بوفاة العلامة السيد محمد حسين فضل الله خسرنا في لبنان شيعة وغير شيعة، (وانا من بينهم) أحد دعاة الحوار والتواصل في معزل عن حجم محاولاته للتحديث في الشؤون الدينية التي أفتى بها والتي هي شأن شيعي.
بما لا يرقى اليه الشك كان المرجع الراحل العلامة فضل الله جداليّاَ وسجاليّاً. فهو افلت من مركزية “قم” الدينية بعد ان امعن النظام العراقي البعثي تهميشاً وتهشيماً وإلغاءً لمركزية “النجف الاشرف”، بما هي المرجعية الدينية الرئيسية للشيعة. فأسس المرجع الراحل مرجعية مستقلة اعطاها بُعدا وطابعا عربياً، وسعى الى التمايز عن اترابه بما اتاح له لبنان من حريات ونجح في إيصال صوته وفتاواه ومواقفه خصوصا عدم إقراره بمبدأ ولاية الفقيه.
ومن ابرز ما يسجل للمرجع الراحل انه عمل على مأسسة مرجعيته تربويا وصحياً واجتماعياً، فأنشأ مؤسسات ارتبطت به وتابع تفاصيل عملها. والى الجانب الديني الذي كانت فيه بعض الفتاوى التي يطلقها مثيرة للجدل، عمل المرجع الراحل من خلال موقعه على إشاعة ثقافة الحوار والوصل متخطيا الحواجز المحلية والاقليمية.
وبوفاته، نتطلع نحن اللبنانيين من موقع المختلف دينيا عن مواطنينا الشيعة الى تحديد حجم الخسارة التي تضاعفت ايضا بعد ان سبقه الى الرحيل الامام محمد مهدي شمس الدين- حيث تحول بغيابه المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الى ما يشبه الإدارة الرسمية- لندرك حاجتنا الى من يستطيع إكمال مسيرة المسار الشيعي اللبناني والعربي نحو الانفتاح والتواصل بما هو سيرورة تاريخية وحتمية في شرق يضج بالاديان والمتدينيين، وبما تمثله العولمة من تحد كوني تطرح على الاديان اسئلة وسجالات يومية.
ومع ان هذا الامر ليس شأنا شيعيا صرفا بل هو تحدٍ في وجه جميع الاديان، بعد أن بدأت تطفو الى السطح نظريات من نوع صراع الحضارات الى صراع الاديان الى إشتعال فتن مذهبية في غير بقعة من العالم، ترتفع نسبة التحدي وضرورة التصدي لمواجهته من اجل تغليب المصالح الوطنية والقومية على المصالح الطائفية والمذهبية المتزمتة الآنية الضيقة.
وفي ظل تنامي المسألة الإيرانية بتشعباتها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، يطرح الشأن الشيعي بتجلياته المختلفة سجالات في غير اقليم ودولة عربية كان الامام الراحل محمد مهدي شمس الدين من ابرز الذين تصدوا لها، حين دعا الشيعة الى تغليب المواطنة والانتماء للدول التي يحملون جنسياتها على أي إنتماء وشأن آخر.
لبنانياً، ومن موقع المختلف دينيا ايضا عن الشيعة، قد لا نجد ان الفراغ الذي أحدثه غياب المرجع العلامة محمد حسين فضل الله هو فراغ بالمعنى الكامل. فالطائفة الكريمة تزخر برجال الدين والشخصيات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي عملت خلال مسيرتها على تعزيز ثقافة الوصل والحوار وتغليب المواطنة وتفعيل ما نصطلح نحن اللبنانيين على تسميته بثقافة “العيش المشترك”.
ومن بين هؤلاء المحدثين والمجلين لبنانيا تستوقفنا تجربة العلامة السيد هاني فحص المحلية والعربية بما تختزنه شخصيته من غنى ثقافي واجتماعي وديني. فالسيد هاني، كما عرفته، مسكون بهاجس التواصل. ومنذ معرفتي به، عملنا سويا في إطار “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني” الذي أُريدَ منه التأسيس لأول مساحة مشتركة بين الطوائف الخارجة تواً من خلف متاريسها للعمل على إشاعة ثقافة قبول الآخر والتواصل معه الى أي طائفة او حزب سياسي انتمى، وفي مسعى جدي للإستفادة من تجارب ودروس الحرب اللبنانية وصولا الى إعطاء وتحديد معنى جديد للبنان لا يحمل في طياته التأسيس لحروب مستقبلية ولا لغلبة طائفة على الطوائف الأخرى ولا لاستقواء طائفة بالخارج لتكريس غلبتها داخليا على مواطنيها.
ومنذ بداية التسعينات من القرن الماضي لم تنقطع تلك العلاقة التي أنشأها “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني” مع السيد هاني. فكان محل رصد وتتبع لحركته التي لا تهدأ لبنانيا وعربيا. من جمعية الى أخرى، ومن منطقة لبنانية الى أخرى، ومن بلد عربي الى آخر. في الامارات العربية، كان يساجل ويدعو لتمتين اواصر المواطنة. وفي البحرين، ساجل وناقش في شؤون الشيعة والدولة. وفي المملكة العربية السعودية، ساجل في تجديد أواصر الروابط الاسلامية وتحصين الساحة الاسلامية وتعزيز منعتها من الاختراقات الثقافية والاجتماعية. وفي العراق، باعه طويل في تقريب وجهات النظر وتقليص المسافات بين مكونات الطيف السياسي على اختلافهم، وهو الذي عاش وتعلم في كنف النجف الاشرف. وفي “أربيل”، وجد ارضا خصبة للحوار مع الاكراد واليزيديين والمسيحيين من كلدان واشوريين فجالسهم وحاورهم. وفي مصر، حاور الأزهر الشريف.
هذا طبعا من دون إغفال إسهامه المباشر في القضية الفلسطينية مناضلا عنيدا عمل على إعلاء الشأن الفلسطيني في ارض الحنوب وعلى مساحة الوطن.
اما الغرب فلم يكن ببعيد عن مشروع السيد هاني الانفتاحي والتواصلي. فاستمع اليه عبر مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية التي ناقشته في رؤيويته التجديدية الخارجة من الاطر الضيقة الى رحاب الانسانية الاشمل.
انه السيد هاني فحص كما عرفته وكما عرفه مواطنوه في لبنان والعالم العربي محاورا رحب الصدر، عاملاً دؤوباً لا يمل في مشروع حياته في الحوار والتواصل وتعميم ثقافة الأنسنة.