إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(نشر “الشفاف” هذه الدراسة، لأول مرة، في ٢٦ يونيو ٢٠٠٤. وأعدنا نشرها لمناسبة وفاة السلطان الحكيم قابوس بن سعيد الذي أدخل بلاده إلى الحداثة وأدخل المعارضة إلى الحكم! وقد أُعلنت وفاته فجر اليوم السبت في ١١ يناير ٢٠٢٠. مع ملاحظة أننا كنا نتمنى على المواقع الكتيرة التي اقبتست هذه الترجمة، “نقلاً عن الغيب!”، أن تنسب الفضل إلى أصحابه!)
خاص بـ”الشفاف”
يعتقد كثيرون أن التجربة المغربية، في نهاية عهد الحسن الثاني، كانت أول تجربة سياسية عربية لـ”المصالحة” مع المعارضة، حينما تولّى رئاسة الحكومة زعيم المعارضة الإشتراكية.
ولكن التجربة الأقدم هي التجربة العُمانية، حينما نجح السلطان قابوس في وضع حدّ لثورة ظفار بإجراءات تراوحت بين تلبية مطالب الثوّار عبر توفير الخدمات الإجتماعية والتعليمية والطبية المفقودة، والعفو العام، واستيعاب المتمرّدين السابقين ضمن الأجهزة الحكومية بما فيها جهاز الإستخبارات نفسه. وتنبّه السلطان قابوس إلى أهمية عدم “إحتلال” ظفار بقوات خارجية “غازية”، فشكّل “فرقة” مؤلفة من ثوّار سابقين ورجال عشائر محليين من ظفار نفسها، لحفظ الأمن في المنطقة.
وننشر في ما يلي دراسة صدرت في العام 1994 عن “جهاز الإستخبارات العُماني”، الذي يمكن أن تصلح نموذجاً لكيفية إعادة تأهيل الأجهزة الأمنية التي تشكّل كابحاً خطيراً للتغيير في عدد من البلدان العربية. مصدر الدراسة مجلة International Journal of Intelligence and Counter Intelligence. (وهذه ثاني دراسة ننشرها عن الإستخبارات العربية، بعد الموضوع الخاص باللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة المصرية).
ولهذه الدراسة أهمية مضاعفة لأنها تتطرّق إلى كيفية تعامل جهاز إستخبارات خليجي مع الظاهرة الإسلامية منذ الثورة الإسلامية، وإلى تأثّر جهاز الإستخبارات نفسه بمناخ التديّن.
بيار عقل
*
جهاز الإستخبارات العماني
كتب هذا التقرير M.G. Dennison وDale F. Eickelman . وكان دنيسون قد دخل أجهزة الإستخبارات البريطانية في العام 1946، وعمل في أجهزة إستخبارات سلطنة عُمان من 1954 إلى 1983. وخلال هذه المدة، فإنه شغل منصب “مدير الإستخبارات” العُمانية- من 1970 إلى 1972- ثم منصب “المستشار الخاص للسلطان للشؤون الأمنية” بين 1972 و1983.
*
احتفلت سلطنة عُمان، في نوفمبر 1992، بالعيد الوطني الذي صادق ذكرى مرور 22 عاماً على وصول السلطان قابوس بن سعيد إلى السلطنة في إنقلاب شبه سلمي على والده، في 23 يوليو 1970. وصادف هذا التاريخ مناسبة أخرى لم يعلم بها سوى موظّفو جهاز الأمن وكبار المسؤولين: تعيين أول عُماني على رأس “جهاز الأمن الداخلي”. فمنذ تأسيس هذا الجهاز في يونيو 1959، وحتى نوفممبر 1992، كان كبار مسؤوليه يتألّفون من ضباط بريطانيين متعاقدين شخصياً مع السلطنة أو من ضبّاط “مُعارين” من “الإستخبارات العسكرية” البريطانية، أو من “إستخبارات الطيران” (Special Air Forces= SAF) البريطانية، أو من جهاز “إم أي 6” (= الإستخبارات الخارجية) البريطاني. وكان رحيل آخر مدير إستخبارات بريطاني “مُعار” بمثابة إعلان عن إنحصار الدور البريطاني، بعد الآن، في شؤون التدريب، وفي قضايا فنّية متخصّصة.
وكانت عملية إضفاء الطابع العُماني على جهاز الأمن الداخلي مستمرة منذ 10 سنوات، مع أنها تأخّرت كثيراً بالمقارنة مع جلاء عناصر الجيش والشرطة البريطانيين. وظاهريا، فقد اعتبر ضباط الإستخبارات البريطانيون الذين غادروا عُمان في 1992 أن التغيير يقتصر على العاملين، أي أن الهيكلية الرسمية، والمسؤوليات الرسميةن في الجهاز تظلّ على حالها.
وحتى كتابة هذا المقال (في ربيع 1994)، فإن جهاز الأمن الداخلي العُماني لم يشهد أي تدهور في مستواه وقد علّق مسؤول عُماني رفيع المستوى بأن العُمانيين المطّلعين يعتبرون جهاز الإستخبارات بمثابة جهاز “أجنبي” لأنه- بعكس أجهزة الأمن المحلية في عدد من الدول المجاورة- لم تُنسَب إليه سوى حفنة من التصرّفات “الشاذة”. وقد حدثت التصرّفات الشاذة في فترة 1970-1972، حينما تعرّض رجل أعمال عُماني ومواطنون آخرون لأشكال “خفيفة” من المضايقة، بينها تحطيم سيّارات، وتهديدات ليلية بالهاتف. ونسب الضحايا هذه الأفعال إلى ضابط أردني “متعاقد”. وتوقّفت هذه الحوادث حينما قام أحد الضحايا بالإحتجاج لدى مسؤول أمني، بريطاني الجنسية، رفيع المستوى.
أجهزة أمنية متعدّدة
يمثّل جهاز الأمن الداخلي (ISS) في عُمان واحداُ من عدد من الأجهزة الأمنية التي تتداخل صلاحياتها جزئياً. وهذه الأجهزة تشمل:
1- “مكتب القصر”، الذي يتولّى بالدرجة الأولى العلاقات مع أجهزة الإستخبارات الأجنبية، والمهمات الخارجية- مع أنه يقوم، كذلك، ببعض نشاطات التحقيقات المحلية المحدودة.
2- وحدة “قوات خاصة” صغيرة (تشكّل جزءاً من “مكتب القصر”).
3- “الإستخبارات العسكرية”.
4- “قسم التحقيقات الجنائية” في “شرطة عُمان الملكية”.
5- (ومن 1972 إلى 1982): “مكتب مسشتار صاحب الجلالة السلطان لشؤون الأمن القومي”.
