حدث قبل ايّام قليلة من اندلاع حرب تمّوز في العام 2006 ان كنت في عشاء الى مائدة صديق يمتلك منتجعا سياسيا معروفا على شاطئ مدينة جبيل. رنّ هاتف صديقي وكان في الجانب الآخر محام لبناني كبير راح يتوسّط لامير سعودي في غاية الاهمّية من اجل تأمين الحصول على شاليهين يستأجرهما لعطلة نهاية الأسبوع. قدّم صاحب المنتجع اعتذاره الشديد لعدم قدرته على تلبية طلب الأمير نظرا الى ان كلّ الشاليهات محجوزة سلفا وذلك منذ فترة طويلة. اكّد صديقي للمحامي الكبير انّه لا يستطيع الطلب من أي شخص الغاء حجزه لاحد الشاليهات نظرا الى انّ ذلك يضرّ بسمعة المنتجع.
لم تمض ايّام الّا واندلعت الحرب التي افتعلها “حزب الله” مع إسرائيل بعد خطفه جنودا وقتله آخرين عند الخط الأزرق في جنوب لبنان، علما ان اسرائيل كانت نفّذت في ايّار – مايو 2000 انسحابها من الأراضي اللبنانية بموجب القرار الرقم 425، الصادر في العام 1978.
مع بدء الحرب، طارت كلّ الحجوزات للشاليهات وطارت معها اعراس كثيرة كان سيستضيفها المجمع السياحي. تكبّد صديقي خسائر تقدّر بمئات آلاف الدولارات… وبدأ الانقطاع العربي عن لبنان.
كانت سنة ونصف سنة تقريبا مضت على تفجير موكب الرئيس رفيق الحريري في بيروت. بقي لبنان حتّى تموز 2006 صامدا. بقي وجهة مفضلة لعدد كبير من العرب، بما في ذلك امراء وشيوخ كانوا يشكلون عماد الحركة السياحية في البلد مع ما يعنيه ذلك من توفير آلاف فرص العمل لشبان لبنانيين من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق. كان هؤلاء يعيشون في ظروف معقولة على ارض وطنهم الذي نعم بسنوات من الازدهار بفضل رفيق الحريري وليس بفضل احد غيره. كان هؤلاء الشباب يرون مستقبلهم في لبنان وليس خارجه كما يدفع الى ذلك “حزب الله” واداته المسيحية الممثّلة بـ”التيّار الوطني الحر”.
صيف العام 2006، أي قبل خمس عشرة سنة، بدأت حرب اخراج لبنان من تموضعه العربي. حصل ذلك على مراحل بعدما اتاحت حرب صيف العام 2006 لـ”حزب الله” تحقيق انتصار حاسم على لبنان. فتلك الحرب كانت تتمة طبيعية لاغتيال رفيق الحريري ورفاقه، على رأسهم النائب باسل فليحان. لم يكن الهدف من تلك الحرب تغطية الجريمة الكبرى فحسب، بل كان يشمل أيضا اجبار لبنان على إعادة تموضعه في المنطقة من جهة وقطع العلاقات القويّة التي كان يقيمها مع العالم العربي عموما ومع دول الخليج على وجه الخصوص، من جهة اخرى.
يدفع لبنان حاليا ثمن الانتصار الإيراني. يُعتبر ما نشهده حاليا في عهد الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، وهو “عهد حزب الله”، تتويجا لجهود حثيثة ودؤوبة استغرقت سنوات طويلة من اجل عزل لبنان عن محيطه العربي وتكريس امر واقع. صار لبنان منسيّا عربيّا. لم يعد رئيسه موضع ترحيب في ايّ بلد عربي. لم يعد ايّ ملك او امير او رئيس عربي يزور لبنان منذ ما قبل انتشار وباء كورونا (كوفيد – 19).
كان لافتا في الخطاب الذي القاه رئيس الوزراء المكلّف سعد الحريري في الذكرى الـ 16 لاغتيال والده تشديده على اهمّية عودة لبنان الى الحضن العربي قائلا: “لا مخرج من الازمة بمعزل عن العرب والمجتمع الدولي ومن دون مصالحة عميقة مع الاشقاء العرب والتوقف عن استخدام البلد منصة للهجوم على دول الخليج العربي وتهديد مصالح اللبنانيين”. أضاف: “ازور الدول العربية ودول المنطقة والعالم لأحشد الدعم للبنان ولأرمّم العلاقات خصوصا العربية حتى ينطلق الحل بسرعة عندما تتشكل الحكومة وستتشكل”.
قد تتشكّل حكومة وقد لا تتشكّل، لكنّ الأكيد ان معركة إعادة لبنان الى الحضن العربي ستكون من اصعب المعارك، خصوصا انّه سيكون من الصعب اصلاح ما فعله “حزب الله” منذ اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط – فبراير 2005 وبعد حرب صيف 2006 التي كانت انتصارا لـ”حزب الله”، ومن خلفه ايران، وهزيمة ساحقة ماحقة للبنان.
انتصر “حزب الله” بما يمثله على لبنان. في ضوء ما تحقّق من نتائج على الارض، انتصرت ايران في لبنان. يندرج ما حصل وما زال يحصل منذ اغتيال رفيق الحريري وصولا الى انتخاب ميشال عون، مرشّح “حزب الله”، رئيسا للجمهورية في سياقين.
السياق الاوّل تدمير كلّ مؤسسات الدولة اللبنانية وكلّ الأسس التي قام عليها لبنان بدءا بالنظام المصرفي وصولا الى مرفأ بيروت وبيروت نفسها، مرورا بالنظام التعليمي والمستشفى والفندق وكلّ ما هو مرتبط بالقطاع السياحي والاعلام والخدمات المختلفة التي كان يقدّمها لبنان لابنائه ولمحيطه العربي.
امّا السياق الثاني فهو يختزل بتغيير هويّة لبنان. ليس لبنان في الوقت الحاضر، بعد جهود مستمرّة مدروسة بدقّة، سوى تابع لإيران. ما غاب عن كثيرين، للأسف الشديد، معنى استضافة بيروت، من بين ما تستضيف، فضائية الحوثيين في اليمن وان يكون لبنان قاعدة صواريخ إيرانية وان تكون الحدود الدولية مع سوريا قد ازيلت. يعطي التدخّل العسكري لـ”حزب الله” في الحرب المستمرة على الشعب السوري منذ عشر سنوات، وهي حرب ذات طابع مذهبي في جانب منها، فكرة عمّا آل اليه لبنان حيث تحقّق انتصار إيراني كامل على بلد لا تذكّر بانّه كان عربيا وعضوا مؤسّسا لجامعة الدول العربيّة سوى الزيارات التي يقوم بها سعد الحريري لهذا البلد العربي او ذاك…