تقديم بقلم د. عبدالله المدني – كاتب متخصص في الشأن الهندي من البحرين
َباعتباري احد الذين ذهبوا الى الهند للدراسة في سن المراهقة، أي في السن الذي يقتحم فيها الجنس عقلَ وروح المرء دون استئذان، ويجعله في حالة هيام وعشق بجسد المرأة، خصوصاً حينما يكون هذا المرء قادما من مجتمع تكثر فيه “التابوهات” (المحرّمات) الجنسية كمجتمعات الخليج بصفة عامة، فإني أستطيع أن أقول بثقة أن الهند قد قطعت شوطا طويلا في مسألة التحرر الجنسي. فحينما ذهبت إلى مدينة بومباي (مومباي حاليا) في عام 1969 لأول مرة، كان من الصعب رؤية الشباب والشابات في مواعيد غرامية على كورنيش “مارين درايف” المطابق شكلا لكورنيش الإسكندرية. كما كان من النادر مشاهدة القبلات الساخنة أو رؤية الفتيات بملابس البحر في الأفلام السينمائية التي يشكل حضور عروضها جزءا من الثقافة اليومية للشعب الهندي، بما فيهم الفقراء والمعدمين. وبالمثل كان من المستحيل ان تجد مِثليّاً دون ان يــُقابل بالنَبذ والإزدراء.
لكن في الوقت نفسه كانت هناك “دور بغاء” قائمة، بعضها في وسط المدينة والبعض الآخر في ضواحيها، دون أن تُقابل بالاحتجاج حتى من لدن الفئات الهندوسية المحافظة الأكثر تقليدا للمهاتما غاندي لجهة الزهد في متع الحياة بما فيها المتعة الجنسية! ويبدو أن المستعمر البريطاني هو الذي سمح بإقامة تلك الدور، وحافظ على بقائها، ووضع لها الإشتراطات الصحية اللازمة، وذلك للمساعدة في تنفيس المرء عن كبته الجنسي، ومنعه من الانزلاق نحو ارتكاب جرائم الاغتصاب. وحينما حصلت الهند على إستقلالها، كانت تلك الدور قد ترسّخت وصارت مَعلما لا يجذب الهنود المقتدرين فحسب وإنما أيضا غيرهم من الباحثين عن المتعة المحرمة، ولا سيما من منطقة الخليج. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فإن الإدارة البريطانية سمحت بوجود مثل هذه الدور ــ وللأسباب والمبررات ذاتها ــ في عدن والبحرين ودبي، فظلت قائمة حتى رحليها.
ومما لاشك فيه أن هند اليوم مختلفة تماما عن هند الستينات والسبعينات، ليس لجهة النمو الاقتصادي والعلمي والعسكري، وتحسن أوضاع وحجم الطبقة الوسطى، وتراجع الكثير من القيم والعادات البالية فحسب، وإنما أيضا لجهة بروز قِيَم وعادات وتقاليد اجتماعية جديدة من تلك التي لعبت ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات دورا محوريا في صياغتها او اعادة تشكيلها بما يتناسب مع متطلبات اقتحام عصر العولمة، خصوصا مع حقيقة المكانة الرفيعة التي تحتلها الهند في هذا المجال كقطب عالمي من اقطاب صناعة البرمجيات.
*
هل تعيش الهند ثورة جنسية حالياً؟
نعم، بالتأكيد، الهند تعيش ثورة جنسية.
إن التحوّل الدراماتيكي في القِيَم التقليدية المتعلّقة بالجنس ظاهرٌ أينما نَظَرت. إن الجنس قبل الزواج يتزايد بمعدلات خيالية في المدن: وتفيد التقديرات أنه يصل إلى 75 بالمئة في فئة 18-24 سنة. والجنس منتشر على نطاق واسع في ثانويات المدن، ولم يعد من المحرمات أن يتواعد أولاد في عمر 13 سنة، أو أن يمارس طلاب ثانويات من أعمار 16 سنة علاقات جنسية. لقد خرج الجنس من الغرف المغلقة إلى الشارع. يكفي أن تتجوّل بالسيارة في أحياء المدن الهندية لكي تطاردك أينما ذهبت الصور الجنسية المثيرة: فتيات شبه عاريات وهن يقمن بمصّ “مصاصات” في دعاية لـ”الآيس كريم”، وممثلة فاتحة ساقيها وهي تجلس على آلة لغسيل الملابس، أو شاب وفتاة وهما يوشكان على المضاجعة في دعاية لماركة عطور.