6- (ومن 1954 إلى 1982): نشاط “إستخباري” كبير كانت تقوم به بصورة خاصة شركة النفط الرئيسية في عُمان، وهي “بتروليوم دفلوبمنت- عُمان”. وفي فترات مثل ثورة “الجبل الأخضر” في 1957-58، كان “ضباط شؤون العمّال” في الشركة يتعاونون تعاوناً وثيقاً مع جهاز إستخبارات الطيران البريطاني (SAF)، مع أنهم سعوا لاحقاً لتخفيف هذه العلاقة. وفي أعقاب إكتشاف النفط في العام 64، وبدء تصديره في العام 67، تدخّل المدير العام للشركة لدى السلطان مباشرةً لإقناعه باتباع سياسات تؤمّن الإستقرار للبلاد. ولكن القدرات الإستخبارية للشركة ألغيت بعد العام 1971.
جدير بالذكر أن “جهاز الأمن الداخلي” نفسه تعرّض لعمليات إعادة تنظيم بين حين وآخر. ويحرص الكاتبان على إظهار “خصوصية” جهاز الأمن العُماني بالمقارنة مع أجهزة الإستخبارات الرئيسية في العالم الثالث. ويقولان أنه “مع أن جهاز الإستخبارات قام بدراسة كل طلبات التوظيف، والترقيات في الدوائر الحكومية في السعبينات، فهو لم يمارس وظيفة “الإكراه” إلا في حالات نادرة جدّاً. “بل إن العمانيين المثقّفين، في أواخر السبعينات كانوا يطلقون على جهاز الأمن (وكان إسمه، آنذاك، “دائرة الأبحاث العُاني –Omani Research Department- تسمية “الجامعة” لأنه اشتهر بصفته عيون الحكومة وآذانها وبسبب الحرية التي يتمتّع بها ضبّاطه بالنسبة لكتابة تقاريرهم، وتحليل الأوضاع، والتعليق على التطوّرات السياسية.
*
أهداف الجهاز: وحتى أواسط السبعينات، حينما كانت عُمان تواجه عمليات الثوّار في مقاطعة ظُفار الجنوبية مع محاولات لاغتيال كبار المسؤولين ونشر الثورة في الشمال، كان الهدف الرئيسي لجهاز الأمن محدّداً بصورة لا إبهام فيها. غير أن “أهداف” الجهاز باتت أكثر تنوّعاً منذ أواخر السبعينات. وهي تشمل الآن: الفساد على مستوى المسؤولين الحكوميين (مثل الصفقات العقارية، وإصدار تراخيص البناء، ورُخَص الآليات والقيادة، وتراخيص العمل، والعقود الحكومية)، وبعض أشكال النشاطات الدينية، وتقديم المشورة لصانعي السياسات حول النتائج الأمنية البعيدة لمسائل مثل نضوب الموارد الطبيعية، وتضاؤل فرص الترقية في الجيش، وعدم كفاية التقدِمات الإجتماعية الحكومية.
ويقوم المدير العام للجهاز بإعداد خلاصة إستخبارية دورية يرفعها إلى الحاكم وإلى “مجلس الدفاع الوطني”، الذي يقتصر- منذ أواخر السبعينات- على العُمانيين وحدهم.
وإذا كان للدولة وجهان، هما الإعلام والقمع، فإن “جهاز الأمن الداخلي” العُماني لعب حتى الآن، وبالدرجة الأولى، دورَ تجميع المعلومات ودور “ديوان مظالم” صامت ينقل إحتجاجات المواطنين ضد السلطة، ويعبّر عن أنواع التذمّر الخافت التي يتردّد المواطنون في التعبير عنها مباشرةً.
*
أسطورة تأسيس الجهاز في إنقلاب 1970
تأثّر الجهاز، بصورة عميقة، بأصوله. ويمكن تتبّع أنماط الترقيات والإمتيازات في الجهاز إلى مشاركة كل فرد في إنقلاب 1970، في حين باتت الأحداث السابقة للإنقلاب بمثابة “ما قبل التاريخ”. وقد توسّعت الأجهزة الحكومية كثيراً بعد العام 1970، فحصل العناصر “الأفضل والألمع” في نظر الضباط والمستشارين البريطانيين على دورات تدريب داخلية، وترقيات سريعة. وفي ظروف مطلع السبعينات، كانت القدرة على النطق والكتابة بالإنجليزية شرطاً لا بد منه للترقّي في الجيش وأجهزة الإستخبارات. وتم تشجيع العُمانيين العاملين في هذه الأجهزة- علماً أن الجيش والإستخبارات كانت حتى 1970 المجال الوحيد للتوظيف في الإقتصاد الحديث، باستثناء برامج التدريب التي كانت توفّرها شركة النفط، والتي كان السلطان السابق يتقبّلها مضطراً- على الخدمة في الوظائف الحكومية.
والواقع أنه لم يكن لدى العُمانيين أي حافز جدّي للتجيمع النشط للمعلومات الإستخبارية في تنظيم الإستخبارات الذي كان قائماً قبل العام 1970- حينما كان هذا التنظيم جزءاً من القوات المسلحة البريطانية. وطوال الستينات، لم يكن عدد ضباط الإستخبارات البريطانيين العاملين في قوات السلطات ليزيد على 8-12 ضابطاً. وكان نصف هؤلاء عبارة عن ضباط “مُعارين” من الجيش البريطاني. أما الباقون فكانوا ضباطاً “متعاقدين”. وكان يُطلق عليهم تسمية “ضباط إستخبارات السلطان”. وكان جميع الضباط ينطقون بالعربية أو، أحياناً، باللغة “السواحلية”، التي كانت مستخدمة في بعض مناطق عُمان (خصوصاً المنطقة الشرقية) التي حافظت على علاقات وثيقة مع شرق إفريقيا.
وكان مع كل ضابط إستخبارات بريطاني مساعد يُسمّى “المقدّم”، مع أنه حدث في حالات عديدة أن “المقدّم” بات يعمل بمعزل عن الضابط المسؤول عنه.
وكانت الميّزة الرئيسية لهؤلاء المقدّمين هي “هامشيتهم” بالنسبة للمجتمع العُماني. فكانوا يشملون:
– عُمانيين من الجماعات التي فرّت من زنجبار (التي كانت تابعة لُعمان) بعد ثورة 1964 اليسارية والمعادية للعرب،
– أبناء جماعات من الأقليات مثل “البالوش”،
– حالة واحد من المقدّمين كان يتيماً فتولّت تربيته بعثة طبّية مسيحية في مسقط،
– واحد من الثوّار السابقين في يورة 1957،
– إبن أحد زعماء القبائل الذي لم يحالفه الحظ في خلافة والده على رأس قبيلته.
