تناقلت الصحافة الأجنبية، من التايمز البريطانية، إلى أنباء موسكو الروسية، في الأسابيع القليلة الماضية، حادثة تخص أحد السعوديين، واسمه فيحان الغامدي، حين أطلقت السلطات سراحه من السجن، بعد تغريمه بدفع “دية” لزوجته السابقة، وأم ابنته، التي اغتصبها وقتلها.
ولكن لماذا تهتم وسائل الإعلام بحادثة من هذا النوع. ولماذا تستحق التفكير والتدبير؟ لأن المذكور “يشتغل” داعية، وتستضيفه القنوات الدينية لهداية الناس، ولأن في الجريمة نفسها ما يُحرّض على الكتابة عنها.
الضحية بنت في الخامسة من العمر. احفظوا هذا الرقم. الأب، أي الداعية، انتابته شكوك حول “عذرية” ابنته، فعرضها على طبيب. احفظوا، أيضاً، هذا التفصيل جيداً. ولكن أهم ما في الأمر أن البنت لفظت أنفاسها في غرفة العناية المركزة، بعد نقلها إلى المستشفى مصابة بكسر في الجمجمة، والأضلاع، واليد اليسرى، واقتلاع أحد الأظافر، وبعد تعرّضها للاغتصاب “في كل مكان” كما شهد مَنْ عاينوا الحالة. ومَنْ فعل هذا كله؟ الأب، الداعية الوهابي، الذي يقطر بالتقوى أمام كاميرات التلفزيون.
ومع هذا كله، وهذا ليس بالقليل، أفرجت عنه “المحكمة”، بعد تغريمه بدفع “الدية”، التي تكون مضاعفة لو كانت الضحية ذكراً.
بحثتُ في الإنترنت، ورأيته في مشاهد متلفزة على اليوتيوب: لحية كثة طويلة، وملامح صحراوية قاسية، لا ينطق جملة دون ذكر الله. وبحثتُ عنه. وجدت معلومات تفيد أنه عاش طفولة قاسية، وتعاطى المخدرات، ودخل السجن، قبل “الهداية” واحتراف الدعوة.
ومن المنطقي التفكير أن هذه التفاصيل ربما أُضيفت إلى سيرته، قبل افتضاح أمره، للتدليل على “معجزة” اكتشاف الطريق القويم، الذي حوّل متشرداً إلى داعية. وربما أُضيفت بعد ارتكاب الجريمة للتدليل على أن “البذرة” كانت دائما هناك. فلو كان سوياً، في الأصل، لما فعل ما فعل.
أعرف، في هذه اللحظة، أن مشاعر النفور، والتقزز، والاحتقار، والكراهية، والغضب، ستجتاح ما لا يحصى من القرّاء والقارئات، كما انتابتني، وما تزال، منذ قرأت عن جريمة الاغتصاب والقتل، وبحثت عن، وفي، تفاصيلها.
وأعرفُ أن اللغة تعجز عن وصف هذا الوحش الآدمي. مهما أطلقنا عليه من الصفات لن ننجح في التعبير عمّا في نفوسنا من غضب، وكراهية، ونفور، واحتقار، واشمئزاز. ومع ذلك، التعبير عن مشاعر كهذه يمثل نوعاً من التطهير الذاتي. ولا يحل مشكلة، أو يحض على التفكير فيها.
وأعرفُ، بالقدر نفسه، أن شخصاً ما سيقول: هذه الأشياء تحدث في مناطق أخرى من العالم، وحتى في السعودية، فإن حالة المذكور لا تنطبق على الآخرين، ولدينا مشاكل أكثر أهمية، هناك حقول القتل في سورية والعراق، وعذابات الفلسطينيين تحت الاحتلال، وعدم الاستقرار في العديد من البلدان. والأكثر خسة سيقول لك: الغرب يريد تشويه صورتنا، لهذا يهتم بهذه الأخبار.
