وتناول أجمي المراكشي، في مقال له بعنوان “حادثة حرق المصحف الشريف..قراءة من داخل السويد”، مجموعة من “الحقائق والمعطيات”، داعيا إلى استحضارها، “حتى تنقاد حماسة غضبنا بنور وحكمة فهمنا، ونفوت على الحمقى فرصةَ إحداث شرخٍ يصعب التئامه، خصوصاً مع المجتمع السويدي الذي يشاطرنا تاريخاً عريقاً من المشاعر الإنسانية النبيلة”.
هذا نص المقال:
لاشك أن حرق المصحف الشريف، وازدراء الأديان بما فيها الإسلام، أمرٌ مرفوضٌ ومستهجنٌ من الجميع، وليس هدف هذه المقالة الشجب والتنديد، فذاك أمرٌ لا مزايدة فيه، وإنما القصد محاولة فهم ما يجري، وعلاقة ذلك بطبيعة ونمط التفكير المجتمعي والحقوقي لبلدٍ كالسويد.
لماذا الفهم؟ ببساطةٍ لأنه الكفيل بحسن التعامل مع الحدث وتقديرِ المواقف الواجب اتخاذها حياله، بل وجعله فرصةً بعد أن كان تحديا. وبكثيرٍ من الحكمة والتجرد، مع معايشةٍ يوميةٍ للمجتمع السويدي، وإحاطةٍ ميدانية بأسلوب عيشه وتفكيره، يجدر بنا ونحن نحلل هذا السلوك أن نقرر حقائق تكون بوصلةً هاديةً لمثقفينا ومؤسساتنا المجتمعية، والعمل على الاسترشاد بها عند تحديد طريقة التعامل مع هكذا حدث.
وأولى الحقائق أن الدولة السويدية، بتاريخها السياسي وهيئاتها ومؤسساتها السيادية، عاشت قرنين من الزمان على الحياد بمفهومه الشامل، وأنها لم تكن على الأقل خلال العصر الحديث قوةً استعماريةً حين هاجت العديد من الدول الأوروبية لاحتلال غيرها من الشعوب، مائتا سنة من الحياد والمسالمة لاشك أنها تركت أثراً عميقاً على نمط العيش والتفكير لدى المواطن السويدي البسيط، وحين أقول المواطن السويدي فأنا أقصد ذاك الممتدة جذوره إلى شعب الفايكنغ، ولا أقصد به الطارئَ القادمَ من ثقافاتٍ وبيئاتٍ مغايرة حتى لو حمل جنسية البلد، هذا التاريخ العريق من عدم التخندق مع جهةٍ ضد أخرى أضحى ثقافةً مجتمعيةً يتميز بها الرجل السويدي والمرأة السويدية عن كثيرٍ من شعوب المنطقة، فكلاهما يستقبلان الآخرَ بإظهار قدرٍ غير مألوفٍ من الاحترام والود حتى وهم ينفذون القانون بصرامته! بل إن المواطن السويدي يتمتع بحسٍ إنسانيٍ رفيع، وهو ـ بمعاينةٍ شخصيةٍ للعديد من الحالات ـ سريع الدمعة والتأثر، فقد يتخذ مسؤولٌ ما قراراً سلبياً، لكنه يظهر مع رفضه الكثيرَ من التعاطف، ولن ننسى ـ كنموذجٍ حي تناقلته وسائل الإعلام العالمية ـ تلك الفتاة السويدية التي لم تتجاوز عقدَها الثاني؛ حين منعت طائرةً عن الإقلاع من مطار ستوكهولم، فقط لأن بها لاجئاً أفريقياً يراد إعادته إلى بلده، وليس بينها وبينه سابق معرفةٍ أو علاقةٍ غير الانتماء لـ (الإنسان)!
