أصدر السيد رئيس الجمهورية بتاريخ 30/9/2008 المرسوم التشريعي رقم /64 / والذي قضى بمنح عناصر الشرطة وشعبة الأمن السياسي والجمارك حصانة لم يسبق أن منحت لهم منذ تأسيس الدولة السورية هذا ما فهم على الأقل من نص المرسوم الذي نص: “المادة 1- تضاف إلى أخر المادة /47/ من قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 61 تاريخ 27/2/1950 وتعديلاته، الفقرة الأتي نصها: (7-آ- الجرائم المرتكبة من ضباط وصف وإفراد قوى الأمن الداخلي، وعناصر شعبة الأمن السياسي، وعناصر الضابطة الجمركية، بسبب تأدية المهام الموكلة إليهم).ب- تصدر أوامر الملاحقة بحق ضباط وصف ضباط وأفراد قوى الأمن الداخلي وعناصر شعبة الأمن السياسي وعناصر الضابطة الجمركية بقرار من القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة . وفق أحكام المادة /53/ من قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية وتعديلاته .المادة 2- تحال الدعاوى المقامة أمام القضاء العادي المتعلقة في المادة /1/، إلى القضاء العسكري.المادة 3- ينشر هذا المرسوم التشريعي في الجريدة الرسمية ويعتبر نافذا من تاريخ صدوره”.
وقد أثار هذا المرسوم جدلاً واستياءً واسعاً لدى العديد من القضاة والمحامين والمواطنين على السواء ، فبعض القضاة اعتبر أن هذا المرسوم قد أضعف ثقة الناس بالقضاء، بينما رأى فيه عدد من المحامين تجاوزاً على السلطة القضائية ومس باستقلالها حين حرمها من النظر بتلك الجرائم ، بينما اعتبر ناشطون في مجال حقوق الإنسان أن هذا المرسوم يشكل انتكاسة جديدة في ملاحقة مرتكبي التعذيب من قبل تلك العناصر” أما المواطنين فقد رأى بعضهم أن هذا المرسوم سوف يحمي أفراد الشرطة وعناصر الأمن السياسي والجمارك من المساءلة التي تتوقف على قرار وزير الدفاع قي تحريك الدعوى العامة،أو حفظها. وقراره غير قابل للمراجعة. وبعضهم رأى أن صدور هذا المرسوم جاء كنتيجة طبيعية للفساد المنتشر في القضاء مستنداً في ذلك إلى التحقيق الذي سبق أن نشرته صحيفة الثورة، حيث احتل القضاء المرتبة الأولى في الفساد من بين مؤسسات الدولة. مع العلم إن ذلك التحقيق لم يفرق بين قضاء عادي أو عسكري أو استثنائي.
وقد طرحت تلك الآراء على أحد اللذين اشتركوا في صياغة هذا المرسوم الذي رفض الكشف عن اسمه، فأبدى استغرابه لتلك الآراء وقال:” إن الهدف من هذا المرسوم هو في مكافحة الإرهاب وعمليات التهريب المسلحة ،وحماية تلك العناصر أثناء قيامها بواجبها التي كثيراً ما تتعرض لإطلاق النار في عمليات المداهمة لأوكار المجرمين أو في أثناء ملاحقتهم ، وتشجعيها على التصدي بحزم لمثل هؤلاء المجرمين”، وهذا الأمر يستوجب سرعة البت بالدعاوى التي ترفع من قبل بعض المهربين أو المجرمين، ففي القضاء العسكري يصدر القرار مبرماً ولا يوجد استئناف، وهذا غير متوفر في القضاء العادي. كما إنه لا توجد في القضاء العادي جهة تحفظ الدعوى إذا اتضح لها أن الفعل لا يؤلف جرماً، بينما وزير الدفاع في هذا المرسوم له الحق في تحريك الدعوى أو في حفظها حسب الحال”. وعندما سألته هل يشمل المرسوم تلك العناصر عندما تعتدي بالضرب والتعذيب على أحد المواطنين الموقوفين لديها والمكلفين بحراستهم؟ فأجاب:” قطعاً لا يشملهم هذا المرسوم وهو لا يحميهم في مثل تلك الحالات التي تبقى من اختصاص القضاء العادي وأضاف قائلاً إن عبارة” بسبب تأدية المهام الموكلة إليهم” تعني أنه إذا ارتكب الشرطي جريمة بسبب المهمة الموكلة إليه كما في عملية إلقاء القبض على مجرمين أو عصابة مسلحة أو مهربين مسلحين فهذا المرسوم جاء لحماية العناصر المكلفة بمثل تلك العمليات حصراً، أما إذا كان هذا العنصر من عناصر الشرطة أو شعبة الأمن السياسي أومن الجمارك قد ارتكب أثناء ذهابه في الطريق إلى مكان تواجد العصابة المكلف بإلقاء القبض على عناصرها، دخل أحد البيوت وسرقها، أو قام بالاعتداء على أحد المواطنين، فإن هذا المرسوم لا يحميه ، ومثل هذه الحالة تبقى من اختصاص القضاء العادي.. ” وسألته أيضاً: ألا يتعارض هذا المرسوم مع نصت عليه المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي نصت : 1- النائب العام هو رئيس الضابطة العدلية في منطقته . ويخضع لمراقبته جميع موظفي الضابطة العدلية بما فيهم قضاة التحقيق.” فأجاب موضحاً : ” كل ما هو منصوص عليه في قانون أصول المحاكمات الجزائية بقي على حاله، ويبقى القضاء العادي مشرفاً على عمل الضابطة العدلية ومختصاً بالجرائم التي يرتكبها العناصر المقصودين في المرسوم 64 باستثناء تلك الجرائم المرتكبة من قبلهم بسبب تأديتهم المهام الموكلة إليهم كما أوضحت قبل قليل”. إلا أنني صراحة لم أقتنع تماماً بتلك التوضيحات، رغم أنني أكن كل الاحترام والتقدير لصاحبها.
وقد علق مصدر قضائي رفض الكشف عن أسمه على تلك التوضيحات بالقول: “أن المرسوم لم يوضح طبيعة الجرائم ولم يحددها، بل جاء النص شاملاً لجميع الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الشرطة وشعبة الأمن السياسي والجمارك بسبب تأدية المهام الموكولة إليهم، ومؤكداً في نفس الوقت على اختصاص القضاء العسكري في النظر في جميع الجرائم المرتكبة من تلك العناصر، باستثناء تلك الجرائم المرتكبة خارج أوقات الدوام الرسمي أو بعد انتهاء المهام التي يكلفون بها”. وأعطى المصدر القضائي مثالاً على ذلك: “عندما يكون الشرطي في إجازة ويرتكب جرماً، وكذلك عندما يتشاجر الشرطي مع جاره في الحي، فالاختصاص هنا يعود للقضاء العادي”. وسألت المصدر القضائي عن الحالة التي يشاهد فيها قاضي النيابة أثناء ممارسته لعمله في التفتيش على دور التوقيف أو نظارات أقسام الشرطة اعتداء واقعاً على أحد المواقيف من قبل عناصر الشرطة فماذا يفعل؟ فأجاب موضحاً: “على قاضي النيابة في هذه الحالة أن ينظم ضبطاً بالواقعة ويرسله إلى النيابة العامة العسكرية صاحبة الاختصاص”. وسألته أيضاً عن حالة شخص كان موقوفاً في أحد أقسام الشرطة وعندما سُلم للنيابة العامة في دمشق مثلاً، تبين لقاضي النيابة أو لقاضي التحقيق أن هذا الموقوف قد تعرض للشدة والتعذيب أثناء التحقيق معه في قسم الشرطة وثبت ذلك بتقرير طبي، فهل يملك القاضي المعني تحريك الدعوى العامة بحق عناصر الشرطة الذين تعرضوا بالضرب لهذا الشخص الموقوف؟ فأجاب: “لا، لا نملك الحق في تحريك الدعوى العامة، فكل ما نستطيع فعله هو تنظيم ضبط بالواقعة ونرسله للنيابة العامة العسكرية صاحبة الاختصاص لتنظر في هذا الأمر..”!!
والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا لم يوضح المشاركون في صياغة هذا المرسوم طبيعة ونوع الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الشرطة وشعبة الأمن السياسي والجمارك، والتي أصبحت من اختصاص القضاء العسكري، وذلك قبل أن يٌرفع مشروع المرسوم للسيد رئيس الجمهورية لتوقيعه وإصداره ويصبح نافذاً!؟ ومن هي الجهة التي سوف تقرر أن تلك الجريمة المرتكبة أهي من اختصاص القضاء العسكري أم لا؟
فعبارة “بسبب تأدية المهام الموكلة إليهم” الواردة في المادة الأولى من المرسوم 64 / غير واضحة تماماً، ويكتنفها الغموض، فقد يتعرض مثلاً أحد المواطنين الموقوفين في أحد دور التوقيف أو نظارات الشرطة لاعتداء أو لعملية تعذيب من قبل بعض العناصر المكلفة بحراسته، ثم يدعي هذا العنصر مرتكب الاعتداء، أن ذلك الأمر حصل أثناء تأديته لمهمة الحراسة المكلف بها وبسببها ، ولا تحرك الدعوى العامة بحقه ولا يعاقب على فعلته؟
فإذا كان المقصود بتلك العبارة فعلاً هو حماية عناصر الشرطة وشعبة الأمن السياسي والجمارك من الأخطار التي يتعرضون لها أثناء تصديهم للعمليات الإرهابية وللمجرمين الخطرين من مهربين وغيرهم وتشجيعهم على التصدي لأمثال هؤلاء المجرمين، فكان يجب أن يشار إلى ذلك بوضوح في نص المرسوم المذكور، أما إبقاء النص هكذا غامضاً دون أي تحديد أو تفصيل ليشمل كافة الجرائم التي ترتكبها تلك العناصر بسبب تأدية الخدمة، فسوف يشجع تلك العناصر على ارتكاب المزيد من التجاوزات والأخطاء في ظل هذه الحماية والحصانة التي أصبحوا يتمتعون بها بعد صدور هذا المرسوم. مثلهم في ذلك مثل عناصر أجهزة المخابرات (العسكرية والجوية والمخابرات العامة) الذين لا يمكن ملاحقتهم لأنهم محميون بموجب قانون إنشاء جهاز أمن الدولة الذي يمنع محاكمتهم بشأن الانتهاكات التي تتصل “بممارسة عملهم” إلا بعد الحصول على موافقة مدير إدارة المخابرات العامة أو القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة ، وهيهات الحصول على مثل تلك الموافقة.
وحتى لا يفهم من كلامي هذا أنني لست مع حماية العناصر بالمكلفة بالسهر على أمن البلاد والمواطنين في أثناء مكافحتها للإرهاب والتصدي للجريمة وعمليات التهريب، بل على العكس من ذلك فإني أدعم الحكومة وأقف معها في كل ما من شأنه تعزيز الأمن والأمان للمواطنين، وحماية البلاد وتحصينها ضد الأخطار التي تتهددها سواء أتت من داخل البلاد أو من خارجها. ولكن ليس على حساب حرية وكرامة المواطنين وحقوقهم.
وأخيراً، وحسماً للجدل الدائر حول هذا المرسوم، فإننا ننتظر من أعضاء مجلس الشعب وبخاصة لجنته الدستورية الإطلاع بدورهم المنوط بهم والذي على أساسه نالوا ثقة المواطنين،إن يقوموا بدراسة هذا المرسوم من جديد قبل التصديق عليه كونه صدر خارج انعقاد دورات مجلس الشعب استناداً للفقرة الثالثة من المادة 111 من الدستور: ( 3ـ لمجلس الشعب الحق في إلغاء التشريعات المنصوص عليها في الفقرتين السابقتين أو تعديلها بقانون، وذلك بأكثرية ثلثي أعضائه المسجلين لحضور الجلسة على أن لا يقل عن أكثرية أعضائه المطلقة دون أن يكون لهذا التعديل أو الإلغاء أثر رجعي وذا لم يلغها المجلس أو يعدلها اعتبرت مقرة حكما ولا حاجة لإجراء التصويت عليها). وتوضيح النقاط الغامضة فيه، وإزالة الالتباس الحاصل في فهم نصوصه وبيان الهدف الحقيقي منه بدقة ووضوح.
دمشق
vik9op@gmail.com
كلنا شركاء