الحاجة لوجود قائد يتمتع بكاريزما ومصداقية في المراحل التاريخية الفاصلة في حياة شعب ما هو من الأمور المعروفة؛ فالقائد المحنك والرمز يمكن أن يساعد على تجاوز أصعب الظروف والانتقال بالشعب من حال إلى حال، وخاصة إذا كان لديه فريقَ عملٍ منسجمٍ ومتعاون، ويؤطر كل الانفعالات في عمل صائب في السياسة، يقود باتجاه المستقبل، دون أن تعكر رؤيَته ضبابيةُ الأحداث.
ومن بين الظروف السيئة التي أحاطت بالثورة السورية منذ بدايتها كان عدم توفر القائد المناسب على رأس معارضة موحدة لقيادة عملية التغيير الديمقراطي ضد سلطة استبدادية ضربت جذورها العميقة في بنية المجتمع المدني السوري وأفسدته، فوجد الشعبويون في ذلك الفرصة المناسبة. والشعبوية هي استغلال عواطف الجماهير وآلامها لملء فراغ في القيادة، والانقياد وراء الشارع، على طريقة “الجمهور عاوز كدة!”.
إن الحدث السوري الذي فاجأ الكثيرين، لم تتوفر له فرصة لالتقاط الأنفاس على الأرض لاختيار قياداته، وذلك بسبب القمع الممنهج الذي تراوح من الاعتقال إلى التعذيب وحتى القتل المباشر. وهكذا فقد استنجد الحراك بدايةً بمعارضة تقليدية غير مكيَّفة للتعامل مع ثورة شعب، ومريضة بشتى أمراض الشخصانية، بسبب مقارعتها الاستبداد كأفراد لم يتوفر لهم سند اجتماعي، فكانوا أشبه بأبطالٍ متفردين، وسط صمت مجتمعي شبه مطبق.
واستغل معارضو الخارج الفراغ السياسي وحاولوا ملؤه دون أن يكونوا مؤهلين لذلك، مستفيدين من حرية الحركة، فعكسوا مطالب الشارع بصورة ميكانيكية؛ فإذا كان الانفعال في الشارع طائفياً، انعكس ذلك بمدعي التمثيل لغةً طائفية مستترة أو مضمرة، مثل أولئك الذين يخرجون في الإعلام ليهددوا طائفةً أو مجموعة بشرية، بقضها وقضيضها، لتوقف دعمها للنظام! وربما يقولون تلك الطائفة التي “تقتلنا”! مثلما يقولون لطائفة أخرى أيضا أنها تقف كلها على “الحياد”! ويهددون الصامتين، ويتحدثون عن امتيازات ثورية، ويخوّنون الجيش النظامي برمته، بمناسبة أو غير مناسبة. وإن طالب الحراك بالتسلح، عكسوا تلك المطالب تلقائياً كصورة في مرآة، دون فهم لواقع أو خصائص تميز هذا الواقع. لقد عرف مدعو تمثيل الثورة السورية كيف يصنعون الأعداء ويبعدون الأصدقاء ويكثرون من أعداد الصامتين، فأساءوا إلى الثورة أيما إساءة.
وكونهم صدى لصوت الثورة، وليس قادة لها، لم يكن هؤلاء المعارضون مسؤولين عن أفعالهم، ولم يكلفوا أنفسهم مراجعة أخطائهم الجسيمة ووعودهم الزائفة التي جرَّت الحراك إلى خطوات غير محسوبة، خاصة بعد انتشار السلاح بصورة فوضوية، وتشكل المجموعات المسلحة، والتي تُعرف بتسمية لا تنطبق على اسمها البرَّاق؛ أي “الجيش السوري الحر”.