هذا المجتمع السويدي، بهذه الخصال الإنسانية، رفض ويرفض بشكلٍ قويٍ محاولات حرق المصحف الشريف، وقد تجلى هذا الرفض ـ على الأقل ضمن حدود المدينة التي خطبت في مسجدها مباشرةً بعد محاولةٍ سابقةٍ لعملية الإحراق ـ في رسائل الشجب لهكذا سلوك، والتعاطف مع المسلمين، من جهاتٍ لها وزنها في البلد، وأهمها الكنيسة التي أطلقت أجراسها تدق لحظةَ محاولةٍ سابقةٍ للقيام بهذا الفعل من طرف المتطرف الدنماركي (راسموس بالودان)، ومصالح البلدية التي رخصت للمسلمين في ذلك اليوم بتنظيم تجمعٍ عائلي تخللته أنشطة لصالح الشباب والأطفال، والشرطة السويدية التي وفرت الحماية لتجمع المسلمين في حدود مهامها الموكلة إليها باحترافية، وكبريات المحلات التجارية التي وفرت المياه والعصير والحلويات مجاناً لهذا التجمع العائلي، أما (بالودان) هذا فاكتفى بالنظر إلى جنبيه، حيث لم يجد أحداً، فحمل حقيبته وانصرف! وانتهى اليوم بتبادل رسائل الشكر والتقدير بين الشرطة والبلدية والكنيسة من جهة وبين المسلمين عمار هذا المسجد من جهة، ووقف الجميع على تحضر الإنسان المسلم ونبل مشاعره، بل وانعقدت الكثير من الصداقات في هذا اليوم.
ثاني الحقائق أن السويد دولةٌ ديموقراطية بامتياز، لك أن تقوم فيها بما تشاء، متى شئت، وكيف شئت، بشرط الحصول على الترخيص والتزام القانون، والسويد حريصةٌ على عدم المساس بهذا الحق الدستوري، الذي يرقى في الممارسة السياسية لديهم إلى الحق الوجودي، ولاشك أن تبعات مثل هذا الأمر قد تكون مزعجةً في كثيرٍ من الأحيان، والتعديل الذي ينادي به مثقفون ومتدينون وكثيرٌ من المواطنين هو إدراج المعتقدات الدينية بما فيها الكتب المقدسة ضمن حدود المحظور، قياساً على أعلام الدول ورموز الجماعات العرقية، ذلك أن السويد كبلدٍ علماني يعتبر الدين شكلاً من أشكال الفكر القابل للنقد تارةً والسخرية تارات، والدولة تقف من هذا الأمر موقف الحياد السلبي، وهو ما عبر عنه رئيس وزرائها بأنه يرفض هذا السلوك ـ أي حرق المصحف الشريف ـ غير أنه لا يمكنه منعه، (عدم المنع) هذا يشمل المسلمين أيضاً، فقد تطوع عددٌ من شبابهم قبل أيامٍ قليلة من حادثة الإحراق، فحصلوا على تصريحٍ لجمع تبرعاتٍ مالية بغرض بناء المساجد، وهم يصرحون علانيةً في حملتهم أن هدفهم هو بناء مائة مسجد في عموم مدن وقرى السويد!
ثالث الحقائق وأشدها إيلاماً للقلب أن الإنسان السويدي ـ هو نفسه ـ أضحى ضحيةً لعمليةٍ تضليلية ضخمةً وكبيرة تقودها للأسف الشديد حكوماتٌ عربيةٌ إسلامية ضد المسلمين، وضد التواجد الإسلامي بالدول الأوربية، بدعوى مكافحة الإرهاب! مع العلم أن الإرهاب في كثيرٍ من حالاته صناعةٌ استخباراتية بامتياز، وهو الخبز اليومي الذي تقتات عليه بعض أنظمة الشرق الأوسط، فما معنى أن تصدر بعض الحكومات العربية عشرات اللوائح السمينة والمتجددة بها إدراجٌ لأشخاصٍ ومؤسسات إسلامية أوروبية تتهمها بالإرهاب؟! ودولهم الأوربية تعلم يقيناً أن هؤلاء ـ ومنهم أطباء وأساتذة جامعيون وأكاديميون … ـ عين التمدن والتحضر؛ والأحرص على السلم المجتمعي، إني لا أرى الدانماركي (راسموس) إلا ضحيةً لمثل هذا البأس الشديد من بني جلدتنا اتجاه بني جلدتهم! أما المدعو (موميكا) فشخصٌ من خلفيةٍ شرق أوسطية مليئةٍ بالعاهات والعقد والطفرات المتقلبة، لا يليق أن نحاكم بيئةً وفكراً ببيئته وفكره (إن كان له فكرٌ أصلاً)، ولا حتى أن نلتفت إليه.
ختاما، لابد أن نستحضر هذه الحقائق والمعطيات، حتى تنقاد حماسة غضبنا بنور وحكمة فهمنا، ونفوت على الحمقى فرصةَ إحداث شرخٍ يصعب التئامه، خصوصاً مع المجتمع السويدي الذي يشاطرنا تاريخاً عريقاً من المشاعر الإنسانية النبيلة.
تحليل جيد