سارع السعوديون إلى التقاط بعض الكستناء على مائدة نوبل للآداب، هذا العام. فما أن شاع اسم باتريك موديانو، الفائز بالجائزة، حتى فاضت واستفاضت منابر سعودية مختلفة في التدليل على حقيقة أن السعوديين اكتشفوا المذكور قبل نوبل نفسها. وعلى سبيل التمثيل لا الحصر، فقد جاء العنوان الرئيس لخبر نشرته الصفحة الإلكترونية لفضائية “العربية” على النحو التالي: “السعودية اهتمت به قبل احتفال العالم بفوزه بنوبل”.
كل مَنْ يعرف شيئاً قليلاً عن كيفية نشوء الديانات المدنية، والهويات القومية في الدولة/الأمة، يعرف أن “بهجة” الاكتشاف تندرج في هذا الإطار. وهذا شيء جيد، فقد دفع العالم، لا العرب وحدهم، ما يكفي ويزيد من ضرائب تصدير الوهابية. وربما حان الوقت لتصدير واستيراد أشياء جديدة.
ومع ذلك، فإن العثور على بارقة كهذه لا يقلل من أهمية تحفظات تجد ما يبررها في صلب الاكتشاف السعودي نفسه. فالخبر يقول إن الملحقية الثقافية في فرنسا عملت على ترجمة ونشر رواية “مقهى الشباب الضائع” لموديانو، في سياق مشروع للترجمة أوصت به وزارة التعليم العالي، ويؤكد أن الوزارة تملك الحقوق الأدبية كاملة لنشر تلك الرواية باللغة العربية.
لا بأس. صدرت الترجمة عن الدار العربية للعلوم ـ ناشرون في بيروت قبل أربع سنوات. ولا نعرف هل منحت الوزارة الحقوق الأدبية للناشر، أم اكتشفت ضرورة التذكير بها، بعدما نضجت الكستناء على مائدة نوبل. وهذا تفصيل صغير، وقليل الأهمية، فكل ما نرجوه ألا يكون الناشر نفسه قد تلاعب بالترجمة، كما فعل بروايات بول سوسمان، التي حذف منها كلمات الصليب، والكنيسة، والكاهن، ناهيك طبعاً عن النبيذ، وكل ما يتصل بالجنس من قريب أو بعيد. فهل فعل ذلك في سياق المشروع نفسه؟
وبالقدر نفسه، تستمد التحفظات ضرورتها من حقيقة أن علاقة السعوديين بالترجمة تبدو حتى الآن إشكالية في أفضل الأحوال. فمكتبة جرير، مثلاً، وهي من كبار الناشرين السعوديين، نشرت ما اعتبرته الترجمة “الحلال” لروايات ديفيد بالداتشي. ولا يحتاج أحد إلى أكثر من مقارنة النص الأصلي بالترجمة العربية، مع غض النظر، أيضاً، عن رداءة الترجمة، فهي أهون الضررين.
وإذا كان في هذا ما يعيدنا إلى ترجمة المنفلوطي للروايات الرومانسية في زمنه، التي أضاف إليها ما لديه من فضائل، وحذف منها، ما ابتلى به الفرنجة أولاد الحرام من آثام، إلا أن الوضع في حالة المنفلوطي، تحت ظلال الزيزفون، يبدو أقل ضرراً ما يبدو عليه هذه الأيام تحت رايات الخلافة الداعشية السوداء.
ولا أعتقد أن ثمة مبالغة في القول إن محاولة “تنظيف” اللغة العربية في روايات سوسمان، مثلاً، من مفردات مثل الصليب والكنيسة والكهنة، والنبيذ، (وكلها عربية أصلية وأصيلة، صمدت في المعاجم والكتب، واللغة اليومية على مدار قرون) لا تختلف في الجوهر عن محاولة داعش “تنظيف” الموصل من المسيحيين، وملاحقة اليزيديين لقتل الرجال وسبي النساء. ولا ينبغي أن تغيب عن الذهن حقيقة أن “التنظيف”، أو التطهير العرقي، ينزل من اللغة، والفكر، إلى أرض الواقع. والعكس غير صحيح.
وهذه، في الواقع، أشياء ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد. فقبل سنوات صدر كتاب، كان في الأصل أطروحة للدكتوراه في جامعة سعودية، بعنوان “الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها” في 2317 صفحة (تخيّل)، وخلاصته، علاوة على أن الحداثة مؤامرة غربية، وأن الديمقراطية وثنية، أن ما لا يحصى من كبار المثقفين، والمبدعين، والمنوّرين العرب ينبغي طردهم من ذاكرة “الأمة”، ومنهم محمد عبده، وطه حسين، ونازك الملائكة، ونجيب محفوظ، ولويس عوض، وإحسان عباس، وجابر عصفور (وزير الثقافة الحالي في مصر) وإميل حبيبي، وأدونيس، ومحمود درويش.
فهؤلاء: “الإضلال والإفساد غايتهم، ومسلكهم ومنهجهم، ومع ذلك يزعمون ويدعون أنهم يريدون الإصلاح والنهضة والتقدّم”، كما يقول الكاتب في نص أقرب إلى لائحة اتهام في محاكم التفتيش، في القرون الوسطى، منه إلى كتاب في حداثة الفكر، أو فكر الحداثة. ولا يصعب تصوّر أن الخليفة البغدادي لن يجد مستشاراً فكرياً وثقافياً في بلاط الخلافة أفضل منه، بعد الانتهاء طبعاً من فتح كوباني، ودمشق، وبغداد، والرياض.
من السابق لأونه الحكم على الترجمة العربية “لمقهى الشباب الضائع” قبل مقارنتها بالنص بالأصلي. ومع ذلك، ليس من السابق لأونه التعبير عن تحفظات كثيرة إزاء علاقة الناشر المذكور بما نشر من نصوص مُترجمة. وليس من السابق لأوانه، أيضاً وأيضاً، القول إن الاعتداء على هذا النص الأصلي، أو ذاك، لا ينم عن حماقة المترجم، ولا بالضرورة، عن ذائقة الناشر، بل عن ديناميات اجتماعية، وثقافية، وسياسية، واقتصادية، تتجاوز هذا وذاك، ويشتبك فيها العرض بالطلب، والتمويل بالأيديولوجيا، والفردي بالجمعي.
وطالما نحن في أجواء “نوبل”، فلنذكر حقيقة أن نجيب محفوظ، العربي الوحيد الفائز بنوبل للآداب تعرّض لمحاولة اغتيال من شخص لم يقرأ رواياته، بل سمع عنها ما يبرر قتل صاحبها، وأن بعض تلك الروايات مُنعت في بلدان عربية مختلفة، وأن شخصاً تسلل من القرون الوسطى أضاف محفوظ إلى قائمة أشخاص “الإضلال والإفساد غايتهم”. وهذا ليس تفصيلاً صغيراً في الزمن الداعشي، ولا في مفارقة حبات الكستناء على مائدة نوبل العامرة.
khaderhas1@hotmail.com