وعلى غرار “إنكشارية” العهد العثماني، كان وضع هؤلاء “المقدّمين” يعتمد كلياً على صلتهم بالضباط الأوروبيين الذين يشرفون عليهم. وعلى غرار زعماء القبائل والتجار، وسواهم ممن يزوّدون “المقدّمين” بالأخبار، كان “المقدّمون” يدركون مصيرهم في حال وقوع إنقلاب في الأوضاع السياسية. وكانت ماثلة في أهانهم تجربة عدن في 1967، حينما ترك الأوروبيون “المقدّمين” لمصيرهم. وفي هذا الوضع، كانت مصلحة “المقدّمين” هي عدم القيام بعملهم على أكمل وجه، بغية إتخاذ موقف محايد بين السلطات والمعارضين.
*
وكانت هنالك مشكلة أخرى، مفادها أن “المقدّمين” العُمانيين والضباط البريطانيين على السواء كانوا يدركون أن السلطات العُمانية لا تستفيد فعلياً من خدماتهم الإستخبارية. وقبل أشهر من وقوع إنقلاب 1970، وضع أحد الضباط البريطانيين تقريراً، في شهر فبراير، جاء فيه:
“ذكرت في خطابي الأخير أنني أشعر بالملل من إنتاج معلومات لا يردني أي رد فعل عليها.. إن عملي الشخصي لم يعد يتقدّم هنا. إن الناس يعتبرونني “ضابط إستخبارات السلطان”، ولكن السلطان يعرقل عملي لأنه لن يساعدني لإنجاز أي شيء… وهو يتسلّى “في حين تحترق روما”، ومع ذلك لا يقوم أحد بتغييره (أي تغيير السلطان).” وكاتب هذا التقرير هو “ضابط إستخبارات السلطان” (SIO) في “صلاله”، والتقرير مرفوع إلى جهاز الإستخبارات العسكرية (G2Int). ومن الواضح أن الضابط الذي كتب التقرير كان متأكّداً من أن السلطان والضباط الموالين له لن يطّلعون على ما كتبه.
*
إن الإنقطاع شبه التام بين السلطان السابق ورعاياه، وتأخّر عُمان الإقتصادي في أواخر الستينات بالمقارنة مع دول الخليج النفطية، حيث كان العُمانيون يعملون بأجور رخيصة، وعدم وجود مدارس حديثة، وفسادَ الإدارة الحكومية- هذه العوامل جميعاً ساهمت في تعاطف الناس مع حركة التمرّد.
وكان الطلاب العُمانيون، الذين يدرسون خارج البلاد ويتمتّعون بمساندة حكومات العراق واليمن الجنوبي وسوريا ومصر، يخضعون لدورات تدريب عسكري ويقومون بتجميع الأموال لنصرة النشاطات المناوئة للسلطان.
وفي ظفار، اندلعت ثورة كاملة في العام 1965، وازدادت حدّتها في أواخر الستّينات إلى درجة أن سلطة السلطان في المقاطعة لم تعد تتجاوز حدود الأسلاك الشائكة التي تحيط بالعاصمة “صلاله”.
وقد تأخرّت الإستخبارات العُمانية قبل أن تفهم الدور الرئيسي الذي كانت تلعبه الشبيبة العُمانية المهاجرة في نشاطات الثوّار في أواخر الستيّنات ومطلع السبعينات. وأواخر الستّينات، كان بعض الثوّار قد حصلوا على تدريبٍ متخصّص على السلاح، والمتفجّرات، وتقنيّات الإغتيال، كما كانوا جميعاً مشبعين بعقيدة قومية عربية تستوحي الماركسية. وفي مارس 1970، دخل ثوّار عُمانيون مدرّبون منطقةَ عُمان الجنوبية، وفي 12 يونيو 1970 شنّوا هجوماً على قاعدة الجيش في “إزكيه”. ولكن، نظراً لسوء التخطيط، قُتِلَ عدد من قادة الثوّار، أو وقعوا في الأسر، في هذه العملية. وبعد أسبوعين، تم أسر عدد آخر اثناء إجتماعٍ طارئ عقدوه في “بيتٍ آمن” في مدينة “مطرح” الساحلية. وقد أقرّ الثوّار، في مؤتمر عقدوه في نهاية السنة نفسها، بأن قرار الهجوم كان سليماً من الناحية السياسية لأن قسماً من الشعب أيّده بصورة صامتة، غير أن تدريبهم العسكري لم يكن كافياً.
وبسبب أخطائهم التكتيكية، ونشاطات المتابعة الممتازة التي قام بها جهاز “إستخبارات الطيران” البريطاني، فقد تعرّضت مخطّطات الثوار في شمال عُمان لنكسة شديدة، مع أن هيكليتهم التنظيمية المؤلّفة من خلايا مستقلة ظلّت سليمة، وظلّت مجهولة من إستخبارات السلطنة (مصدر هذه المعلومة مقابلة أجراها Eickelman مع أحد الثوار السابقين في الكويت بتاريخ 10 ديسمبر 1987). وجاء في تعليقٍ لاحق لقائد جهاز إستخبارات الطيران البريطاني، المجيور جنرال غون غراهام، الذي كان “المستهلك” الأول للإستخبارات العسكرية في ذلك الحين:
“الواقع أن ندرة المعلومات حول “الجبهة القومية الديمقراطية لتحرير عُمان والخليج”، التي كانت تمثّل التهديد الرئيسي في الشمال، كانت مضلّلة. ومع أنه كان لدينا ضبّاط إستخبارات يعيشون مع مساعديهم العُمانيين قرب تجمّعات السكان الرئيسية، فإن قدرتهم على تجميع معلومات دقيقة حول النشاطات السرّية، من مواطنين غير راغبين بمساعدتهم، كانت في الحقيقة أقل مما كنا نعتقد في حينه.”
والواقع أن تعليق غراهام هذا دقيق، سوى أنه مجحف. فقد كان ضباط الإستخبارات واعين لبوادر الخطر، ولكن كانت تنقصهم المعلومات الدقيقة. فقد توقّفت مصادرهم المعتادة عن تزويدهم بالمعلومات، لأن هذه المصادر كانت قد سأمت حكم السلطان السابق، وأصبحت هي نفسها ترغب بحدوث تغييرٍ ما. كما أنها كانت تفهم أن صمتها بالنسبة للنشاطات المناوئة للسلطان يمكن أن يساعد في إحداث التغيير المطلوب. ومن جهة أخرى، كان شقيق السلطان، السيّد طارق بن تيمور، يتزعّم جماعة أخرى تتدرّب في العراق، وهي “الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي” (PFLOAG). وبعكس الجبهة الأخرى، فإن هذه الجماعة كانت معادية للسلطان وليس لنظام السلطنة، وكانت بالتالي مقبولة من الفئات المحافظة.
