يثير يوم 8 آذار من كل عام ذكريات معاناة مرّة ترتبت على إعلان حالة الطوارئ في هذا اليوم المشؤوم من عام 1963، حيث كان لحالة الطوارئ التي نعيش تحت وطأتها منذ أكثر من 43 عاما، انعكاسات سلبية خطيرة على كل مناحي الحياة، فقد ترتب على إعلان حالة الطوارئ، وتنفيذها بطريقة غير قانونية، إلغاء دور الدستور والقوانين، وإعطاء إجازة قسرية للقضاء، ليس باعتماد محاكم أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية، بما في ذلك استخدام المحاكم الميدانية و العسكرية في محاكمة مدنيين، فحسب بل وبالضغط على القضاة، وإجبارهم، بالترغيب والترهيب، على تنفيذ مطالب الأجهزة الأمنية منهم.
وما زاد الأوضاع سوءا اقتران تطبيق حالة الطوارئ بإعلان الأحكام العرفية، وهذا أطلق يد أجهزة المخابرات- خاصة مع الحماية التي وفرتها لها المادة (16) من المرسوم التشريعي رقم (14) الذي أنشئت بموجبه إدارة المخابرات العامة و الصادر بتاريخ (15/1/1969) والتي نصت على أنه:
” لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبوها أثناء تنفيذ المهام الموكولة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر من المدير” – في التصرف بحياة المواطنين ومصالحهم والتحكم بمستقبلهم ومستقبل أولادهم. لقد تغولّت هذه الأجهزة ومارست كل أنواع الابتزاز والاستنزاف النفسي والوجداني، وكل أصناف القهر الجسدي والروحي. خاصة في ضوء اعتماد السلطة سياسة قمعية صرفة في مواجهة كل أشكال الحراك الوطني، السياسي والاجتماعي، ومنحها أجهزة المخابرات حرية التصرف دون قيد أو شرط أو رقيب أو حسيب، وفق المرسوم المشار إليه، لذا طالت الاعتقالات السياسية ليس الأشخاص المطلوبين فحسب بل وذويهم وأقاربهم، إذ كثيرا ما اعتقل الأب أو الأم أو الأخ أو الأخت، أو جميع أفراد الأسرة، للضغط نفسيا واجتماعيا على مطلوب هارب أو متواجد خارج البلاد، أو لترويع المجتمع أو للسببين معا، ناهيك عن حرمان محيطه الأسري من فرص العمل في مؤسسات الدولة وإداراتها، لأن التوظيف يتطلب موافقة أجهزة المخابرات التي تعترض على توظيف شخص له أقارب معتقلين أو فارين، لأن المعارضة تنتقل بالوراثة، لعل السلطة تتبنى المقولة المنسوبة إلى تروتسكي والتي مفادها ” أن الثورة تنتقل بتناسخ الأرواح “، ما لم يكن على علاقة جيدة مع السلطة، عضو نشط في الحزب الحاكم أو مخبر لدى أجهزة المخابرات أو يدفع ثمن الموافقة مبالغ طائلة، وتعرضهم لمساءلة ومضايقة، حتى الأصدقاء والجيران تعرضوا للمساءلة والمضايقة والاعتقال التعسفي لاستكمال التحقيق، أو للابتزاز النفسي والمالي.
توج ذلك بإعادة صياغة النخبة الوطنية في الإدارة والتعليم والمؤسسات الخدمية عن طريق اعتماد قاعدة الولاء لا الكفاءة، وهذا قاد إلى ترهل كل مناحي الحياة الوطنية،ظهر واضحا في مجال التعليم حيث باتت الجامعات السورية تخرج طلبة شبه أميين في مجال اختصاصهم ، بسبب وضع الإنسان غير المناسب في مكان الإنسان المناسب – اعتقل جاسوس في رئاسة الوزراء الفرنسية أيام الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول ولم يفلح المحققون في إدانته فاستدعاه الرئيس ديغول وفاجأه بالسؤال بماذا كلفت فأجابه الجاسوس بوضع الإنسان غير المناسب في مكان الإنسان المناسب- أدت الممارسات الوحشية التي سادت، خاصة بعد المجابهة الدامية بين السلطة والطليعة المقاتلة التي انشقت عن حركة الإخوان المسلمين في الفترة من 1977 إلى 1981، إلى إضعاف الحركات السياسية المعارضة عبر الملاحقة والسجن لفترات طويلة بعد محاكمات غير دستورية أو قانونية، وإنهاء كل ملامح الاستقلالية في أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي تقودها السلطة ، ناهيك عن العمل المنهجي الذي قامت به أجهزة المخابرات لتفتيتها، والى تكريس ثقافة الخوف في المجتمع عن طريق إلحاق الأذى استنادا إلى وشايات المخبرين والعملاء وتسليط عقاب جماعي على الأسر التي يخرج منها معارض، والتي- ثقافة الخوف- أفرزت خرابا نفسيا وأخلاقيا وانهيارا روحيا تجلى في استقالة المواطنين عن لعب دور في الشأن العام، وسيادة عقلية الخلاص الفردي، حتى لو جاء على حساب الأهل والأقارب والأبناء، بتداعياتها: فساد أخلاقي(ممارسة المداهنة والتزلف والوشاية والرشوة) وإعلان الولاء الكاذب وتناقض ظاهر الفرد وباطنه والذي ولّد حالة انفصام شخصية.
