في مقابلة له مع قناة العربية ضمن سلسلة برنامج “الذاكرة السياسية” قال الفريق أحمد شفيق آخر رؤساء الحكومات في عهد الرئيس المصري المخلوع “حسني مبارك” أن عضو مجلس قيادة الثورة المصري الراحل “عبداللطيف البغدادي” كان الأقدر والأكفأ من بين كل زملائه لقيادة مصر في حقبة ما بعد جمال عبدالناصر. وهذه
مسألة يمكن القول ان الكثيرين ممن عاصروا تلك الحقبة المليئة بالتحديات الداخلية والخارجية يـُجمعون عليها.
فالبغدادي كان يملك كاريزما وسحرا قياديا خاصا شبيها – إن لم تكن أكبر – من كاريزما وسحر رئيسه ورفيقه في
السلاح جمال عبدالناصر. تلك الكاريزما التي تجسدت في طول البغدادي الفارع وأناقته وبشاشته وحبه للتنظيم والدقة في العمل، ناهيك عن مناقبيته العسكرية وما تعلمه في كلية الطيران من إنضباط وحزم. لكن هذه العوامل مجتمعة هي نفسها التي ربما جعلت عبدالناصر يخشاه، خصوصا وأن الأخير القادم من بيئة فلاحية متواضعة كان حذرا ممن يضاهون شعبيته، ومتوجسا من طبقة الأثرياء التي كان البغدادي، المنحدر من مدينة المنصورة، أحد أبنائها، لا سيما أن البغدادي كان الأول على دفعته حينما تخرج من كلية الطيران في عام 1939 ، والطيار العربي الأول الذي حلـّق فوق تل أبيب وقصفها.
ولهذا السبب قام عبدالناصر في أقرب فرصة سنحت له بضرب رفيقه وأحد ألمع المشاركين له في الإعداد لإنقلاب 23 يوليو 1952 ضد الملكية، عبر تجريده من حقيبة الدفاع التي منحها له أول رؤساء مصر اللواء “محمد نجيب” في حكومة الثورة الأولى في عام 1952 ومنـَحه بدلا من ذلك حقيبة هامشية غير سيادية هي وزارة الشئون البلدية والقروية، مع تعيين صديقه المقرب الصاغ (الرائد) عبدالحكيم عامر بدلا منه في وزارة الحربية بعد ترفيعه دفعة واحدة إلى رتبة مشير. ولما حقق البغدادي شعبية كبيرة وصيتا جماهيريا من خلال منصبه كوزير للبلديات بسبب إنجازه لمشروع كورنيش النيل في زمن قياسي، لم يجد عبدالناصر وسيلة لإبعاد زميله عما تحقق له من وهج جماهيري سوى إسناد منصب رئيس مجلس الأمة المصري له في عام 1958 ، علما بأن هذا المنصب كان قاب قوسين أو أدنى في حينه من التبخر بسبب قيام الوحدة المصرية – السورية في العام ذاته.
بعد إتمام الوحدة الإندماجية ما بين مصر وسوريا وقيام “الجمهورية العربية المتحدة” على عجل كما هو معروف، صار البغدادي مجرد نائب لرئيس الجمهورية دون صلاحيات تـُذكر ضمن مجموعة من نواب رئيس الجمهورية من الإقليمين الشمالي والجنوبي، الأمر الذي شعر معه الرجل بالإهانة والتهميش مجددا، مما دفعه إلى الإنزواء والإختفاء من المشهد السياسي المصري إبتداء من عام 1963 وحتى وفاته في عام 1999 .
هذه الحالة تنطبق مع بعض الفوارق على عضو تاريخي آخر من أعضاء مجلس قيادة الثورة المصري الذي راح يأكل أبنائه الواحد تلو الآخر ويقصيهم، حتى لم يبق إلى جانب عبدالناصر قبل وفاته بعدة سنوات سوى عبدالحكيم عامر وأنور السادات وحسين الشافعي. ونقصد بهذا العضو “زكريا محي الدين” الذي رحل عن دنيانا مؤخرا عن عمر ناهز السابعة والتسعين، شغل خلاله مناصب حساسة كثيرة، وكادت أن تؤول إليه قيادة مصر في واحد من أحلك ظروفها، لولا مشيئة الأقدار، وطغيان عواطف الجماهيرعلى عقولها.
وعلى الرغم من أن كلمة “لو” لم تعد تجدي بعد كل ما حدث في التاريخ المصري المعاصر، فإن إستخدامها في معرض التذكير فحسب أمر لا غبار عليه.