*
جهاز الإستخبارات في العهد الجديد بعد إنقلاب 1970: مباشرةً بعد “ثورة القصر”، أعلن السلطان الجديد، قابوس بن سعيد، العفو عن الثوار الذين يقتبلون بالإستسلام، كما أعلن عن مجموعة من الإصلاحات الفورية والمرئية. وإبان فورة الحماس التي أعقبت الإنقلاب، عقد موظّفو جهاز الإستخبارات إجتماعات مع أعدائهم السابقين، الذين استسلموا للسلطات. ولكن ضباط الإستخبارات سرعان ما صبّوا إهتمامهم على مقاومة التمرّد في ظُفار، وافترضوا ضمناً أن “خطر” التمرد في القسم الشمالي من البلاد قد انحسر. ونجم هذا الموقف جزئياً عن قرار إتخذه السلطان ومفاده عدم إخضاع الثوار السابقين المشمولين بالعفو، وسواهم من العائدين، لعمليات “إستجواب” (debriefing) حول منظماتهم وشبكاتهم السابقة. ويتذكر أحد الضباط السابقين تلك المرحلة، فيقول: “نظرنا إلى هذه المسائل كمجرّد تفاصيل تاريخية. وكانت سياسة السلطان تقضي بعدم إتّباع أية إجراءات تمييزية ضدهم. وبناءً عليه، فلم نَحظَ بتشجيعٍ رسمي لاستجواب الثوار السابقين. وكنا منهمكين بإعادة تنظيم الجهاز، وتوسيعه، إلى حدّ أننا لم نكن نملك الوقتَ الكافي لمراجعة الماضي”.
*
قابوس: “كيف أحكم بلدي إذا لم أعرف الحقيقة؟”
وبعكس فترة ما قبل 1970، كان السلطان الجديد يهتمّ بتقارير الإستخبارات. ويتذكّر أحد الضباط البريطانيين السابقين أنه:
“بعد الإنقلاب، تحدّثت إلى قابوس حول أخطاء نظام والده. وقلت له: “إن والدك لم يكن يطّلع على الحقيقة غير المنمّقة. وآمل ألا تسمح بأن يتكرّر ذلك معك، يا صاحب الجلالة”. فأجاب قابوس: “وكيف أحكم بلدي، إذا لم أعرف الحقيقة؟”
*
نظام إستخبارات مزدوج
إن نظام الإستخبارات الوطنية الذي نشأ بعد إنقلاب 1970 يظل (حتى نشر هذا الموضوع في العام 1994)، العمود الفقري للإستخبارات السياسية العُمانية. فـ”مكتب القصر” (Palace Office)- الذي كان أول مدير له هو آخر ضابط بريطاني عمل في “صلاله” قبل سنة 1970- كان يتعامل بالشؤون الخارحية، بما فيها العلاقات مع العُمانيين الراغبين بالعفو والعودة إلى بلادهم؛ وكان يشرف على وحدة SAF خاصة مسؤولة عن أمن السلطان الشخصي. كما كان يتولّى دور ضابط الإتصال الرئيسي مع أجهزة الإستخبارات الأجنبية، بما فيها وكالة “السي آي أي”، وفرق SAF البريطانية العاملة في ظُفار، التي كانت تتخفّى تحت تسمية وحدات “تدريب”.
كان كاتب التقرير التالي، مالكولم دنيسون، أول “مدير إستخبارات” عيّنه قابوس بعد الإنقلاب. وظل في هذا المنصب حتى 7 فبراير 1972، حينما تم تعيينه في منصب “مستشار الأمن القومي”. ومع أن “مدير الإستخبارات” كان مسؤولاً عن السلطنة كلها بين منتصف 1970 و1972، فإن كان عملياً معنياً بالدرجة الأولى بالداخل القَبَلي. وفي السنوات الأولى بعد الإنقلاب ظلّ تقسيم المسؤوليات مرناً بين “مكتب القصر” و”دائرة الإستخبارات” (التي كانت، في ذلك الحين، جزءاً من جهاز SAF البريطاني)، بحيث كان “مكتب القصر” يتعامل مباشرةً مع معظم مسائل الإستخبارات المتعلقة بظفار. كما كانت العلاقة وثيقة بين أجهزة الإستخبارات العُمانية والأجنبية، وكان يتمّ إطلاع المراقبين الأجانب على الإستخبارات المحلية بصورة غير رسمية. ويتذكّر أحد الضباط تلك المرحلة، قائلاً: “لم يكن لدينا سبب لإخفاء معلوماتنا في ذلك الحين. إذ كنا بحاجة إلى أية مساعدة يمكننا الحصول عليها، وكنا ممتنّين جداً للبريطانيين لأنهم سمحوا بحصول الإنقلاب. وخلال السنتين أو الثلاث سنوات التي أعقبت إنقلاب السلطان قابوس، لم تكن هنالك أسرار. وكنا جميعاً أصدقاء شخصيين حميمين، بما في ذلك قابوس نفسه”.
*
مهمات مستشار الأمن القومي بعد 1972: يقول دنيسون أنه عند تعيينه في هذا المنصب، فقد عيّن كمساعدين له عُمانيين كانوا يعملون في مكتب الإستخبارات قبل 1970 وظلوا يشاركون في إجتماعات مجلس الأمن القومي العُماني. “وكانت المهمات المطلوبة مني واضحة: الإشراف على نشاطات الجهاز (وكان إسمه، آنذاك، “دائرة الأبحاث العُمانية” ORD، ومراقبة منتوجه الإستخباري؛ وتقديم مشورة غير متحيّزة، ومعلومات، حول القبائل وزعمائها- الأمر الذي أدرك السلطان أنه لا يمكنه الحصول عليه من وزرائه؛ والبحث عن حالات الفساد الحكومين والإفادة عنها؛ وتقديم المعونات- بإسم السلطان- للأشخاص والقرى المحتاجة من صندوق خاص يموّله السلطان؛ ولفت نظر السلطان إلى القضايا التي تستحق إهتمامه”.
*
العلاقة مع “السي آي أي”: بدأت الصلات مع “السي آي أي” في إجتماع انعقد في سفارة الولايات المتحدة في لندن، وتولّى ترتيبه غسان شاكر، وهو ليبي يقيم علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة. وأعقبَ الإجتماع زيارةُ قام بها روبرت أندرسون إلى عُمان.
*
مرحلة ما بعد 1972: بات تقسيم المسؤوليات أكثر تحديداً بعد 1972، حينما تمّ تعيين “راي نايتنغيل” (Ray Nightingale) مديراً للإستخبارات. وكان نايتنغيل شغل منصب نائب المدير منذ 1971. وهو من مواليد روديسيا، وكان ضابط أركان بريطانياً ملحقاً بجهاز SAF. وقد اكتسب خبرةً في مقاطعة ظفار. وكانت وزارة الدفاع البريطانية قد اقترحته على عُمان بسبب خبرته السابقة في تنظيم جهاز إستخبارات أوغندا (“مكتب أبحاث ٍState Research Bureau الدولة الأوغندي)، وبحكم خبرته إبان تمرّد “الماوماو” في كينيا. ويقول أحد كبار المسؤولين العُمانيين عنه أنه: “قام بتنظيم الجهاز حسب الأصول، فهو لم يكن ديبلوماسياً، وكان يفتقر إلى الدقة.. ولكنه كان يملك القدرة على تحريك الجهاز”. وفي هذا الوقت، تم تغيير إسم الجهاز ليصبح “جهاز الإستخبارات العُماني” (Omani Intelligence Service).