كما قاد طول فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وما شهدته الحياة اليومية من بطش مباشر، وضغط نفسي على المواطنين، ومن تركيز سياسي/ إعلامي على عقولهم بدءا من الطفولة المبكرة(الطلائع، الشبيبة، الحزب) والضخ السياسي اليومي عبر آلة الإعلام الكبيرة – وصف الروائي البريطاني الكبير جورج اورويل في روايته الشهيرة 1984 الاستعداد المدهش لدى غالبية الناس لتصديق ما يقال لهم مهما كانت درجة منافاته للعقل، إذا ما جرى ترديده بالدرجة الكافية، وإذا ما اقترن هذا الترديد والتكرار بإثارة الشعور بما يسميه “الوطنية الساذجة ” والتي تنطوي على التسليم بكل ما يقوله الزعيم واعتبار الوطن والزعيم شيئا واحدا. ورأى أن الانتصار الحقيقي للحكم الشمولي لا يتم باستئصال معارضيه جسديا أو بزجهم في السجون، بل يتم بتغيير ما يدور في رؤوسهم من أفكار، وإحلال أفكار ملائمة محلها- ومركزة الحياة الوطنية حول القيادة، جرت عملية تهميش منهجي لكل الشخصيات الوطنية في التاريخ السوري لحساب إبراز دور الرئيس، وقهر اقتصادي عبر إقامة تكتل من السلطة والحزب والمنظمات الشعبية لضبط إيقاع حياة المواطنين الاقتصادية وجعل لقمة عيشهم بيد قوى السلطة، كي تسيطر على ردود أفعالهم، وهذا رتب تنميط ردّ فعل المواطنين السياسي، وأفقدهم حماسهم وتحفزهم الوطني، بعد أن تلاشى الإحساس بالارتباط المباشر والذاتي والحر و تآكل الدافع الذاتي لطول إخراج المواطنين في مسُيرات تنظمها السلطة بصورة قسرية ، الذي كان يدفعهم إلى النزول إلى الشوارع عند كل حدث وطني أو عربي، فقد خرجوا في حرب السويس وحرب تحرير الجزائر، بينما تجمّدت مشاعرهم الوطنية، حيث تمر صور القتل الوحشي الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، بشكل يومي، ناهيك عن تجمد عواطفهم خلال اجتياح إسرائيل واحتلال بيروت عام 1982 والعدوان الأميركي على العراق عام 1991، حيث مرت دون رد فعل شعبي يناسب هذه الأحداث الجسام، وحتى زلزال العراق واحتلاله عام 2003 لم يستطع أن يخرجهم من حالة الاستقالة السياسية والموت السريري، فالأغلبية من المواطنين السوريين غارقة في الاغتراب، الذي انعكس بين أبناء الطبقات العليا والوسطى بتطليق الحياة العامة والانغماس في حياة يومية هامشية، وبين أبناء الطبقات الشعبية بممارسة العنف الاجتماعي.
أما حال القوى السياسية فحدث ولا حرج فقد تلاشت حركات بكاملها تحت الضغط المباشر(الإخوان المسلمون والقرار 49 الذي يحكم على من يثبت انتسابه لحركة الإخوان المسلمين بالإعدام والحزب الشيوعي السوري –المكتب السياسي وحزب العمل الشيوعي بزج معظم كوادرهما في السجون لفترات طويلة ) بينما أخذت حركات أخرى تطحن نفسها باجترار مقولاتها، وهذا أدى إلى فقدان عناصر القوة التي كانت تمتلكها، فتحولت إلى مزق وحلقات مغلقة و معزولة.
لقد تدمرت الحياة الوطنية وساد الصوت الواحد، بإخراج السياسة من المجتمع، بعد ضرب كل تعبيراته المستقلة، ما أفقد الحياة الوطنية توازنها وحول الوطنية السورية إلى حالة هلامية مبهمة، سخر السيد فاروق الشرع من المعارضة قائلا:” إنها لا تستطيع إدارة مدرسة ابتدائية” دون أن ينتبه إلى أن ذلك نتيجة لممارسات السلطة وبعض بركاتها وان هذا في التحليل الأخير دليل على ضعف السلطة نفسها.