وتظهر نفس الجنسانية في أفلام “بوليوود”. إن مشاهد الجنس شائعة على نفس الشاشات التي كانت قبل 10 سنوات تفرض رقابة حتى على “القبلة الفرنسية”. وتتمايل النساء بأكثر الطرق إثارة في الأفلام المتاحة للجمهور الواسع، ويقدّم مصمّمو الأزياء الهنود أصغر مايوهات “البيكيني” التي يمكن تصوّرها في عروضهم السنوية. كما أن الأفلام الإباحية (“البورنوغرافي”) متاحة على نطاق واسع. وقد أظهر إستطلاع قامت به “غوغيل” مؤخراً أن الهنود يحتلّون المرتبة 6 في العالم بين مشاهدي الأفلام الإباحية على الإنترنيت.
من جهة أخرى، فقد صدر حكم في العام 2009 يلغي صفة الجناية عن العلاقات المِثلية وذلك لأول مرة منذ 100 سنة (أي منذ الحكم البريطاني)، مع أن حكما لاحقاً ومثيراً للسجال عن المحكمة العليا ألغى الحكم الصادر في العام 2009. الأمر الذي دفع معظم فئات المجتمع إلى التنديد بقرار المحكمة العليا، علماً أن هنالك مشاهد علاقات مِثلية صارخة في البارات، وفي حمّامات المدن الكبرى.
إن العلاقات الجنسية ليست أبعد من “كبسة زر” (على الكومبيوتر) بالنسبة للرجال المِثليين. والجنس للبيع، سواءً للرجال أو النساء، متوفر بسهولة، وهذا يشمل فئة جديدة من العاملات الجنسيات من طالبات المدارس أو من السيدات المتزوجات المتوسطات الأعمار، كما أن فنادق الخمسة نجوم المشهورة في أنحاء الهند تُستَخدم الآن كـ”جناح حريم” عصري.
وكيف ينسجم ذلك كله مع “نظام الطبقات” الهندي القديم ومع الدين؟
لكي أجيب على هذا السؤال، ينبغي أن أبدأ ببضعة معايير.
لقد ركّزت في دراساتي (حول الحياة الجنسية في الهند) على الطبقة الوسطى المدينية. وهنالك سبب لذلك التركيز. فحينما حرّزت كتابي “الهند والحب: الزواج والجنس في القرن الواحد والعشرين”، كنت في الواقع مهتمة بمعرفة أية فئات كانت تدفع نحو تغيير النظرة إلى الجنس والجنسانية في الأوقات الحديثة. وهي، بالدرجة الأولى، الطبقة الوسطى الشابة التي تقطن المدن. لقد سافرت إلى كل المدن الهندية الكبرى وإلى أكثر من 10 مدن أخرى، لكي أجمع المعلومات وأكوّن الإنطباعات عن التغييرات الجارية. ووصلت إلى قناعة بأنني كنت بحاجة إلى التعمّق في دراسة نظرة الطبقة الوسطى إلى موضوعي. لأن ما تفكّر به الطبقة الوسطى اليوم، وما تشعر به اليوم، هو ما سيتحوّل إلى قاعدة عامة في الغد، خصوصاً بالصلة مع تطوّر العالم كله.
إن حجم الطبقة الوسطى في الهند اليوم يُقَدَّر بـ420 مليون نسمة من أصل 1،2 مليار نسمة. وحسب التقديرات، فإن 90 بالمئة من سكان الهند سيكونون من الطبقة الوسطى بحلول العام 2039، وأن الهند ستشتمل على أكبر طبقة وسطى في العالم بحلول العام 1927. أي أنه، في غضون ربع قرن تقريباً، أو في جيل واحد، فإن الهند سوف تضيف 1 مليار إنسان إلى الطبقة الوسطى- أي ما يعادل ضعف تعداد الطبقة الوسطى الهندية حاليا!