وفي هذه الأثناء، ترك النظام المعارضة التقليدية في الداخل تعمل بحرية نسبياً، لأنه يعرف إمكاناتها الضئيلة، والتفت لمنع أي تمثيل حقيقي للشارع بزج الكوادر المؤهلة في السجون أو تصفيتها، كما تسرَّب الكثير منها إلى الخارج، فبقيت الساحة لشعب أعزل يحاول تدبر أموره على الأرض، ومستعد حتى أن يستعين بكل شياطين الأرض ليتخلص من الموت المتربص به. وتحوَّل ممثلو الحراك في الخارج إلى ظاهرةً صوتية تكرر ما يردده المتظاهرون في الداخل.
وجرت عملية التسلح العشوائية كرد فعل على قمع لم يتوقف، وإصرار على إجهاض الحراك الشعبي بالحل الأمني. واستفاد النظام من وجود السلاح بحوزة مجموعاتٍ لا تمتلك لا تكتيكاً ولا استراتيجيةً عسكريتين، ليوجه إليها الضربات، بعد أن تراجع تكتيكياً لاستدراج المسلحين وإظهارهم للعالم إثباتاً لنظريته بوجود “العصابات المسلحة”، وذلك قبل أن يسمح لبعثة المراقبين العرب بالقدوم، وبغض النظر عن عدم إمكانية الحسم في بيئة حاضنة ترى في من تصارعه قوة احتلال.
وقد أثارت تسميات كتائب “الجيش الحر” التي تستلهم الماضي بعض الريبة، وبدت كأن رؤيتها إلى المستقبل لا تتجاوز سقوط النظام. ومهَّد ذلك لحدوث توجهات إسلامية أخافت شرائح اجتماعية هي أصلاً متخوفة من المستقبل. وظهرت ممارسات على الهامش فرضها وجود السلاح، فأضرت كثيراً بسمعة الثورة، في الوقت الذي لم يكن للثوار الحقيقيين والسلميين القدرة على فرض رؤاهم. والثورة مازالت مُطالبة بفك لغز “الجيش السوري الحر” وتوضيح بنيته وتوجهاته وارتباطاته، وفيما إذا كان الحديث عن تنظيمه واقعياً، لألا يتحول، عن قصد أو بغير قصد، إلى طرف في حرب أهلية تطيح بثورة شعب انتظر الحرية لعقود، ليجد نفسه، وفي غمرة يأسه وصراعه مع نظام جائرٍ، بين براثن استبدادٍ آخر!
وكما أنكر النظام وجود ثورة، أنكر بعض المعارضين تطور الوقائع على الأرض، أو اعترفوا بها بعد أن شاعت، ولكن من باب تبريرها. فعندما تقول لهم يوجد مجرمون يتلطون وراء الثورة يكون ردّهم: “الشبيحة هم المجرمون”. وعندما تنبههم إلى خطورة التجييش الطائفي؟ يردون بأن النظام طائفي. ويكررون مقولتهم الشهيرة: “هل تتساوى الضحية مع الجلاد؟” وكأنه يُبرَّر للضحية أن تقلد الجلاد حين لا تتساوى معه!
لن تفقد الثورة السورية تفوقها الأخلاقي على نظام الاستبداد، بيد أن الكثير من عوامل الثقافة الشعبية قد تشكل منفذاً لتسلل انتهازيين موتورين إلى صفوفها. وثمة تساؤل مطروح من قبل كثيرين حول إن كانت الثورة السورية قد فقدت أهدافها التي وضعتها بتحولها للعسكرة وهيمنة الجناح المسلح فيها؟ أو هل ما زالت قادرة على تصحيح مسارها والاستفادة من الأخطاء؟
وكل يومٍ يمر يحمل في طياته خطراً أكبر على مستقبل الوطن السوري في ظل استمرار القتل وغياب حل سياسي بتنا غير قادرين وحدنا على إنجازه دون مساعدة أممية تتمثل باتفاق دولي، روسي أمريكي خاصة، لحل يستند إلى روحية المبادرة العربية، من أجل طمأنة كل الأطراف، بما فيها القوى التي يستند إليها النظام، على مستقبل معلوم.