“عملية جيسون” (1972-1973): في فبراير 1972، علم “جهاز الإستخبارات العُماني” أن الثوار كانوا خطّطوا لعملية تسلّل واسعة النطاق تهدف إلى “تحويل الإنتباه وإبعاد قوى الأمن عن ظفار”، وإلى عرقلة خطط التنمية، “والضغط على ولاء العناصر المترددة”. ولكن إستسلام أحد قادة الثوار في القاهرة، في سبتمبر 1972، الذي أعقبه كشف هوية أحد أعضاء اللجنة المركزية في مسقط، في شهر ديسمبر، أدى إلى قيام الجهاز باعتقال 60 شخصاً في إطار “عملية جيسون” (Operation Jason) التي تمّت في يوم 23 ديسمبر 1972، ثم اعتقال 30 عنصراً، بينهم 8 من النساء، في يناير 1973. وكان أحد النتائج الأخرى لهذه العملية أنها سرّعت أعمال إعادة تنظيم الجهاز، الذي كان السلطان قرّره في 1971.
وكشفت التحقيقات التي أعقبت “عملية جيسون” قوة تنظيم الثوار في عُمان نفسها، حتى في صفوف العسكريين. وبفضل تواطؤ موظفي إشارة في القوات المسلحة العُمانية، كان الثوار في عُمان الشمالية يستخدمون مرافق الجيش العُماني للإتصالات، علماً أن “جهاز الإستخبارات العُماني” كان يستخدم هذه المرافق نفسها. وبعد هذه العملية، حصل جهاز الإستخبارات على مرافق إتصالات خاصة به.
الشبيبة المتعلّمة محور كل حركات المعارضة في عُمان
من جهة أخرى، كان البريطانيون وبعض العُمانيين قد استخفّوا بقدرة حركة التمرّد على مواصلة إستقطاب الشبيبة المتعلمة، وذلك إنطلاقاً من فرضية أن التنمية السريعة للمرافق العامة، وتزايد الفرص الإقتصادية، ستكفي لتخفيف حدة المعارضة السياسية. ولكن الواقع أن خلايا الثوار التي كان تم تأسيسها قبل 1970 كانت قد ظلت قائمة- وكان أعضاؤها يملكون مخازن سلاح، كما كانوا ما يزالون ملتزمين بهدف الإطاحة بالحكومة. وتبيّن الإحصاءات التالية مهن الذين تم إعتقالهم ومحاكمتهم في “عملية جيسون”. وهي:
= 45 بالمئة من الشغيلة
= 28 بالمئة من الموظفين أو المدرّسين
= 7 بالمئة من العسكريين
= و7 بالمئة من الشيوخ والأولياء
= و7 بالمئة من السائقين
= و7 بالمئة من أصحاب الحوانيت أو الكراجات
= و2 بالمئة من البحارة
فالقادة كانوا من المتعلّمين- أي من فئات الموظفين، والموظفين الحكوميين، والمدرّسين، ومن الموظفين الذين يتصلون بصورة أو بأخرى بنشاطات التعليم في صفوف الجيش؛ أما الباقين، فكانت لديهم مسؤوليات صغيرة تتعلق بالإتصالات، وإخفاء الأسلحة ونقلها.
*
“عملية سكّين”: نجمت عن وثائق تمّت مصادرتها في أعقاب حادث وقع على حاجز جيش روتيني، وأدى إلى كشف شبكات الثوار وتنظيمهم. ومرة أخرى، أثبتت هذه العملية أن حركة التمرّد ما تزال تجذب شبيبة عُمان، مع أنها آظهرت كذلك عجز قيادة التمرد عن القياس الواقعي للتأييد الشعبي الذي تحظى به.
*
المراحل الأولى لتنظيم الجهاز
بسب التهديدات الأمنية المباشرة في مطلع السبعينات، فإن عملية إعادة تنظيم “جهاز الإستخبارات العُماني” لم تشمل توسيع برامج التدريب أو تعريف معايير الترقية بصورة رسمية. وللمقارنة، كان الجيش، في 1972، يشمل 100 ضابط عربي وبالوشي؛ بالمقابل، كان جهاز الإستخبارات يتألف- في مطلع 1972- من 12 ضابطاً بريطانياً، و3 ضباط صف، و42 عمانياً لا يحتل أي منهم منصبا ًمسؤولاً. وكان التفسير الرئيسي لهذه التأخير عملياتياً. فبسبب التمرّد القائم في الجنوب، والأدلة المتوفرة عن إستعدادات لإشعال التمرد على نطاق واسع في الشمال، فإن مهمة الإستخبارات الرئيسية- أي توفير المعلومات المفيدة للعسكريين، وإحباط الهجمات على المرافق والأفراد- كانت تتمتع بالأولوية.
*
أول ضابطين عُمانيين: من الثوّار السابقين!
وفي العام 1973، انضمّ مواطنان عمانيان فحسب، كلاهما من الثوّار السابقين، إلى الجهاز بصفة ضابطين. وقد انضمّ أحدهما إلى الجهاز بعد إرساله إلى الخارج في دورة تدريب قصيرة، ولكنه سرعان ما ترك الجهاز ليعمل في دائرة حكومية أخرى. أما الثاني، وهو “عبدالله سعيد الرسبي” ، فقد عمل في “مكتب القصر” من أواخر 1970 إلى 1973، حينما غادر عُمان لينضم إلى “شرطة رأس الخيمة”. أما جميع العُمانيين الآخرين في الجهاز فكانوا من “المنفّذين” أو “العملاء”، أو من موظفي المساندة مثل السائقين والطباخين والحرس.
نظم “التجنيد والتدريب والترقية” الداخلية: لم يضع جهاز الإستخبارات العُماني نظم تدريبٍ داخلية رسمية حتى 21 يناير 1974، حينما أصدرمدير الإستخبارات، “نايتنغيل”، وثيقة عنوانها “التجنيد، والتدريب، والترقية”، اشتملت على الرتب وعلى أهداف التدريب، وهي “الإعداد للمستقبل عبر توفير هيكلية وظيفية متوازنة للأفراد الذين يملكون المؤهلات الضرورية، وتأمين التدريب الضروري لإنشاء جهازٍ ذي مقاييس عالية”. وعرضت الوثيقة، بوضوح، المؤهلات المطلوبة لمختلف رتب المنفّذين والضباطن وبات “كشمير هاوس”، أي مركز الإستخبارات الواقع على مقربة من “الصحّار”، مركز التدريب الرئيسي لجهاز الإستخبارات.