إن هذه الطبقة الوسطى نفسها هي التي ستحطّم “نظام الطبقات” الهندي التاريخي. إن أوجه الشبه بين أعضاء الطبقة الوسطى في أرجاء الهند أكبر، وأكثر تماسكاً، من القوى التقليدية للطبقات القديمة، وللدين، التي صاغت الهند طوال ألوف السنين. وفي حين كانت التحوّلات بطيئة حتى الآن، فهنالك مؤشرات على أن النمو الإقتصادي، والتعليم، يساعدان في هدم الحواجز الإجتماعية القائمة منذ قرون.
إن الحواجز الدينية قوية جداً حتى الآن، ولكنها بدورها ستنهار في نهاية المطاف كما انهارَ فعلاً نظامُ الطبقات الإجتماعية القديم.
كيف تؤثّر التكنولوجيا، وخصوصاً التواعد عبر الإنترنيت والأفلام الإباحية، في إعادة تشكيل نظرة الهنود للحب وللعلاقات الجنسية؟
لعبت التكنولوجيا دوراً كبيراً في الثورة الجنسية. لقد ألهب التلفزيون بالكابل، وفايس بوك، وتويتر، ويوتيوب، والأفلام الإباحية على الإنترنيت، وما شابه، خيالَ الهند الشابة، ووسّعت أفاقها ومطامحها بكبسة زرّ على الكومبيوتر! وتضم الهند الآن ثالث أكبر قاعدة لمستخدمي الإنترنيت في العالم، إذا يصل عددها إلى 100 مليون مستخدِم، بعد الصين والولايات المتحدة. وفي السنوات الثلاث القادمة سيزيد عدد مستخدمي الإنترنيت عن 300 مليون شخص.
لقد فتح الإنترنيت الأبواب للأشخاص (وهم كثيرون جداً) الذي يعانون من حواجز مادية، أو قيود عائلية، أو غيرها، وجعلهم قادرين على الوصول إلى الجنس الآخر. وهذه نقطة مهمة، لأن إمكانيات الإتصال ما تزال مقيّدة جداً. وكما قلت أعلاه، فإن عدد الناس الذين يشاهدون أفلاماً إباحية في الهند مذهل، ولكنه لا يدعو للدهشة. فإمكانية الحصول على الجنس ما تزال ضئيلة جداً، مما يعني أن الأفلام الإباحية، وخصوصاً الأفلام الإباحية على الإنترنيت، تسمح بإثارة سريعة وسهلة في مجتمع يعاني من قيوده.
الممارسات الجنسية الإنتقائية، وقتل المواليد الجدد، والعنف الجنسي، هذه كلها مشكلات عميقة الجذور ما تزال الهند الحديثة تعاني منها. كيف يمكن للهند أن تتعامل مع الأسباب الباطنية لهذه الأزمات؟
كما أفهم الأمر، فإن ذلك كله جزء من الجانب الأسود للثورة الجنسية. إن بعض الأمور التي تتمسّك بها الهند لا تتوافق مع “مبدأ اللذة” الذي تمّ اكتشافه حديثا. فهنالك جانب ثانٍ لكل الحريات وللإستكشاف الذي جاءت به، وستظل تجيء به، الثورة الجنسية. هنالك جانب سفلي مظلم للثورة الجنسية الهندية لأن الهند عالقة في مستنقع صنعته بنفسها. مثلاً، ما تزال حالات قتل البنات الرضع وأجنة الإناث مستمرة، وما تزال نسبة الإناث إلى الذكور تتجه إلى الإنخفاض. إن الوثائق الصادرة عن الحكومات تقول صراحة أن الهند ليست “بحاجة” إلى تربية جنسية. وتوصي الحكومات باعتماد “اليوغا” والعلاجات الطبيعية. ونادراً ما تتوفّر للجيل الشباب مساحات منظمة لنقاش الجنس والعلاقات بين الجنسين.
