تتميز الضاحية الجنوبية بكثرة المعممين، وأغلبهم من الشباب، حيث تخرّج حوزاتها الدينية المئات منهم سنويا وإن لم يستوفوا الشروط المطلوبة في الدراسة الدينية.
و أينما ولّيت وجهك لا بد أن تلتقي بواحد منهم. فكل فاشل في الدراسة الأكاديمية، أو من تظهر عليه سمات الحنكة التجارية والتشبيح والشطارة، لا بد أن يتوجه إلى الدراسة الدينية لينال بين ليلة وضحاها لقب “مولانا”. ورغم خوائهم الثقافي والعلمي، الغريب أن جيل المعمّمين الشباب يمقتون رموز الأجيال السابقة، خاصة معمّمي “النجف”! المععمون الجُدد يتمتعون بعيشة باذخة، أرزاق وأموال وشقق فخمة وسيارات حديثة. والأغرب أنهم يتبارون مع “قراء العزاء” على قيادة عقول أبناء الطائفة نحو مزيدٍ من التعصب والتخلف، عبر إرساء معتقدات دينية ومذهبية بعيدة عن المنطق والتفكير السليم، شبيهة بالأساطير والخرافات، دون رادع أو مانع ديني وأخلاقي.
ولمزيد من تدعيم الثقافة الدينية، عمد بعض رجال الدين في الضاحية إلى بناء “حسينيات” خاصة بهم يرتادها أتباعهم ومريدوهم. ولا تختلف سياسات هذه الحسينيات الدينية في خطوطها العريضة مع هو سائد، إنما ترسي نوعا من الحضور الإضافي لأصحابها، مثل “حسينية الشيخ حسين كوراني”.
مكتبات عامّة “يوك”!
وبما أنه لا وجود إلا للثقافة الدينية في الضاحية، لذلك تغيب عن ساحاتها المكتبات العامة (اللهم إلا مكتبة المرحوم السيد محمد حسين فضل الله). حتى المكتبات الخاصة التي تبيع الكتب والروايات العادية لا وجود لها في الضاحية. كذلك، ينتشر فيها عدد لا بأس به من دور النشر الدينية بالطبع.
بين سيارة وأخرى في شوراع الضاحية، لا بد أن تمر سيارة بزجاج داكن، وما أكثرها! يستقلها مسؤولون في حزب الله،تفتح لها الطريق بعصا سحرية، وإن كانت مزدحمة. وهي تعامل معاملة سيارات الإسعاف: لا أحد يقف في طريقها، ومن تسول له نفسه فعل ذلك، ينزل على رأسه غضب السماء وعقابها.
على أن سيارات الزجاج الأسود أصبحت موضة هي الأخرى، ولم يعد استعمالها مقتصرا على الأمنيات الحزبية. فأقارب المسؤولين ونساؤهم وشبيحتهم وأزلامهم يستخدمونها أيضا، ما يجعل شوارع الضاحية في استنفار دائم. وقد تخفي في داخلها وجه مسؤول مهم، وأحيانا تتستر على مغامرة عاطفية ما…
تتدخل الفتوى الشرعية بالصغيرة والكبيرة في سلوكيات سكان الضاحية ويومياتهم العادية. في الأكل والشرب واللباس والزواج والطلاق وكل ما يتعلق بالإختيارات الفردية و الذوق العام. أي أمر يحار به المؤمن يجب أن يستفتي بشأنه مكاتب المرجعية. يترافق ذلك مع ما يعرف “بالإستخارة” وهو طقس ديني انتشر بشكل مَرَضي مؤخراً، حيث يسأل المؤمن “الله” ، بواسطة القرآن أو حبات السبحة،إرشاده لما فيه الخير للقيام بعمل ما أو الإمتناع عنه. إضافة إلى شيوع “مكاتب تفسير الأحلام“! وإذا كان الحلم “دينيا” يسمى “رؤيا”، والمقصود بالحلم الديني هو أن يرى المؤمن في منامه رسول الله أو أحد آل بيته، وغالبا ما تعتبر الرؤيا بشارة لصاحبها، وتفضيلا له عن غيره من المؤمنين.
