أعرب رئيس أركان الجيوش الأميركية مارتن ديمبسي، بعد جولة بالمروحية فوق بغداد في مارس الماضي، عن قلقه من رؤية “الكثير من الأعلام والشعارات التابعة لميليشيات شيعية مرفوعة من قبل القوات التي تقاتل تنظيم داعش، في حين أن الأعلام الوطنية العراقية نادرة”. وفي تصريحات لأكثر من مسؤول أميركي اتهام لداعش بتبني أفكار من العصر الحجري. تدل هذه الشهادات بالفعل على ما آلت إليه أوضاع بلاد ما بين النهرين، لكن النتيجة كانت تتوقعها واشنطن عندما شنت الحروب على العراق، أليس وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر هو الذي حذر قبل ربع قرن نظيره طارق عزيز بما فحواه “سنعيدكم إلى العصر الحجري بالضربات العسكرية والحصار الاقتصادي”.
بعد إثنتي عشرة سنة على دخول الجنرال الأميركي تومي فرانكس إلى بغداد، ها هم العراقيون يعانون من أساليب العصر الحجري. بدأ ذلك مع ممارسات التعذيب في سجن أبو غريب، وقطع الرؤوس مع الزرقاوي واستخدام المثقاب مع أبي درع الملقب بـ”زرقاوي الطرف الآخر”، وصولا إلى “إدارة التوحش” مع البغدادي وأضداده من ميليشيات الحشد الشعبي. تنهار منظومة القيم وتموت الإنسانية في العراق وسوريا مع حرق البشر وتدميرهم بالبراميل الساقطة من السماء، ولا يمكن لمن شاهد الصور التي قام بالتقاطها وتهريبها “قيصر” (مصور في الشرطة العسكرية السورية هرب خارج البلاد ومعه 55 ألف صورة لـ11 ألف ضحية تم تعذيبها في سجون النظام السوري) إلا أن يتذكر مشاهد معسكرات النازية.
مسلسل الجنون الدموي وانفلات الغرائز باسم العصبية أو باسم الدين أو لغايات ومصالح إمبراطورية إقليمية أو كونية، يجعلننا نتصور أن أجزاء كبيرة من الهلال الخصيب تحولت إلى ديكور فيلم الحديقة الجوراسية. الرعب في الفيلم الأميركي “جوراسيك بارك” اقتصر على زوار الحديقة في مواجهة الديناصورات المخيفة، دون أي وسيلة تساعدهم على تجنب الكائنات المرعبة. لكن في مسلسل الرعب الحقيقي هناك بشر خلعوا إنسانيتهم ومجتمع دولي يتكلم دون أفعال عن تحالفات وخطط، لكن السياق والإخراج لأدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين، يحيلاننا إلى استنتاج بأن هذه المنطقة غدت مسرحا للعبة أمم جديدة وفيها توظيف للإرهاب بأدواته الرسمية وغير الرسمية، وكأن الهدف الفعلي تدجينها ودفعها إلى التخلف واستمرار الهيمنة عليها، ألا نتذكر “معادلة النفط مقابل الغذاء” وتأجيج الفتنة السنية الشيعية وكيف أخذت تسقط الدول المركزية، وتصبح التغريبة السورية أقسى من التغريبة الفلسطينية.
في الفصل الأول من الدراما المشرقية بعد نهاية الحرب الباردة، كانت حرب الخليج الثانية (1990 – 1991) البرهان على التفوق الأحادي الأميركي، لكن جورج بوش الأب لم يشأ إسقاط بغداد وفكر بالعواقب المترتبة على ذلك. انتظر الأمر وصول ابنه إلى البيت الأبيض صحبة جماعة المحافظين الجدد، لكي يكملوا المهمة التي بقيت ناقصة وفق وجهة نظرهم بخصوص العراق، ويكون ذلك المعبر لتركيب النظام العالمي الجديد على قياس المصالح الأميركية. وكما كانت واقعة بيرل هاربور مدخل واشنطن إلى الحرب العالمية الثانية، أتى اعتداء 11 سبتمبر ليشكل الذريعة للحرب في أفغانستان والعراق. أتى الفيل الأميركي إلى مخزن الخزف العراقي ليحطم البنيان القائم ويعيد التركيب وفق نظرية الفوضى الخلاقة كي ينبثق الشرق الأوسط الديمقراطي الكبير من القدس إلى لاهور، وعلى مقاس الانتشار الجغرافي للقيادة المركزية الوسطى للقوات الأميركية. أتى جنرالات واشنطن ومبعوثي لوبي النفط دون أن يتنبهوا إلى تاريخ العراق وموقعه، وكونه أرض الشقاق في الإسلام وميدان الصراع بين العرب والفرس.