ولكن إستمرار إعتماد الإنكليزية بدلاً من اللغة العربية، والخلفيات الثقافية المنخفضة لأغلب المجنّدين، ظلت تفرض نفسها في برامج التدريب، التي كانت تركّز على وجوب إشتمال كل المحاضرات على عناصر “عيانية”. ومع أن التقارير، في المستويات الدنيا، كانت تُكتَب بالعربية، فإن التقارير المهمة كانت تُتَرجم إلى الإنلكيزية قبل رفعها إلى كبار الضباط. ويضاف إلى ذلك أن عمليات التجنيد كانت تتم بواسطة ضباط الإستخبارات، الذين كان أغلبهم من البريطانيين.
إن الحاجة العملية لمواجهة حركة التمرّد المنظمة، التي كانت تتمتع بدعم كبير، ومرافق تدريب في سوريا، ولبنان، واليمن الجنوبي، ظلت تفرض ترقية العُمانيين الزنجباريين بسبب معرفتهم الممتازة باللغة الإنكليزية. ولكن هؤلاء كانوا قادرين على التفاهم مع رؤسائهم الأجانب، سوى أنهم لم يكونوا يملكون صلات وثيقة مع المدن والقرى حيث يعيش أغلب السكان.
وكان صغار العاملين في الجهاز، وخصوصاً من شمال عُمان، يشعرون بالإستياء من حاجز اللغة ضمن جهاز الإستخبارات، وضمن دوائر الحكومة. وفي تعليق حول الفساد المستشري في دوائر الحكومة في أواخر السبعينات، علّق أحد الضباط قائلاً أن العاملين في جهاز الإستخبارات أصبحوا “سلبيين تجاه المهام المطلوبة منهم. وكنا نخجل من ترجمة ما يقوله المواطنون حول حكومتنا إلى اللغة الإنكليزية”. كما أن ضرورة كتابة التقارير بالإنكليزية، أو ترجمتها لكبار الضباط، كانت تحول دون إقامة علاقات زمالة غير رسمية بين العُمانيين وغير العُمانيين في المراتب العليا. يضاف إلى ذلك أن بعض كبار العمانيين الذين يتحدثون الإنلكيزية بطلاقة، وخصوصاً ممن تعود أصولهم إلى إفريقيا الشرقية، لم يكونوا ملمّين إلماماً كافياً بالعربية المكتوبة. وربما بسبب هذه المشكلة، فإن الوثيقة الخاصة بالتدريب التي صدرت في العام 1974 لم تفرض أي شرط لُغَوي على كبار الضباط، واكتفت بأن على صغار الموظفين أن يكونوا “ملمّين إلماماً تاماً باللغة العربية”. وبسبب هذه المشكلة اللغوية، فإن التوجيهات الصادرة من الأعلى إلى الأسفل كانت تقتصر على “التكليف بمهمات” وعلى التعليقات الشفهية، بدلاً من أنت تشتمل على تعميمات تهدف إلى تحسين قدرة العناصر على الكتابة، والتحليل، والتأويل. وللدلالة على مغرى المسألة، فإن التقارير التي كانت المراتب الوسطى ترفعها إلى كبار مسؤولي الجهاز البريطانيين كانت مرفقة برسوم بيانية حول علاقات النَسَب والقرابة، لكي يتمكن الضباط الكبار، غير المطّلعين على وضع العائلات والمناطق العُمانية، من فهم ما تسرده التقارير.
ويعطي الكاتب مثلاً على تأثير العلاقات الإجتماعية على عمل جهاز الإستخبارات: فقد كشفت “عملية جيسون” أن أحد موظفي الشرطة كان رفض الإنضمام إلى المتمردين، ولكنه في الوقت نفسه كتب محذّراً شقيقه الموجود في بيروت بأن الشرطة تبحث عنه.
وقد تزايدت هذه الصراعات بين الولاءات العائلية والقَبَلية، والولاء للجهاز، مع دخول أعداد أكبر من مواليد عُمان نفسها إلى الجهاز.
*
السرّية ومشكلة الفساد الحكومي
ويتطرّق التقرير إلى موضوع “السرّية” المفروضة على موظفي الجهاز: “فالعُمانيين باتوا يعتبرون قَسَمَ السرّية كطريقة لتمويه الخيط الفاصل الرفيع بين المصالح الخاصة لكبار موظفي الحكومة وبين مسؤولياتهم الحكومية. وبات الناس ينظرون إلى السرّية كطريقة لتسهيل الخلط بين هذه المصالح المتعارضة. وفي هذا الصدد، كتب أحد مستشاري السلطان في منتصف السبعينات (يبدو أنه كاتب التقرير نفسه) أنه يمكن للمرء أن يفهم “مزاعم البعض بأنه تمّ استبدال الحكم السلطاني المطلق بالحكم المطلق، الهادف للربح، الذي تمارسه أقلية صغيرة من رجال الأعمال الذين يملكون سلطات وزارية”. وفي أعقاب عدة فضائح وحالات تضارب مصالح، أفاد عنها الجهاز في مطلع الثمانينات، أصدر السلطان، في 22 مايو 1982، مرسوماً يرمي إلى تحديد مفهوم “تضارب المصالح” العامة والخاصة. ولكن واضعي المرسوم كانوا مستشاري السلطان القانونيين المصريين. وفقد حرّروا المرسوم بطريقة دفعت العديد من كبار موظفي الحكومة إلى تقديم إستقالاتهم، بحجة أن تعريفات “تضارب المصالح” الواردة فيه “لا تتلاءم” مع العادات التجارية في السلطنة. ولهذا السبب، صدر بعد أشهر خطاب وزاري، لم ينشر علناً، ينصّ على تجميد العمل بالمواد القانونية “المسيئة” الواردة في المرسوم السلطاني، بانتظار “توحيد” مختلف التأويلات. ومنذ ذلك الحين، ظل الوضع على حاله.
*
الثورة الإيرانية فرضت تعريب قيادة الجهاز
بعد سقوط شاه إيران واحتلال الأصوليين للمسجدالحرام، أدرك جهاز الإستخبارات العُماني، وغيره من أجهزة دول الخليج، أن البُعدَ السياسي للحركات الدينية قد أصبح أحد الملامح الرئيسية للوضع السياسي العام. وهذا الإدراك نفسه سلّط الضوء على عُمان، وعلى البحرين، بصفتهما الدولتان اللتان يدير جهازي إستخباراتهما أجانب من غير المسلمين.