مرجعية “الضاحية” السيّد علي الخامنئي
أغلب سكان الضاحية يتبعون خط المرجعية الإيرانية في التقليد، المتمثل حاليا بالسيد علي الخامنئي. والتقليد هو مفهوم ديني متعارف عليه لدى الطائفة الشيعية، ويقضي بوجوب تقيّد “العامي” أي الفرد من الناس،حين وصوله إلى سن البلوغ الشرعي، بفتاوى المرجع الديني الفقيه في أمور الدنيا والدين. هناك قلة تتبع مرجعية السيد علي السستاني، وأقل منها تتبع مرجعية المرحوم فضل الله، ومنهم من يتبع أحدهما سراً، تحاشيا للضغوط أو الإحراج.
نفوذ حزب الله في الضاحية يتمدد من أرضها نحو فضائها!
فتحتل أعمدتها وكل مرتفع فيها أعلام ورايات ولافتات وجداريات ضخمة ولوحات إعلانية عملاقة، دفعا إلى المزيد من فرض الهيمنة وتوسيع رقعة السيطرة. وتعنى بتنظيم هذه المظاهر الإعلانية شركة “رسالات” التابعة لحزب الله ،ويقال إن اللوحات الإعلانية الضخمة التي استأجرها حزب الله على طريق المطار من أجل حملة “عماد مغنية”، تبلغ كلفتها الشهرية وحدها نحو مئة ألف دولار شهريا.
وإعلانات مثيرة “يوك”!
أما اللوحات الإعلانية الأخرى التي تروج لبضاعة ما فتخضع للقواعد الدينية الصارمةلحكام الضاحية. وغالبا ما تُرش اللوحات الإعلانية بأصبغة سوداء ،خاصة إذا كان أبطالها من النساء، إما لإخفاء مساحيق التجميل على وجوههن، أو لتغطية ما ظهر من مفاتن أجسادهن. أما الدعايات التي تصنف “مثيرة”، فلا متسع لها في فضاء الضاحية! كذلك الإعلانات التي تروج لمختلف أنواع الكحول. وما إن تخطو خارج عتبة الضاحية الشيعية حتى يتبدل المشهد على الفور، فتزدحم الإعلانات “المحرمة” على تخومها بشكل لافت من جهة الحدث، الحازمية، الطيونة، عين الرمانة، وغيرها.
هذا في المظاهر. أما في الدواخل، فيسيطر الخطاب المذهبي والنفّس المذهبي على اجتماعيات الضاحية. سكانها إلى أي جهة انتموا، وسواء كانوا حزبيين أو غير حزبيين، استأنسوا إلى فكرة كونهم شيعة أقوياء يمتلكون عددا كبيرا من الصواريخ التي يخافها الصديق قبل العدو ويحسب لها ألف حساب! في الضاحية أيضا، المنطق السياسي في تحليل الأمور لا يختلف من بيت إلى بيت. الجميع “مقاومة”. الكبير والصغير، المحجبة والسافرة، الغني والفقير، المقيم والزائر، الشيوعي والمتدين، الكل يرى عون “حليفاً” والأسد “مستهدفاً”، والحريري “عدوا” وجعجع “مجرما”! في الضاحية لا يمكن أن تتفوه بكلمة خارج سياق الكل، وإلا فأنت عميل ومتآمر، وجديثا “مندس”! الكل فيها سواسية، في التفكير والقناعة والتحليل والإستنتاج. ومن يتخلف عن الركب تدور حوله الشبهة، ويشار عليه بالبنان، ويظل عرضة للإهانات والتنكيل حتى يتوب أو يغادر، أو تُلفّق بحقه تهمة من الوزن الثقيل.
ورغم هذه ففي الضاحية ما فيها من سرقة و دعارة ومخدرات و تجاوزات ونفاق وفلتان وجريمة!
فمقابل البيئة المعدة سلفا لا بد من نمو بيئة مناقضة لها يُسمَح لها بارتكاب المحرّمات ما دامت جزءا من هذا الكل تدين بما يدينه، تتبنى ما يتبناه، وتدافع وتهاجم كما يدافع ويهاجم، وتتعصب كما يتعصب عند الحاجة والداعي! لذلك لا عجب أن تصل الضاحية إلى هذه الحد من الفلتان الأمني والإنحلال الأخلاقي. فما دام الغطاء الواحد الموحّد يلف الجميع ويخيم عليهم ، ولا يعتريه ثقب صغير يسمح بنفاذ دخيل مهما تواضع شأنه، فلا بأس عندها أن يحصل تحته من شنائع ما يحصل……
يتبع
“جمهورية الضاحية” ممسوكة” (2): تُذكّر بعالَم جورج أورويل في رواية”1984″!
“جمهورية الضاحية” (1): لولا لهجة سكانها، لا يوجد في ملامحها ما يدل على أنها منطقة لبنانية!