ربما كانت مدارس بحثهم وغرفهم الاستراتيجية ووكالات أمنهم تفقه ذلك وأرادت ضرب “الإرهاب السني المتطرف” على أرضه بعدما تعاونت بشكل غير مباشر مع نظام صدام حسين في ضرب تمدد “التطرف الأصولي الشيعي”. إنها للوهلة الاولى لعبة “فرق تسد” وهي لعبة أي مستعمر. لكن خلاصة حروب واشنطن منذ 2001 إلى اليوم تدل على سهولة في الاكتساح والاحتلال نتيجة التفوق الكامل، لكن في مسألة التمركز والاستقرار وإعادة بناء الدول لم تفلح واشنطن في تقليد الإنكليز والفرنسيين وتجاربهم الاستعمارية المديدة.
يحق للمراقب التساؤل إذا كان أساطين واشنطن تنبهوا إلى أن إيران هي التي استفادت من حربي أفغانستان والعراق كي تعزز مكانتها الإقليمية في الوقت الذي كان فيه البيت الأبيض يصنفها زعيمة لمحور الشر؟ وهذا الإبهام لم يتبدد لأن التعاون بين واشنطن وطهران بدأ في العراق عام 2004 وتطور مع بدايات عهد أوباما كي يؤمن «انسحابا مشرفا» من العراق وينكشف رهانه على ترتيب اتفاق العصر مع طهران.
إبان المرحلة الانتقالية كان نظام بشار الأسد يوثق علاقته بطهران إلى حدود التبعية. وكان اغتيال رفيق الحريري في 2005 المقدمة العملية لتغيير وجه الشرق، وبدء صعود المشروع الامبراطوري. بيد أن صعود الحراك الثوري السوري منذ عام 2011 أربك حسابات الإيرانيين والأميركيين في آن، وأتاح تقاطع المصالح مع روسيا وإسرائيل في تأجيل التغيير في سوريا وجعلها ساحة لنزاع دولي متعدد الأقطاب يتبارز فيها الجهادان السني والشيعي والمحاور الإقليمية في حرب استنزاف مفتوحة.
بعد فصل احتواء استخدام الأسلحة الكيميائية في سبتمبر 2013 ونسيان أوباما لخطوطه الحمراء في سوريا، سارت الأمور باتجاه آخر وبدأ فصل جديد من المأساة مع صعود “داعش” ونشأة ما يسمى ”دولة الخلافة” مما دفع بأوباما إلى العودة العسكرية إلى العراق ولو بخجل عبر تحالف مخصص لمحاربة الظاهرة الجديدة. ولاشك أن عدم السيطرة على الوضع السوري قاد إلى بروز المشروع الجهادي بتلاوينه المختلفة، في موازاة المشروع الإمبراطوري الإيراني، وعلى وقع الحروب الإسلامية الداخلية.
تتعدد المسؤوليات في أحوال التفكك ودورات العنف في العراق وسوريا، وهي داخلية وإقليمية في المقام الأول، وهي بنيوية أيضا ولها صلة بالأساطير والمعتقدات، إلا أن هناك مسؤولية خاصة تقع على عاتق العراب الأميركي الذي فكر بأن مفردات الديمقراطية والعصر الحديث والاستقرار تمر عبر منطق القوة الفظة في أيام بوش الابن، أو عبر الاستنزاف والتردد وعدم القيام بموجبات الزعامة العالمية في عهد أوباما.
يقول جون آلن، منسق التحالف ضد داعش، إن التنظيم يمثل تهديدا عالميا والقضاء عليه قد يتطلب “جيلا أو أكثر”. ويقول مصدر أميركي آخر إن مهلة خمس سنوات هي الحد الأدنى للقضاء على داعش، وهذا يعني أن الشرق الأوسط غير مقبل على التسويات، وأن أرض العراق وسوريا سيتحدد فيها مصير بشر لن يصبحوا ديناصورات منقرضة في متحف التاريخ.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس