يدور جدل داخل المعارضة الإيرانية (الحركة الخضراء) حول تجربتها في مواجهة التيار المتشدد ومطالبها الإصلاحية التغييرية التي باتت تمس رأس النظام والصلاحيات الممنوحة للولي الفقيه والداعية إلى عدم مساءلته بل وإلى تقديسه أيضا، وهي صلاحيات يعتقد المتشددون بأنها نابعة من أرضية إسلامية بحتة. في حين أن الإصلاحات التي تطالب بها جبهة عريضة داخل المعارضة الإيرانية، لا تمت لمفهوم الديموقراطية بصلة، بل صلتها مرتبطة باجتهادات تتعلق بتطوير الدستور الإيراني انطلاقا من تجديد الفقه الإسلامي.
شخصيا أعتقد أن هذا الإدعاء يواجه نقدين اثنين: الأول هو الإصرار على ربط الحركة الإصلاحية التغييرية المعارضة بالفقه الإسلامي وليس بغيره من المدارس الفكرية. الثاني هو إبعاد الحركة التغييرية عن الديموقراطية الليبرالية، وربطها بما يسمى بالديموقراطية الدينية، رغم التأكيدات المتكررة من رموز عدة في المعارضة الإيرانية بأن الحركة تقوم على أساس تثبيت الحرية والعدالة وفق الفهم الحديث للديموقراطية ثقافة وممارسة، أي وفق الفهم الليبرالي، رغم قناعتي أن العلاقة بين الديموقراطية وبين الدين لا تؤسس لظهور مسمى الديموقراطية الدينية. بل لا يمكن لمسمى الديموقراطية الدينية أن يظهر في المجتمع، لأن الدين في ذاته مفصول عن الديموقراطية، رغم أنه يمكن العمل على إيجاد حكومة ديمقراطية في مجتمع متديّن، في حين أنه لا يمكن إيجاد حكومة دينية ديموقراطية في مقابل الحكومة الدينية غير الديموقراطية، لأن الدين، في ظل تشريعاته التاريخية وغير الحقوقية، لا يؤسس لظهور الديموقراطية الحقوقية الليبرالية. فالدين بنصوصه وأحداثه لا يستطيع أن يشرعن للراهن من أحداث الحياة وحقوقها، لأنه مبني على القديم والتاريخي من الأحداث، والتي لم تتأسس على مبدأ الحقوق.
ورغم أن عصب حركة المعارضة في إيران قائم على مطلب التغيير، أي تغيير الدستور الإيراني وإدخال تعديلات عليه لإحداث توازن يحقق مطلب الحرية والعدالة والديموقراطية، بمعنى إحداث إصلاحات دستورية يجيء على رأسها إعادة التصويت على مبدأ ولاية الفقيه من أجل تغييره، بوصفه المدخل للتغيير والإصلاح في إيران. إلا أن البعض يعتقد أنه لابد أن تطبخ التعديلات الدستورية التغييرية في مطبخ المدرسة الفقهية، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق.
فالفقه في ذاته هو علم قديم ولم يطله التطوير والتحديث، فكيف له أن يصلح، أو أن يكون مدخلا لمزيد من الحرية والديمقراطية في الدستور؟ إضافة إلى ذلك، هناك تأكيد يعزز منهجية التفكير التاريخية لدى مدرسة الإسلام السياسي التي ينتمي إليها أنصار ولاية الفقيه وأنصار عدم تعديل الدستور في إيران، والقائم على أساس تقديس الفكر الديني واعتبار الدين الإسلامي حلال جميع المشاكل الحياتية – “الاسلام هو الحل”، “الإسلام دين ودنيا” – والذي يتم من خلاله توريط الدين في أتون الشمولية البغيضة. فبقدر تركيز البعض في الحركة الخضراء على تعديل الدستور للسير به في طريق إصلاح الوضع الإيراني عبر مزيد من الاجتهاد الفقهي، إلا أن هذا البعض سيتفاجأ بأن “الإسلام الشمولي” فقد صوته في مجالات وتخصصات عديدة، بسبب تطور الحياة البشرية وتغيرها، ما جعل بريق مزاعم هذا النوع من المشاريع الإسلامية والأطروحات الدينية يخفت.
إن جدالا يدور في إيران في الوقت الراهن حول تغيير الدستور، لكنه ليس بين مدرستين يعرفهما الإسلام السياسي، بل هو جدال يبرز ظهور مدرسة جديدة لا يقبلها الوسط الديني السياسي. والجدال الأبرز هو بين تيارين فكريين: الأول يدعو إلى تغيير الدستور الإيراني وفق القواعد الفقهية التقليدية التاريخية، وأصحاب هذا التيار ينقسمون إلى قسمين: يمين الوسط المنتمي إلى التيار المحافظ، واليسار التقليدي المنتمي للتيار الإصلاحي، حيث يدعو الاثنان إلى تغييرات في الدستور وفق قواعد تؤمّن لكل جهة مصالح سياسية معينة من دون أن تمس الأصل الأول والرئيسي في الجمهورية الإسلامية ألا وهو أصل ولاية الفقيه، بل تطالب بتحديد صلاحيات الولي الفقيه بحيث تحد من تفرده بالقرارات وتمنع استبداده بالحكم. أما التيار الآخر فهو يدعو إلى تغيير الدستور من خلال تغيير أصل ولاية الفقيه بعرضه لاستفتاء شعبي حتى يتسنى وضع أصل جديد محله وخلق آليات جديدة تساهم في نشر الحرية والديمقراطية الليبرالية وبناء مجتمع مدني تعددي والعمل وفق نظام يحترم حقوق الإنسان، أي هي دعوة للثورة على الأصل الأول والرئيسي في النظام الإسلامي، ودعوة للديموقراطية وفق أصول غير مرتبطة بعلم الفقه. في حين أن التيار الأول يعتقد أن أصول الفقه التقليدية التاريخية قادرة على خلق ديموقراطية دينية من خلال الاستناد إلى عملية اجتهادية تطوّر أصول الفقه وتشرعن لفقه جديد. أما التيار الثاني فيعتقد بأن الديموقراطية لا يمكن لها أن ترتبط بالفقه التقليدي ولا يمكن أن تنبع منها.
إن من شأن التغييرات الدستورية في إيران أن تفتح الطريق لتغيير الحياة وليس فقط لحسم الصراعات، غير أن هذه الحياة الجديدة منوطة بما يريده الواقع منها، بمعنى أنها تعيش التطور الجديد وفق تغيراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والعلمية التي لا يستطيع المحافظون المتشددون أن يقفوا في طريقها، حيث تعكس هذه التغيرات، وليس الأصول القديمة التي يسعى البعض إلى تجديد الاجتهاد فيها، طبيعة الحياة الجديدة. إن تجربة إيران من الثورة إلى الحرب إلى المجتمع المستقر ثم إلى المجتمع المتغيّر، ليست بعيدة عن حركة الحياة بشكل عام، بل هي لا تستطيع أن تعيش خارج هذا الوضع، والتحدي الأبرز الذي يقف في طريق الحركة الديموقراطية التغييرية هو استمرار المتشددين في التمسك بالعنف والظلم والاستبداد، أي سيطرتهم على زمام الأمور. ولا يمكن لحظوظ تغيير الواقع الإيراني أن ترتقع إلا من خلال تركيز المعارضة الإيرانية على تغيير سلطات الولي الفقيه، وليس تركيزها على الاجتهاد الفقهي لإعادة تفسير نظرية ولاية الفقيه، بسبب مناهضة الفقه لأسس رئيسية تستند إليها الحرية والتعددية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، أي مناهضته لأسس الحياة العامة. وعليه فإن الآثار التغييرية للحركة الخضراء لابد أن تمس أصل ولاية الفقيه، وهو ما قد يتحقق انطلاقا من تحقيق تطلعات الجماهير الإيرانية الواسعة.
يقول المعارض الإيراني “أكبر غنجي” إن آية الله الخميني وأثناء إقامته في باريس قبل الثورة الإسلامية كان يدعو إلى حكومة جمهورية واقعية مستندة إلى حقوق الإنسان، غير أن حكومة أخرى ظهرت بعد ذلك وهي حكومة ولاية الفقيه التي أعلن عنها بعد مضي ثمانية أشهر من انتصار الثورة. ويؤكد بأن نظرية ولاية الفقيه والحكومة القائمة على الولاية التي تستند إلى حاكمية الفقهاء، هي حكومة غير متوافقة مع الحكومة “الجمهورية”. وينتقد “غنجي” بشدة من يزعم بأن الخميني كان يساند الحرية والديموقراطية والجمهورية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com