لا يختلف احد بان حل المسألة الكردية في تركيا معقّد ومتشابك. بالمقابل ليس صحيحا ان تبقى المسألة معلقة وتترك بدون البحث عن الحلول، كما انه من العبث القول بأنه لا توجد أطراف وحتى إن كانت مشاركة في الحكم لا تريد انتهاء من المسألة الكردية. ولا يصلح القول بان كل الفعاليات والقوى التركية تريد قصم ظهر الأكراد وإنهائهم سياسياً و كيانياً.. على العكس ،هناك من يتعاطف مع المسألة الكردية من الأتراك، وهناك من الكتاب في الصحف اليومية من يشيد بدور أكراد العراق وبدور بعض أكراد تركيا. ويطالب هؤلاء الكتاب عبر تعليقاتهم اليومية بإيجاد حل واقعي لأكراد تركيا، وينبهون من مخاطر التدخل التركي في الشؤون العراق الداخلية بحجة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني. وهناك من فاعلون مدنيون وسياسيون ينبهون بان التدخل في كردستان العراق او قيام باجتياحها من قبل الجيش سيجلب عواقب وخيمة على صعيد مستقبل التحالف التركي الأمريكي من جهة، والأوربي والإقليمي من جهة أخرى. ولا نستغرب ان يتحدث بعض الكتاب عن ردود فعل العرب بعد ان يحصل الاجتياح ، ويتساءل البعض: “الى أي مدى سنحافظ على العلاقة مع العرب حين دخولنا الى الشمال العراق؟”. هذا فضلا ان بعض الضالعين في الشأن السياسي التركي يتهم الجيش بصم آذانه لصيحات الساسة ويتهم الجيش بان قراءته للوضع قراءة ناقصة وغير واقعية. ويرى هذا البعض ان الأكراد اليوم ليسوا كأكراد السابق ويرى بان الأكراد “ما زالوا يريدون علاقات قوية وصحيّة معنا… لماذا لا نستغل هذه النية الكردية ونوسع دائرة النقاش والحوار معهم، وربما مفتاح الحل “السحري” للداخل التركي يكون في يد أكراد العراق”!
في الواقع الحال ان أكراد العراق اليوم يقدمون أنفسهم ويتظاهرون بأنهم أقوياء. ولعل عدداً من الوقائع على الأرض تدفع بالأكراد ليكونوا بهذه الهيئة. والحق ان الأكراد هم من أكثر الأطراف العراقية قرباً من القوات الأجنبية في العراق، وهم يملكون علاقات جيدة بعدد من المؤسسات السياسية والإعلامية والاقتصادية المؤثرة في البيت الأبيض. ويعرف الكرد بان مناطقهم منذ سقوط النظام العراقي أصبحت من ضمن مناطق النفوذ الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. و حسب التقارير الإعلامية، هناك سعي أمريكي لاستثمار هذه المنطقة لصالح التواجد الأمريكي فيها. فاذا كانت تركيا ما زالت تراهن على العلاقة الحسنة مع الأمريكان على أساس ان هناك قاعدة أمريكية جوية على أراضيها(انجر ليك)، فمن الأحسن لها ان لا تنسى بان مسألة تواجد القواعد الأمريكية تبرز رأسها بقوة في أراضي كردستان، هذا فضلا عن تواجد شركات واستثمارات أمريكية بزخم في كردستان..الخ
في الحقيقة ان الوقائع التي ذكرناها هي وقائع أساسية، وأنه سبب مباشر لعدم تقديم الولايات المتحدة الأمريكية أية مساعدة لتركيا في صراعها مع الأكراد. ومن يلمّ بالسياسة يدرك بان شكل التعاطي أمريكي مع هواجس ومخاوف تركيا هو دليل كاف على ان العلاقة الحميمية التي كانت تجمع الأتراك بالأمريكان تعرضت لهزات وهي قابلة التدهور على نحو أكثر.
في ضوء ذلك، فالوقائع تقول لم يبق أمام تركيا غير خيار واحد، كون خيار الحرب غير ناجع وغير صحي لا قبل الانتخابات التركية ولا بعض الانتخابات التركية. فالخيار الناجع هو إعادة الذاكرة التركية الى عقدين من الزمن واختفاء ظواهر الحرب التي تركت الجروح في عمق الوجدان الكردي. وهو يتم عبر قيام تركيا بشكل جدي بإنعاش المناطق الكردية في جنوب شرق تركيا(كردستان تركيا) واستئصال جرثومة الكيدية بين الأتراك والأكراد، وان تقوم تركيا بحل جميع فعاليات العسكرية، مثل قوات حراس القرى في المناطق الكردية، وإصدار عفو شامل لكل منضو تحت لواء حزب العمال الكردستاني. بمعنى آخر، ان تقوم تركيا بتنفيذ بكل ما وعد رئيس حكومة تركيا في زيارتيه الى المناطق الكردية وطي صفحة الماضي.
