من اجل انقاذ نفسه، والبقاء في السلطة ولو شكليا، يبدو النظام السوري على استعداد للذهاب بعيدا في تنفيذ المطلوب منه إسرائيليا. سيكون عليه في مرحلة معيّنة القبول بالامر الواقع المتمثّل في التخلي عن الجولان لإسرائيل في مقابل إيجاد صيغة معيّنة تغنيه عن توقيع ورقة رسمية بذلك، تماما مثلما تخلّى في مرحلة معيّنة عن لواء الاسكندرون الذي كان الى ما قبل سنوات قليلة “اللواء السليب”.
سقط النظام السوري. الدليل الأخير المهمّ على سقوطه أداء بشّار الأسد صلاة عيد الأضحى في داريا، او على الاصحّ على أشلاء البلدة المتاخمة لدمشق. ذهب الى داريا للاحتفال بتهجير أهلها. كيف يمكن لشخص يعتبر نفسه رئيسا منتخبا للجمهورية العربية السورية القبول بان يكون بلده تحت اربع وصايات هي الايرانية والروسية والتركية والإسرائيلية؟
بات واضحا الى حدّ ما ما الذي تريده كل وصاية من الوصايات الأربع. تركيا مهتمّة بعدم قيام دولة كردية في سوريا تكون لها امتدادات داخل الأراضي التركية. حصلت انقرة على ما تريده بموافقة اميركية. ليس معروفا بعد ما الذي سيكون موقفها النهائي من مدينة مثل حلب تعتبر في غاية الاهمّية بالنسبة اليها، بل تعتبرها مدينة تركية.
بالنسبة الى ايران، كلّ ما يهمها هو “سوريا المفيدة” التي تسيطر على الجزء الأكبر منها. وهذا ما يفسّر الى حد كبير هذا التورط العسكري لـ”حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الايراني، في الحرب التي يشنّها النظام على شعبه من منطلق مذهبي قبل ايّ شيء آخر.
تريد ايران ربط “سوريا المفيدة” بالدويلة الاتي اقامها “حزب الله” في لبنان وذلك كي يظلّ قسم من الأرض السورية ممرّا للأسلحة التي ترسلها ايران لـ”حزب الله” الذي تعتبره الإنجاز الأكبر الذي حقّقته منذ قيام “الجمهورية الإسلامية” في العام 1979. يظل “حزب الله” بالنسبة الى ايران في مستوى اهمّية النظام العلوي في سوريا، بل اكثر اهمّية منه.
تريد روسيا تأكيد انّها عادت قوّة عظمى موجودة على ساحل المتوسّط. لم يعد لديها من مكان تثبت فيه انّها قادرة على العودة الى لعب دور خارج حدودها غير الأراضي السورية التي صارت تسيطر على جزء منها. إضافة الى ذلك، لا يمكن تجاهل ان الساحل السوري في غاية الاهمّية بالنسبة الى روسيا التي لا تريد ان تكون هناك خطوط للغاز تمتد من الدول العربية في الخليج الى الشاطئ المتوسطي.
تبقى الوصاية الرابعة التي هي إسرائيل. تصرّفت إسرائيل حتّى الآن، بالتفاهم التام بين رئيس الوزراء فيها بنيامين نتانياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بما يشير الى انّها تعرف ما الذي تريده في نهاية المطاف. لن تكشف اوراقها سريعا ما دام التنسيق العسكري مع روسيا يلبي كلّ مطالبها الآنية. بين هذه المطالب تنفيذ غارات في الداخل السوري متى تطلبت مصالحها ذلك وذلك من دون العودة الى احد، بما في ذلك الولايات المتحدة التي يظهر انّها استسلمت نهائيا لروسيا في كلّ ما له علاقة من قريب او بعيد بهذا الملفّ.
هل من يعرف ما الذي تريده إسرائيل بدقّة؟ الواضح ان التفاهمات التي كانت سارية مع النظام السوري منذ تسليم حافظ الأسد الجولان في العام 1967، ما زالت سارية الى حدّ كبير. لكنّ الذي يتبيّن مع مرور الوقت ان إسرائيل ماضية في مشروعها الأصلي الذي يشمل السيطرة مباشرة او غير مباشرة على الجولان من جهة والانتهاء من ورقة اسمها جنوب لبنان من جهة أخرى.
كان هناك دائما في كلّ وقت تفاهم إسرائيلي مع النظام السوري على بقاء جنوب لبنان جبهة مفتوحة، ان عندما كان الجنوب تحت سيطرة المسلّحين الفلسطينيين وان بعدما سيطر عليه “حزب الله”. كان مطلوبا في كلّ وقت ان يكون الجولان هادئا والجنوب ورقة للمساومات التي لا علاقة للبنان بها. لذلك، كان القرار الرقم 1701 الذي صدر عن مجلس الامن في آب ـ أغسطس 2006 نقطة تحوّل على الصعيد الإقليمي. يتمثّل هذا التحوّل بعودة الجيش اللبناني الى الجنوب بعد غياب زاد على عقدين عنه… مع استمرار وجود “حزب الله” في المنطقة لاسباب مختلفة بما فيها غياب القدرة لدى الحكومة اللبنانية على اتخاذ موقف واضح من هذا السلاح المذهبي الذي يخدم المشروع التوسّعي الايراني في المنطقة.
مرّة أخرى ما الذي تريده إسرائيل؟
الخوف كلّ الخوف ان يكون هناك ثمن على لبنان دفعه. ففي مقابل توفير الغطاء للوصايات المباشرة التركية والروسية والإيرانية على الأراضي السورية ستحتاج إسرائيل الى من يغلق نهائيا ملفي الجولان وجنوب لبنان. ما الذي تريده ايران من إسرائيل كي تضمن لها امنها، خصوصا من جنوب لبنان؟
يفترض في اللبنانيين التفكير في هذا السؤال مليا. يمكنهم عندئذ الوصول الى إجابات، علما انّ لا تفكير إيرانيا في هذه المرحلة سوى في كيفية عقد صفقة مع “الشيطان الأصغر”. في أساس مثل هذه الصفقة ورقة جنوب لبنان. ستكون هذه الصفقة التي تسعى ايران من خلالها الى وضع اليد نهائيا على لبنان استكمالا للصفقة الكبرى مع “الشيطان الأكبر” التي كان في أساسها الملف النووي الايراني.
هل بدأ اللبنانيون يفهمون الآن لماذا كلّ هذا التأخير في انتخاب رئيس للجمهورية ولماذا كلّ هذه العراقيل التي وضعها “حزب الله” من اجل بقاء الوطن الصغير من دون رئيس؟