بالطبع، وكالمعهود في حالات كهذه، جاء التنديد بهذه الجرائم من أطراف إسلامية وعربية شتّى. لكن، وفي الآن ذاته، كان هنالك من حاول تبرير الخلفية التي نبتت فيها هذه الأعشاب الإرهابية وفهمها. بل، أكثر من ذلك، في غمرة هذا الحدث والصدمة التي رافقته، كان هنالك من ذهب بعيداً إلى المفاضلة بين دولة الخلافة الإرهابية هذه وبين نظام الأسد، مرجّحاً كفّة هذا النّظام في هذا الوضع العربي المأزوم.
لا حاجة إلى تأكيد أنّ هذه المفاضلة بين الشرّين وترجيح أحدهما على الآخر هما الشرّ بعينه. إذ لا يمكن أن يفضل شرّ شرّاً. صحيح أنّ ثمّة تدريجاً للجريمة، غير أنّ الجريمة تبقى في خانة الجريمة مهما كان موقعها على سلّم العقوبات. فحتّى وإن كانت الجريمة تقع في قاع سلّم العقوبات فهي لا تعبر حدود الخانة إلى خارج الجريمة. وهكذا، فالمفاضلة بين نظام الأسد ونظام «داعش» كالاستجارة من الرمضاء بالنار، أو كالمفاضلة بين الطاعون والإيبولا.
إنّ الأصوات، غير القليلة، التي تصدح بربط هذه الجرائم بما فعله الاستعمار في البلاد العربية والإسلامية طوال عقود طويلة، والأصوات التي تربط بين هذه الجرائم وحالات التهميش المجتمعية في بلاد «الغربة» تنسى أو تتناسى التربة التي ينمو فيها هذا الإرهاب. حريّ بجميع هؤلاء أن يتذكّروا أنّ الدول الاستعمارية لم تستعمر البلدان العربية والإسلامية وحدها، بل استعمرت بلداناً وشعوباً أخرى. كما أنّ التهميش المجتمعي ليس شأناً خاصّاً بالعرب والمسلمين في بلاد الغربة، إذ إنّ هنالك فئات سكّانية من إثنيات ومعتقدات أخرى لا تقلّ تهميشاً عن العرب والمسلمين في هذه البلدان. غير أنّنا، وعلى رغم ذلك، لا نرى أفراداً من تلك المجتمعات الأخرى يرتكبون مثل هذه الجرائم الإرهابية البشعة. وهذه الحقيقة كافية لإحالتنا إلى البحث عن مصدر آخر لهذا الإرهاب.
حريّ بكلّ من يمتلك ذرّة من بصير أو بصيرة من أفراد هذه الأمّة أن يواجه حقيقة لا مناص من مواجهتها. إذ من الملاحظ في العقود الأخيرة أنّ الغالبية العظمى، إن لم نقل جميع هؤلاء الإرهابيين، خرجوا أو تخرّجوا من الزوايا والمساجد الإسلامية في الشرق والغرب على حدّ سواء، كما يبرّر جميع هؤلاء جرائمهم باسم الإسلام استناداً إلى موروثات إسلامية.
فماذا تعني هذه الحقيقة المرّة؟ هل هنالك شيء في ما يتلقّونه من تعليم وتعاليم دينية في تلك المواقع يدفع بهم إلى هذه الهاوية الإجرامية؟
لا يجب أن تبقى هذه الأسئلة خارج البحث، ولا يجب أن تبقى مطروحة على قارعة الطريق من دون تقصّي ملابساتها، بغية الوصول إلى إجابات شافية عليها. إنّ الطواقم المكلّفة الإجابة يجب أن تشمل شرائح النخب الدينية والثقافية معاً. فلا يستطيع الجاهل مواجهة العارف في هذه المسائل الخطيرة، وفي الكثير من الأحيان نلاحظ ردود فعل من قبل نُخب ثقافية مندّدة بجرائم الإرهابيين، وعلى رغم أنّ هذه الردود نابعة من صدق النّوايا، فإنّها تظلّ معبّرة عن جهل أصحابها بجذور القضيّة. أمّا النخب الدينية الرسمية والشعبية، إن جازت التسمية، فهي الأخرى تعبّر عن تنديدها بهذه الجرائم المقترفة باسم الإسلام. لكنّ هذه النخب الدينية، التي هي بلا أدنى شكّ على صلة معرفية بالتراث، لا تمتلك الجرأة الأخلاقية لمساءلة ذلك الموروث الديني الذي يتأسّس عليه الإرهاب الإسلامي.
فعلى سبيل المثال فحسب، عندما نشأ هذا التنظيم الذي وسم بـ «داعش»، ثمّ «دولة الخلافة الإسلامية»، وبدأت تنتشر على الملأ الجرائم التي يقترفها، أصدر عشرات من «العلماء» المسلمين بياناً مندّداً بـ «دولة الخلافة» هذه، وبزعيمها البغدادي. غير أنّ هذا الجدل التنديدي جاء شكليّاً فحسب، إذ تطرّق إلى الظروف التي تُعلن فيها الخلافة، وإلى المخوّلين بإعـلانها وما إلى ذلك من مسائل شكلية، ليس إلّا. أمّا بخصوص النصوص من الموروث الديني الدّموي الذي انبنت عليه أيديولوجية «داعش»، فلا يوجد من يسائلها. وهكذا وصلت بنا الحال إلى ما هي عليه اليوم.
ثمّة مهمّة عظمى ومسؤولية كبرى ملقاة على عاتق النخب الثقافية والدينية على حد سواء. وفوق كلّ ذلك، هنالك ضرورة ملحّة لنزع القداسة عن كلّ تلك المنصوصات التراثية الدموية. تتلخّص هذه المهمّة بالعودة إلى هذا الموروث الديني، إلى وضعه في سياقه التاريخي الذي مضى وانقضى ولم يعد نافعاً لكلّ زمان ومكان، كما يتشدّق الإسلامويّون. إنّها مسؤولية ملقاة على عاتق النخب العربية والإسلامية، وقد آن الأوان لتحمّل هذه المسؤولية، إذ من دون ذلك لن تقوم قائمة لهذه المجتمعات، وسنظلّ جميعاً ندور في حلقات مفرغة إلى يوم الدين.
* كاتب فلسطيني