول دور الأخلاق في تنظيم العلاقات الاجتماعية، وهو ما جعلها غير مبالية بتنظيم العلاقة بين الأفراد في المجتمع، وبالتالي غير مبالية بقضايا حقوق الإنسان المسلم وانتهاكات الإنسان المسلم لأخيه المسلم وظلمه والتضييق عليه وتعذيبه وقتله. فالفردية في الأخلاق، وفق الرؤية الدينية، لا تتمثل إلا في تهذيب النفس وإصلاح الروح وبث الفضائل في الإنسان وإبعاده عن الرذائل التي ستنقذه من النار في الدنيا الآخرة، لكنها لا تساعده في تنظيم علاقاته الاجتماعية مع الآخرين المختلفين معه في الحياة الدنيا، وبالتالي لا تحقق له رؤى اجتماعية إنسانية.
وفي الوقت الذي كانت “التقوى” هي معيار العلاقة بين الإنسان وبين الله، فإن المعيار الذي أصبح يتحكم بمسؤوليات الحياة وحقوقها وحرياتها ومشكلاتها وقضاياها في العصر الحديث هو “العدالة” وليس التقوى. إن الفصل بين الدين وخالقه من جهة، وبين الإنسان وأمور الحياة وقضاياها ومشكلاتها من جهة أخرى، تعلّق في العصر الحديث بالأخلاق أيضا، التي بات قانونها ينطلق من إرادة الإنسان وعلمه وليس من إرادة الدين. فعقل الإنسان والطبيعة أصبحا المرجع في إصدار القوانين الأخلاقية، ولم تعد هناك حاجة لوحي أو نص ديني في ذلك. كما أن التزام الإنسان بالقوانين الأخلاقية بات ينطلق من مسؤولياته الشخصية وتوجهاته العقلانية وإرادته الطبيعية الحرة، وليس من الأوامر الدينية الصادرة إليه. بعبارة أخرى باتت الأخلاق وعلومها وقوانينها لا تستند إلى الدين.
كذلك نجد أن الأخلاق الاجتماعية الحديثة لا تركّز في الأصل على إصلاح الروح رغم أنها تعتقد أن الفضائل والرذائل الأخلاقية الفردية لابد أن تخدم في النهاية العلاقات الاجتماعية والسعادة الاجتماعية ورفاه الجماعة. فالأخلاق الحديثة تركّز “في ذاتها” على تحقيق علاقات أخلاقية إنسانية بين فرد وآخر، أي بين أفراد المجتمع، ولا يقتصر الأمر بالنسبة إليها على العلاقات الاجتماعية فحسب بل يتعلق أيضا بالمؤسسات الاجتماعية، التي تتعرض للمراقبة والنقد إن لم تلتزم بالمعايير الأخلاقية للمجتمع. لذلك فالمؤسسات السياسية والاقتصادية والقانونية في المجتمعات الحديثة لابد أن تبقى تحت مجهر المراقبة والنقد لكي تلتزم بالمعايير الأخلاقية.
ssultann@hotmail.com
• كاتب كويتي