لا يعني ذلك بالطبع عدم محاكمة المسؤولين عن القتل والاعتقال والتعذيب، بل أن محاكمتهم يجب أن تكون ذات أولوية، كما لا بد من محاكمة أولئك المحرضين الطائفيين الذين حاولوا ركوب الثورة وحرفها عن مسارها. يتلو ذلك مشروع “مارشال” سوري لتنمية سوريا وإعادة بنائها على كافة المستويات. عدم حصول ذلك قد يحول البلاد إلى ساحة لحرب أهلية يتقاسم فيه أمراء الحرب أشلاء سوريا، وما يرتبط بذلك من تدمير للاقتصاد الوطني وتخريب للمؤسسات العامة والخاصة.
في هذه الثورة يموت فقراء سوريا، سواء أكانوا من المتظاهرين أو المنشقين أو المسلحين أو من الجيش والقوى الأمنية والشبيحة… هؤلاء كلهم ضحايا، بينما يحاول أصحاب السلطة والمال تقاسم النفوذ والأرباح. ويتبرع بعض رجال الأعمال بالفتات إلى المنكوبين، وعينهم على المكاسب التي سيحصلون عليها بعد انتصار الثورة.
أكثر من 100 تنظيم مسلح في سوريا، حسب ما صرح به مسؤولون أمريكيون، وهم بالتأكيد لا يشكلون جيشاً موحداً تراتبياً، ولهم أجندات مختلفة، وسيشكلون عبئاً على الثورة السورية، والتي ستبقى المظاهرات السلمية، ولو تمت حراستها، التعبير الأصدق عنها بشعاراتها الوطنية المسؤولة. لكن المصيبة الكبرى هي عدم تمكننا من تطوير الفعاليات السلمية للثورة السورية إلى أشكالٍ أرقى وصولاً إلى العصيان المدني. وما زلت أتعجب كيف تضرب “دوما” بالكامل ولا يغلق محل واحد في مركز دمشق التجاري في “الحريقة”! وعندما نتساءل عن ذلك، يجيب بعض المعارضين بأن السلطة ستكسر الأقفال! وماذا بالنسبة لـ”دوما”؟ ألا يكسرون الأقفال أيضاً؟ وهل يُبرر عدم إضراب المركز التجاري لدمشق بسبب مثل هذه المخاوف؟
في كل الأحوال، سيحدث الانهيار الاقتصادي خلال شهور قصيرة ويسقط النظام، لكن عدم بلورة حل سياسي سيجعلنا ننتقل إلى المرحلة الثانية، وهي انهيار الدولة السورية والصوملة والتقسيم.
العجز عن قيادة الثورة واللهاث وراء شارعها، علاوة على الحنق ودوافع الانتقام، لن يقود إلى تحقق الأهداف التي قامت الثورة من أجلها. الفرق بين النظام ومن تنطح لتمثيل الثورة أن النظام له إستراتيجيته الواضحة في محاولته لقمع الثورة بكافة الوسائل، بينما تُركت الثورة لهواة سياسة، فجرُّوها إلى حيث لا تريد، ودعوها إلى التسلح لأنهم لا يملكون شيئاً آخر ليقدموه. وفي المقلب الآخر من الثورة يعمل جنود مجهولون بتفانٍ وصمت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتشكيل مجالس محلية لتنظيم شؤون الناس وإغاثتهم في أصعب الظروف.
هل كان من الأفضل لمن ادعى تمثيل الثورة السورية العمل على تزويدها بكل مقومات الصمود عوضا عن التسليح في ظروف غير مواتية؟ وهل ندعو المعارضين لتوحيد صفوفهم أو اتفاقهم على برنامج الحد الأدنى لإنقاذ وطنهم، حتى لا تضيع الأهداف التي قامت الثورة من أجلها؟ دعوة قد لا يكون لها أي صدى بعد سنة، لكنها خير ما نختتم به هذا المقال.
salem1847@gmail.com
* دمشق