ولا ريب أن هناك عوامل ومؤثرات قائمة ستبقة ستقف عقبة لتطور الحالة الكردية التركية ايجابيا. لذلك قد لا نخطئ عندما نقول بان على السلطات والقوى التركية بان تقوم ببادرة حسن نية من جهتها ، وهذا ليس عيبا حيث كان لهذا السلوك حضور في تجارب الدول مع معارضاتها، ولعل تركيا هي أكثر من يعرف ذلك.
والحق ان تركيا كانت قد لامت السلطات البلغارية في السابق على عدم قيامها بخطوات ايجابية تجاه أتراكها، وطالبتها بإعطائهم حقوقهم مثلما تفعل اليوم مع الحكومة العراقية وتطالبها ان تلغي قرار التطبيع في كركوك وتزعم بان السلطات العراقية تهمش التركمان..
والحال.. ان أمام تركيا فسحة من الوقت لتجنب نفسها من انزلا قات الحروب، وبما إنها تقترب من الانتخابات البرلمانية والرئاسية ولأن ورقة حزب العمال الكردستاني حاضرة بقوة في التجاذبات الداخلية فهي مدعوة ان تقارب جرأتها بجرأة رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان عندما واجه الأخير رئيس أركان الجيش يشار بيوك انيت بقوله “هل انتهينا من 5000 ألف (من عناصر حزب العمال) في الداخل حتى نقوم بمجازفة ونخاطر بجيشنا لاجتياح شمال العراق بحثا عن 500 عنصر”.
المتابع للوضع الكردي يعرف كم ان هذه المقولة، وموقف اردوغان، فعل فعله في عواطف الأكراد وكم غيّر وجهة نظر الأكراد ب،”العدالة والتنمية”. فبدأنا نسمع كلاما ايجابيا حتى ممن كانوا الأكثر عداء تجاه السلطات التركية . هذا الموقف الاردوغاني الجريء دفع بـ”يشار كايا”، وهو برلماني كردي تركي سابق ورئيس البرلمان الكردي الذي أسسه أوجلان في المنفى، إضافة الى انه ينتمي الى اعرق العائلات الكردية في تركيا وأنه أكاديمي وسياسي فاعل في أوساط تركيا والكرد للقول: “لو أتيحت لي فرصة التصويت سيكون صوتي لـ”العدالة والتنمية”.. لكن أمام هذا الحزب خيار هو ان يكون الى جانب من يشاطره من الأكراد.. فلا احد يقبل من مقاتلي العمال الكردستاني ان يبقى 50 عاما في الجبال..!”
ملخص ما نريد قوله هو ان تركيا في مرحلة حرجة من عمرها السياسي، ولعل هذه المرحلة هي من أكثر مراحل الأتراك ثقلا بالتجذبات الداخلية، وبالصراع التناحري بين أحزابها ، وربما سيكون هذا الوضع المثقل فاتحة الخير لتركيا ومشاكلها.
دون أدنى شك إذا قاربت القوى والفعاليات التركية أوضاعها وأوضاع بلدها ووجودها كبلد له لشأن في المنطقة، فان عليها ان لا تضيع فرصة تسوية مع الأكراد.. عليها ان لا تضيع المواقف الايجابية الكردية تجاه اردوغان مثلما فعلت في السابق حينما أضاعت فرصة المواقف الكردية الايجابية تجاه رئيس التركي السابق توركوت أوزال. ولعل المناخ اليوم أكثر صحة من المناخ الذي كان سائدا في حقبة توركوت أوزال:
1- في مرحلة أوزال كان الأكراد على الخلاف مع العمال الكردستاني. أما اليوم فأكراد العراق لهم علاقة جيدة ومؤثرة في حزب العمال. ومن جانب آخر لهم علاقات (ما زالت قائمة) مع المسؤولين الأتراك، الأمر الذي يساعدا لتخفيف الخلاف بين أكراد تركيا وسلطاتها.
2- أما العامل الثاني فيتطلب من الحكم في تركيا استغلال موقف حزب العمال الأخير بإعلانه الهدنة من طرف واحد لحين انتهاء تركيا من الانتخابات. هذا الموقف مساعد ويسهم في ترتيب الوضع الداخلي، والاهم انه موقف وطني يجب استغلاله والتأسيس عليه..
وبعيدا عن كل ما سلف ألا تكفي حرب خمسين عاما بين الأكراد وتركيا أثبتت الوقائع انها كانت حلا غير ناجع؟ لذلك، الخيار الحوار هو الأنجع في ترتيب الحال بين الأتراك والأكراد خصوصا في هذه المرحلة.. أي قبل الانتخابات..!!
faruqmistefa@hotmail.com
كاتب سوري كردي