فلو كان أتيح للبغدادي أن يبقى في منصبه كوزير للحربية، لما آلت قيادة الجيش المصري العظيم إلى ضابط لم يكن يحمل من المؤهلات سوى قربه وعلاقاته الشخصية بعبدالناصر، ولما دخل هذا الجيش في حرب 1967 دون إستعداد وتأهيل وخطة عسكرية محكمة، وبالتالي لما خسرنا أراض عربية بلغت مساحتها أضعاف ما خسرناه في حرب فلسطين التاريخية الأولى سنة 1948 ، ولما كنا اليوم إزاء قضية معقدة كقضية الشرق الأوسط التي إستنزفت الكثير من مقدرات وجهود الأمة العربية.
ولو أن الراحل “زكريا محي الدين” قبل رئاسة مصر بعد خطاب التنحي الناصري الشهير في عام 1967 لما آلت الرئاسة من بعد عبدالناصر إلى أنور السادات، ولما تخبطت مصر بمشاريع الأخير السياسية التي مكنت جماعات الإسلام السياسي من الظهور والعمل على السطح والتواجد في مفاصل الدولة المصرية قبل أن يسقطوه صريعا في عيد إنتصاره في السادس من أكتوبر 1981، وبمشاريعه الإقتصادية التي تآكلت بسببها الطبقة المصرية الوسطى على حساب ظهور الطبقات الطفيلية الفاسدة. دعك من وصول رئيس الصدفة “حسني مبارك” إلى السلطة وتأسيسه لدكتاتورية فاسدة مترهلة، من بعد بضع سنوات من الإنجازات التي لا يمكن إنكارها بطبيعة الحال.
لقد كتب الكثيرون مؤخرا عن مناقب “زكريا محي الدين” الذي ظل طويلا ملازما لرفيقه عبدالناصر، وساعده في بناء جهازه الأمني المتين ومخابراته الحربية ذات الشبكات المتعددة من أجل التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية تحت ذريعة إسقاط الأنظمة الملكية “الرجعية” وإستبدالها بأنظمة جمهورية ثورية، ومن أجل تزويد حركات التحرر في آسيا وإفريقيا وبلاد المغرب العربي بالدعمين المادي والمعنوي وصولا إلى إستقلال بلدانها من نير الإستعمار.
لكن “محي الدين” كما سمعت شخصيا من إبن أخيه الدكتور “عمرو محي الدين” الذي درسني لفترة قصيرة في كلية العلوم السياسية بجامعة القاهرة، كانت له آراؤه ومواقفه السياسية الخاصة غير المتقاطعة مع رؤى عبدالناصر، وخصوصا لجهة كيفية التعامل مع قطبي الحرب الباردة (الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي). وبكلام أوضح كان الرجل، رغم ما إتصفت به شخصية من غموض، أقرب إلى اليمين منه إلى اليسار، وربما لهذا السبب قيل وتردد أن تنازل عبدالناصر له دون سواه عن الرئاسة بـُعيد “نكسة” السادس من حزيران كان مقصودا، أملا في أن يتمكن الرجل، برؤيته اليمينية المتقاطعة مع الغرب، وبعلاقاته التي بناها مع أجهزة الأمن الألمانية ووكالة المخابرات المركزية الإمريكية أثناء ترتيبه لإرسال البعثات المصرية إلى هذين البلدين من أجل إعداد وتدريب ضباط الجيش والشرطة على علوم المخابرات الحديثة من إصلاح ما أفسده الخط الرسمي المصري المتماهي مع المعسكر الإشتراكي.
ويؤكد كلامنا هذا ما أورده الكاتب المصري المخضرم الأستاذ “صلاح عيسى” في مقالة نشرت له مؤخرا تحت عنوان “رجل يوليو الذي كان يرى أن على الثورة أن تمد أقدامها بقدر طول لحافها” من أن “محي الدين” عارض مثلا قرار عبدالناصر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية والإعتراف بألمانيا الشرقية في منتصف الستينات عقابا لـ “بون” على إعترافها بـ “تل أبيب”. وبعبارة أخرى كان من رأي الرجل أن المقاطعة التي دعا إليها عبدالناصر، وحشد خلفها معظم الدول العربية السائرة في ركابه، لن تؤثر في قطب صناعي كبير مثل ألمانيا الغربية، وإن عواقبها على العرب أكثر من نفعها، خصوصا في ظل حاجة مصر وقتذاك إلى مساعدة الخبراء العسكريين الألمان ممن كانوا متواجدين في مصر للعمل في مشاريع الصواريخ الحربية وتم طردهم بقرار إرتجالي، ناهيك عن الدور الكبير الذي لعبه الألمان في تأسيس وتقوية جهاز الأمن المصري المتواضع الموروث من العهد الملكي.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي
elmadani@batelco.com.bh