ومع ذلك، وعلى الرغم منه، أعتقد أن الحادثة المذكورة، وما يدخل في حكمها، لا تقل أهمية عن كل تلك المشاكل، ففي دلالتها، كما في المسكوت عنه فيها، ما يمس حاضر العرب ومستقبلهم. والدليل: أنها لم تنل أدنى قدر من الاهتمام في صحافة، ووسائل إعلام التيار الرئيس في العالم العربي. هناك، بالطبع، حروب الكر والفر على صفحات الإنترنت، ولكنها تعيش، وتعمل، في الهامش.
هذا التجاهل، أو التغاضي، من جانب التيار الرئيس، إضافة إلى الهرب من الموضوع بالكلام عن مشاكل أكثر إلحاحاً، وعن الغرب اللئيم، الذي يشوّه صورتنا، من علامات ضمور الضمير المدني وإصابته بالخدر، وربما موته، في مجتمعات حواضر نهرية وبحرية، كانت حتى وقت قريب حضرية وحضارية، وكان فيها ما يحميها من تطبيع القادمين من مناطق صحراوية وهامشية، ومن قرون مضت، لوجودهم، ووجود من يشبهونهم، باعتبارهم مصدراً للحكم في كل ما اختصم عليه الناس.
في الأيام التي سرت فيها أخبار جريمة الغامدي، ظهرت “فتوى” لشخص آخر يقول بضرورة تحجيب البنت منذ سن الثانية. وقبلها بقليل “أفتى” شخص بتفادي مشي الأم في الشارع مع ابنها الوسيم، لأن جماله يدل على جمالها. وقبله “أفتى” شخص بعدم جواز تشغيل جهاز التكييف، إذا كانت المرأة وحدها في البيت. وقبله أخرجت الشرطة الدينية ثلاثة شبّان إماراتيين من عرض عام في السعودية خوفاً على الحاضرات من جمالهم.
لا يحق لنا التظاهر بالدهشة إزاء كل هذا الرعب من الجنس، والذعر من كينونة الأنثى، والسعار في مقاومة “الغواية”. الدوافع الإيروسية قوّة عاتية وأصلية في الجينات. لم يتمكن أحد (من حسن الحظ، طبعاً) منذ ظهور الإنسان على الأرض، ولن يتمكن، من القبض على الإيروس، وترويضه، هذا أولاً. وثانياً، الإيروس مفتاح إنشاء وتأبيد السلطة البطريكية، وأداة تفكيكها وانهيارها. وثالثاً، في ازدياد مظاهر الرعب، وتفشي الذعر، وارتفاع وتيرة السعار، ما ينطوي على اعتراف ضمني بالهزيمة.
هذه بعض التداعيات، التي يستدعيها تناول جريمة الغامدي، في وسائل إعلام التيار الرئيس. وهذه، بالضبط، هي التداعيات، التي تتعرض للطرد من السجال والفضاء العام، ويُحكم عليها بالإقامة الجبرية في قائمة المسكوت عنه.
وفي المقابل تحتل السجال العام، ووسائل إعلام التيار الرئيس، وفي طليعتها التلفزيون، مشاهد الدم والفوضى والحرب في أكثر من مكان. ومعها، وفوقها، وقبلها، وبعدها: آخر أخبار السلع الاستهلاكية، والسيارات والهواتف الذكية.
وفي الأثناء يُطارد الإيروس كالوباء، وتُطرد جريمة مُفزعة من قائمة المُفكر به، دون الوقوف أمام حقيقة من نوع: أن السكوت على المطاردة والطرد من علامات موت الضمير.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
جريمة الغامدي وموت الضمير..!!
“والأكثر خسة سيقول لك: الغرب يريد تشويه صورتنا، لهذا يهتم بهذه الأخبار”.
تحية للأستاذ حسن خضر على العمق والصراحة والجرأة. شكراً على ما قاله وما لم يستطع قوله أولم يتسع لقوله المقام.
كم عددأمثال هذه الجرائم التي ترتكب مشفوعة بتبريرات “دينية” وقضائية مرعبة؟! ثم يتكلمون عن الأخلاق والدين والعدل و… عن
“الانهيار الأخلاقي في الغرب”؟! يا للعار!