ومع غياب القانون والمراقبة البرلمانية والمحاسبة القضائية – بسبب تغُول السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية – حصلت عملية نهب منظم للمال العام، بطرق وأساليب عديدة، وأفسح في المجال لممارسة عملية ابتزاز المواطنين من قبل أجهزة الأمن، في إطار مكافأة أو رشوة هذه الأجهزة على دورها في قمع المواطنين، وموظفي الدولة(شرطة السير، الشرطة البلدية، موظفي المالية والضرائب…..الخ) لتخليص السلطة من تحمل تبعات تدني رواتب العاملين في مؤسساتها وإلقاء حل تبعات ضعف رواتب العاملين في مؤسسات الدولة على عاتق المواطنين الذين لا يجدون قوت يومهم . وهذا إلى جانب انهيار قواعد النظام الاقتصادي بفعل الفساد والنهب والتآكل، خاصة في ضوء سيطرة عدد محدود من أبناء المسؤولين وأقاربهم على الدورة الاقتصادية حيث لم تبق لصغار المستثمرين والتجار دور في الحياة الاقتصادية في البلاد، قاد إلى إفقار قطاعات واسعة من المجتمع لم تعد تملك القدرة على تلبية مستلزمات حياة عادية بسيطة، فانقسم المجتمع بين أغلبية فقيرة وأقلية تلعب بالملايين.
كما أدت السياسة التمييزية التي ترافقت مع القمع السياسي والاجتماعي، إلى انكماش المشاعر الوطنية والى عودة المواطنين إلى مواقع ما قبل وطنية، مواقع طائفية وعشائرية وعائلية ومناطقية. وهذا قاد إلى انكماش المجال السياسي إلى حدود العصبيات القائمة على الانغلاق على الذات ما يرتب كبح وحجز التطور الاجتماعي وتحويل المجتمع الواحد إلى مجتمعات متصارعة تنفي بعضها بعضا، كما أدى الظلم الذي وقع على المواطنين الأكراد، إن في مسألة الحرمان من الجنسية أو نزع الأراضي لإقامة الحزام العربي، أو منع تسجيل ملكيات عقارية، والإبعاد عن الوظائف العامة وعرقلة تسجيل المواليد…الخ، إلى حصول انقسام عمودي عميق بين أبناء الوطن الواحد، تجسّد في تشكيلات سياسية خاصة، حيث لم يعد تواجد العرب والأكراد السوريين في حزب واحد أمرا واقعا، أكدت أحداث القامشلي 12/3/2004 وتبعاتها عمق الشرخ الوطني بين العرب والأكراد، ناهيك عن الشك والحذر والكراهية التي سادت علاقات المواطنين بعضهم مع بعض. وقد قاد هذا إلى تفكك الاجتماع السوري وطنيا واجتماعيا، وهذا إلى جانب أزمات سياسية واقتصادية وخدمية خانقة- يشعر المواطنون أن السلطة تتجاهلها وتتركها تتفاقم باتجاه المزيد من الاختناق المعيشي والخدمي، وكأنها ترى فيها وسيلة لشل المجتمع عبر تركه يتمزق في دائرة الاحتياجات اليومية، على طريق تأبيد الخوف والحذر الاجتماعيين- والمجتمع إلى مزيد من التذرر الاجتماعي، وهذا جعل المشكلة الرئيسة التي نواجهها مشكلة قطيعة بين المجتمع والسلطة من جهة و غياب الاندماج الوطني من جهة ثانية ، والأخيرة مشكلة خطيرة وقابلة للتوظيف من قبل قوى خارجية في اتجاهات خطيرة عبر صراعات دامية وبرامج تفكيكية، ما جعل المهمة الرئيسة التي يجب أن يعمل عليها الشعب السوري وحركته الديمقراطية، هي استعادة الشرعية الدستورية وتطبيع العلاقات في الحياة الوطنية بتكريس سيادة القانون و تحقيق اندماج وطني في دولة العدل والمساواة ، والتأسيس لوحدة وطنية حقيقية، تختلف عن الوحدة الوطنية التي تروج لها السلطة(وحدة قائمة على صمت المواطنين المذعورين والمستسلمين وحدة تشبه وحدة الأموات )عبر حوار وطني شامل يهدف إلى إقرار تفاهم حول المستقبل والسعي إلى إقامة دولة الحق والقانون على طريق قيام نظام ديمقراطي والتأسيس لعقد وطني جديد.
ali.a1950@gmail.com
* دمشق