ويمثل ذلك ردّ فعل على التغييرات الحاصلة بسرعة الإنترنيت. نحن بحاجة إلى برامج تربية جنسية كبيرة، وواسعة النطاق، وإلى برامج للتوعية بخصوص العلاقات بين الجنسين كذلك. المشكلة هي أن الحكومة لا تبذل جهداً كافياً في هذه المجالات.
في شهر ديسمبر الماضي، أصدرت المحكمة العليا قراراً صادماً بإعادة العمل بقانون وضعه الإستعمار البريطاني وحظرَ فيه العلاقات المِثلية في الهند. وفي الشهر الماضي، أصدرت المحكمة العليا نفسها قراراً يمنح “المتحوّلين جنسياً” (يشير الهنود إليهم بكلمة “الهِجرة”) إعترافاً قانونياً كاملاً (ملاحظة من “الشفاف”: هذا يعطيهم حقوقاً في التوظيف مثلا. وجدير بالذكر أن باكستان وبنغلادش أصدرت قوانين مشابهة لصالح المتحولين جنسياً.). يبدو أن المحكمة العليا محتارة في ما إذا كان ينبغي، أم لا، تقبّل الأقليات الجنسية والسماح لها بالتعبير العلني؟
إن القِيَم الجديدة تتشكّل بسرعة محمومة، ونحن نعيش في حالة تشوّش مائع. هنالك ردّ فعل ضد التجاوزات الجنسية، وهنالك نزاع بين القديم والجديد. إننا نشاهد ذلك من حولنا، كما نشاهده في المشهد القانوني الهندي. إن “الهِجرة”، أي “المتحوّلين جنسياً”، يُحظون بقبول ثقافي في الهند أكثر من “المِثليين”. ولهذا بدا أن القرار الصادر لصالحهم هو نوع من الترضية على قرار منع العلاقات المِثلية. ولكن القرار الجديد لا يشكل ترضية، ولا أعتقد أن الهند سوف تُذعن بل ستظل تظالب إلى أن يحصل المِثليون على حقوقهم.
حقّق حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي انتصاراً كاسحاً في الإنتخابات التي جرت قبل أيام. ومع أن ذلك الحزب ظل غامضاً إجمالاً في موقفه من حقوق المثليين وحقوق الأقليات الجنسية الأخرى، فقد أعلن بوضوح أنه يؤيد قرار المحكمة العليا الذي يفرض حظراً على العلاقات المِثلية. إذا ما وصل حزب بهاراتيا جاناتا إلى السلطة، فهل ستحصل تراجعات بالنسبة للجنسانية وبالنسبة لحقوق الأقليات الجنسية؟ أم أن تظلين على تفاؤلك بأنه ستحصل تغييرات كبرى في النظرة إلى العلاقات الجنسية؟
يتحمل حزب بهاراتيا جاناتا وغيره من الجماعات الهندوسية اليمينية المسؤولية عن بعض الممارسات البشعة والقمعية التي حدثت في الماضي، بما فيها الإعتداء بالضرب على شبان وشابات صغار في السن، وطرد سيدات من البارات، والإحتجاج على “عيد العشاق”. إن حزب بهاراتيا جاناتا يحمل إيديولوجية محافظة، ولكنه لم يحصل على أصوات الهنود لذلك السبب. لقد صوّت الهنود لحزب بهاراتيا جاناتا لأنه وعدهم بالنمو الإقتصادي وبالإنفتاح المالي. وإذا ما فرض حزب بهاراتيا جاناتا عناصر محافظة، فلا أعتقد أن الهند، وخصوصاً الهند الشابة، ستقبل ذلك. كما لن تتقبله الصحافة الهندية التقدمية، والليبرالية.
نعم هنالك خطر حدوث قدر من القمع، ولكن الحقيقة هي أن الثورة الجنسية جارية الآن في الهند، وأنها قطعت شوطاً بعيداً بحيث لم يعد باستطاعة أيٍّ كان أن يوقفها. ربما نواجهات نكسات من القوى الأكثر تقليدية (بما فيها حزب بهاراتيا جاناتا) ولكن الثورة الجنسية تتمتّع بزخم سيجبر تلك القوى التقليدية على التراجع.
المقابلة نقلاً عن
موقع “ذي ديبلومات”، ويمكن قراءة النص بالإنكليزية هنا.