وعلى غرار ما حدث بعد عمليتي “جيسون” و”سكّين”، وجدت الدولة العُمانية نفسها مضطرة للإختيار بين كفاءة الجهاز، وتحويله إلى جهازٍ عُماني صرف. وهكذا بدأ العُمانيون يحلّون محل البريطانيين بوتيرة متسارعة طوال سنوات الثمانينات.
*
جهاز الإستخبارات العُماني والظاهرة “الإسلامية”
في أعقاب سقوط الشاه، وأزمة الرهائن الأميركيين، وعملية المسجد الحرام في مكة المكرّمة، خيّم مناخ من التوتّر الشديد على المسؤولين الأمنيين في المنطقة كلها. فـ”الهدف” الرئيسي إبان فترة الستّينات والسبعينات- وهو “القوميين” العرب العلمانيين المتأثرين بالماركسية- كان هدفاً واضح المعالم. فكانت هذه الجماعات “القومية” تملك تنظيمات ذات هيكلية واضحة، وتتمتع بمساندة دول خارجية معروفة، وبشبكات دعم داخلية منظمة، كما أنها كانت تتحدث عن “إيديولوجية” رسمية (ولو أن حديثها “الإيديولوجي” لم يكن مفهوماً من جميع العُمانيين).
ولكن، بعكس التهديد اليساري السابق، يستقي التحدّي الديني أفكارَه من الأفكار والقِيَم والعادات التي يعتنقها كل العُمانيين، وهذا مع أن التعبير الديني اتخذ أشكالاً جديدة في أعقاب الثورة الإيرانية. بل، والأهم من زاوية التغيير السياسي في الأمد الطويل، فانتشار التعليم العالي في الثمانينات خَلَق توقّعات وتطلّعات جديدة بين العُمانيين الشبّان. ومثلما كانت الشبيبة العُمانية المتعلّمة تمثّل محور حركة التمرّد في العهد السابق، أصبح الشبان المتعلمون في الثمانينات العناصرَ الرئيسية في مختلف أشكال النشاطات الدينية. وكان الفارق الرئيسي أن أعداد الشبّان المتعلّمين صارت أكبر بكثير.
الأقلية الشيعية: اعتقد بعض المسؤولين في البداية أن الطائفة الشيعية الصغيرة، التي تضم 2 بالمئة من العُمانيين، هي بمثابة “طابور ثالث”. والواقع أن أغلب الشيعة العُمانيين هم من الناطقة بالسندية أو بالعربية، الذين يملكون علاقات مع الهند وباكستان أقوى بكثير من علاقاتهم مع إيران. ولكن المسؤولين لم يفهموا ذلك في البداية. وعمدت السلطات، بعد 1979، إلى مراقبة الأدبيات الواردة من إيران، وإلى مصادرتها في أحيانٍ كثيرة. وفي نهاية 1979، أمرت وزارة الإعلام بإقفال المكتبة الشيعية الوحيدة في العاصمة. ولكن المكتبة فتحت أبوابها مجدّداً بسبب الإحتجاجات، وبعد أن وعدت بعرض الكتب والمنشورات التي تبيعها على الرقيب.
الإباضية: كذلك، وبعد الهجوم على المسجد الحرام في مكة، تمركزت قوات من الشرطة النظامية خارج المسجد الرئيسي في “نزوى”، التي تعتبر أكبر مدينة في داخل شمال عُمان، عدا أنها العاصمة السابقة للإمامة الإباضية. ويُذكر أن المسلمين “الإِباضيين” يمثّلون الأغلبية العظمى من سكان داخل مناطق عمان الشمالية. ولكن أحد علماء الدين في “نزوه” علّق على قرار الحكومة مركزة الشرطة أمام المسجد الرئيسي بأن “الحكومة تجهل تفكيرنا في داخل البلاد، إلى حد أنها تعتقد أننا نرغب في إعادة نظام الإمامة” (الذي كانت السلطنة ألغته في العام 1955).
التأثيرات الخارجية: ويشير التقرير إلى أنه، على غرار أجهزة الإستخبارات في دول الخليج الأخرى، ركّز جهاز الإستخبارات العُماني- لدى إهتمامه بالظاهرة الدينية- على ناحية العلاقات مع جماعات خارجية.
صعوبة التعرّف والإختراق: وقارن ضابط بريطاني “مُعار” سابق بين المجاهدين الدينيين- والواقع أن أغلبهم لم يكن يشكّل خطراً امنياً- والحركات الماركسية في العهد السابق:
“إن الحركات الإسلامية الجديدة، وخصوصاً حركة “الدعوة” (المقصود “جماعة التبليغ والدعوة إلى الله”، ومركزها في باكستان، ويسميها العُمانيون “حركة الدعوة”) تقوم في ما بين أشخاص تجمعهم صداقات وعلاقات وثيقة. وهذا ما يجعل التعرّف عليها واختراقها أمراً صعباً. وهي ليست منظمة على غرار الجماعات الماركسية في خلايا ذات تراتبية واضحة. بل إنه يصعب علينا التمييز بين الجماعات التي تشكل تهديداً، والجماعات التي لا تعمل لأهداف سياسية”.
تأثّر جهاز الإستخبارات بمناخ التديّن: ثم إن الإتجاه نحو التديّن بات يشمل المجتمع بأسره، مما أثّر حتى في موظفي الإستخبارات المكلّفين بـ”المراقبة”، وخصوصاً الكوادر الصغار. ويقول أحد كبار مسؤولي الإستخبارات العُمانيين:
“إن جهازنا يصبح إسلامياً وطهريا ًبصورة متزايدة. وهو ما يزال كفؤاً لأن الضباط يعلمون أن معظم تقاريرهم تصل إلى القمة، أي إلى السلطان. ولولا ذلك، لكانت التقارير انقطعت. لقد حدث مثل هذا الإنقطاع في الماضي هنا، كما حدث في بلدان أخرى. كذلك، فحينما يصل إلى علم عناصر الجهاز أن الناس تتذمّر من النظام، فإن عناصري تعرف أن هنالك أسباباً لهذا التذمّر. وإذا ما اعتقلنا الناس لمجرّد أنهم أعربوا عن استيائهم، فسنتوقف عن تلقي تقارير عن تذمّر الناس. وسيسعى العناصر إلى حمابة بعضهم البعض وإلى حماية مصادرهم، لأنهم يوافقون على ما تقوله هذه المصادر”.
التأثير السياسي للتديّن بين ضباط الجهاز: “ولكن الضباط العُمانيين، على غرار العُمانيين الشبان عموماً، أدركوا كذلك أن تطوّر الأفكار الإسلامية الذي ينبغي أن يؤثّر في تسيير الشؤون السياسية وفي القرارات الشخصية كذلك، يمكن أن يسفر عن تغيير واسع النطاق ومفيد للمجتمع بأسره”.
صعوبة تحديد الأهداف: أصبح الإحتجاج الديني، أو الإحتجاج الذي يعبّر عن نفسه بأهداف دينية، واسع الإنتشار إلى درجة أن لم يعد يشكل “هدفاً”، بالمعنى المستخدم في الإستخبارات السياسية، إلا في حال صدور دعوات إلى أعمال غير قانونية. ومثل هذه الدعوات شملت سرقة أوراق إمتحانات الجامعة، وعمليات إحتيال، واستيرادَ منشورات دينية أو أفلام “تحرّض على العصيان”.
تأثير الحركة الدينية في توصيات الجهاز: “في عُمان، لا يتحدث كبار مسؤولي الإستخبارات عن الوضع من زاوية التهديدات المباشرة التي يمكن أن يتعرّض لها النظام بل إنهم يصيغون حججاً الغرض منها إقناع صانعي السياسات، وخصوصا الحاكم، باتخاذ الخطوات المناسبة للحؤول دون نشوء المشاكل التي يمكن أن تصبح حاسمة في المستقبل غير البعيد. وهذه المشالك تشمل: إنخفاض عائدات النفط، والنضوب السريع لثروات البلاد المائية، وعدم كفاية تمويل نظم التقاعد في الإدارة المدنية والقوات المسلحة، الأمر الذي سيشكل عبئا ثقيلاً على موارد الدولة حينما تبدأ أول موجة تقاعد في غضون سنوات قليلة؛ والحاجة إلى فرض ضرائب لمساندة الخدمات الحكومية، وذلك مع أن الناس تنظر إلى الحكومة الآن ليس كجابي ضرائب بل كموزّع للسلع والمخصّصات؛ وأخيراً، الزيادة السريعة لعدد خريجي المدارس والجامعات الذين لا يجدون فرصاً للتوظيف. حقاً أن هذه القضايا ليست بوضوح مهمات ملاحقة الثوار، ولكنها حيوية لمستقبل عُمان ولاستقرار نظامها”.
*
الصورة الراهنة للجهاز العُماني
انقضت حوالي 20 سنة على وصول السلطان قابوس إلى سدة الحكم قبل أن يصل العُمانيون أنفسهم إلى المراكز القيادية في جهاز الإستخبارات. ولكن الجهاز بات ذا طابع عُماني كامل الآن. وقد ارتفع المستوى التعليمي لموظفي الجهاز الجدد، مع ارتفاع المستوى التعليمي في البلد عموماً. ولكن عملية توسيع الجهاز، عبر تجنيد عناصر جديدة، توقفت بعد سنة 1978. وفي السنوات الأخيرة، حدث أن تم اختيار 4 عناصر من أصل 70 مرشحاص تقدموا للإمتحان السنوي للضباط.
جهاز نخبة
كيف ينظر ضباط الإستخبارات لأنفسهم؟ : “إن ضباط الإستخبارات الجدد مشبعون بفكرة أنهم جهاز نخبة يعمل في خدمة عُمان وشعبها. وفي العام 1978، تم استبدال قَسَم الولاء لـ”جلالة السلطان” بقَسَم ولاء جديد لـ”الوطن العُماني” وليس للحاكم شخصياً. وهذه الفكرة، التي يمكن أن تكون خطرة، متضافرة مع الطابع المحترف، تجعل الخدمة في الجهاز أكثر جاذبية لخريجي الجامعات الذين يمثّلون الغالبية الساحقة من الضباط الجدد. وتركّز إمتحانات التأهيل المؤلفة من خمسة أقسام على مهارات “التحليل” و”كتابة التقارير” بالعربية. وتم حذف شرط كتابة التقارير بالإنكليزية، مع أن معظم المجندين الجدد يكتبون الإنكليزية بسهولة.
تفضيل النصح على القمع
“على غرار منظمات الإستخبارات السياسية الأخرى، لا يقتصر عمل الجهاز العُماني على دور “عيون الدولة وآذانها”، أو على دور طمأنة الحاكم. فمع أنه يملك إنكانية القسر والضبط، فإنه غالباً ما يفضل الإقناع عبر النصائح التي يقدّمها بواسطة قنوات سرّية. ثم أن التحكم بما هو سرّي وما هو غير سرّي يشكل مصدراً للسلطة: وبهذا المعنى، فالجهاز يؤثّر في ما يعرفه صانعو السياسات (أو في ما يعتقد صانعو السياسات أنهم يعرفونه)، ويؤثّر بالتالي في قراراتهم.
شعار الجهاز: في العام 1991، اختارت قيادة الجهاز طائر “الهدهد” (الذي استوحته من “سورة النمل”) كشعار للجهاز. ولكن السلطان رفضه، قبل أن يكتشف الجهاز أن هذا الطائر هو رمز جهاز الإستخبارات الأردني.
واعتمد الجهاز شعاراً آخر يضم هلالاً وخنجراً وكلمة متعمدة الإبهام يمكن قراءتها “أمانة” أو “أمن”.
*
سيرة أول رئيس عُماني لجهاز الإستخبارات: ولد ودرس في زنجبار. عادت أسرته إلى عُمان بعد ثورة 1964 المعادية للعرب. توظّف في الجيش لأنه كان متعلّماً، وينطق بالإنكليزية، وكاتباً كفؤاً. انضمّ إلى قسم المخازن في جهاز الإستخبارات في العام 1972. تم تعيينه في منصب أحد نائبي مدير الإستخبارات في منتصف الثمانينات. أعطي إجازة سنة في أواخر الثمانينات للدراسة في جامعة بريطانية، وكان ميدان دراسته “الشؤون السياسية للشرق الأوسط”.
ترجمة بيار عقل
كل الشكر للقارئ. المعلومات دقيقة لأن كاتبها كان آخر مدير بريطاني للإستخبارات العُمانية. بعد ترجمة هذه الدراسة أخبرني الصديق الكاتب اليمني أحمد الحبيشي أنه زار عُمان للعلاج فاستقبله صديق قديم من قادة “جبهة تحرير ظفار” بصفته مستشاراً للسلطان قابوس! أتساءل إذا كانت الإباضية لعبت دوراً في موقف التسامح والمصالحة الدي اعتمده السلطان العظيم الراحل، وفي دماثة العُمانيين عموماً. بالمناسبة، الإباضية هي واحدة من ثماني مدارس فقهية لأهل السنة والجماعة، وهي: “المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، والإباضي، والزيدي، والجعفري، والظاهري”. الأباضيون 75 بالمئة من أهل عُمان، ويبلغ عددهم 7 ملايين تقريبا يتوزعون على 4 دول عربية هي عمان والجزائر وتونس وليبيا… قراءة المزيد ..
هاذا المقال جدا جداً جميل و يحتوي الكثير من المعلومات المهمة والمُفيدة