مشكلة مصر والشرق بعامة هي ثقافة الهيمنة، الدين أي دين هو رسالة هداية للناس، لكننا نفهمة كهيمنة، أن تفرض قوة خارجية على الناس ليس الدين نفسه فقط، وإنما أيضاً تفرض وصاياه وتعليماته، ومع التاريخ الطويل تتكاثر التخريجات والتفريعات، لتصب كلها في نهر الهيمنة، لترسم للإنسان كل صغيرة وكبيرة في حياته، ليس لتكون له نبراساً يأخذ منه ما يشاء ويحتمل، وإنما لتفرض عليه بالقوة، سواء كانت قوة القانون، أو قوة التكفير والاستهجان المجتمعي، وهي أشد وأقسى من قوة القانون أو حتى الإرهاب بالسلاح.
الهيمنة يمارسها القوي أو من يتصور لنفسه مقومات القوة، لكن المشارك الأكبر في الترويج للهيمنة ليس الفرد أو مجموعة الأفراد الذين يمارسون القهر، لكنه خنوع الناس وتخاذلهم، أن يقبلوا أن يصوموا ويصلوا ويرتدوا ثيابهم، ليس وفقاً لإيمانهم وقناعاتهم الخاصة، لكن لأن أحداً قال لهم أنهم ينبغي أن يفعلوا هذا لكي يرضى الله عنهم، أو لكي لا ينزل غضبه عليهم، هي ثقافة العبيد التي رضعنا لبنها من ثدي أمهاتنا ثم في مدارسنا وفي دور العبادة، ويستوي هنا المساجد والكنائس.
ليست المسألة إذن بين المسلمين والمسيحيين، ومحاولة المسلمين الهيمنة بصفتهم الأكثرية، المسألة فيما يخطط له الإخوان المسلمين مثلاً إذا ما تولوا الحكم (لا قدر الله)، هم يخططون للهيمنة بالدرجة الأولى على المسلمين، فبعد أن حددوا لهم ماذا يلبسون وماذا يقولون عند التحية وعند دخول المرحاض وعند السفر ودخول السوق وماذا يقول الزوج وهو يجامع زوجته إلى آخرة، يخططون في برنامجهم الانتخابي المزعوم، أن يحددوا للمسلم وللمصري بعامة ماذا يشاهد في السينما والتليفزيون، وماذا يقرأ من كتب، وسوف يحددون سياسة الدولة أيضاً بالهيمنة الدينية، وليس وفقاً للمصالح الدنيوية الوقتية، وسوف تعمل البنوك والمؤسسات المالية كذلك، ليس وفقاً للمصلحة ووفق أحدث ما يتوصل إليه العلم الاقتصادي، لكن وفق ما يستخرجون لنا من بطون الكتب القديمة.
لقد حول هؤلاء الناس، أو بالأصح حولنا (فكلنا شركاء في جرم الهيمنة) الدين من شعلة نور نهتدي بهديها مدفوعين بالإيمان وبالرغبة الصادقة في اقتناء المثل العليا، حولناه إلى أداة قهر وإرهاب، لننساق سوقاً في الطريق الذي يحددون لنا، خوفاً من السيف المشرع على رقابنا.
هذا الذي ترك الإسلام واعتنق المسيحية، كان من المفترض أن يصيح المسلمون المؤمنون صيحة رجل واحد، بأنه هو الخاسر وليس الإسلام والمسلمون، فليذهب ويعتنق أي دين يشاء، وسوف ترتد عليه عاقبة ما يفعل، ونفس الشيء يقال عمن يترك المسيحية إلى الإسلام . . ليس من المطلوب في هذه الحالات أن ندبج المقالات والاتهامات بأن هذا إنسان مختل أو باحث عن الشهرة أو المال وما إلى ذلك، وكأننا نرى أن خروجه على الدين يعني اتهاماً للدين نسارع برده ودحضه، من يفتعل ذلك الدفاع عن الدين هو في الحقيقة من يتهم الدين بالضعف، ويتهم المؤمنين به بالهشاشة والتقلقل، وكأن ردة فرد ستشجع الجميع على محاكاته، هذه مجرد أوهام عقول مريضة بالهيمنة، فالهيمنة تحمل في داخلها الإحساس بالضعف، أما القوي بحق فهو من يؤمن بعظمة ما لديه من أفكار وعقائد، ولأنه يؤمن بعظمتها، فهو يراها أكبر وأقيم من أن تفرض على كائن من كان، بل من يسعى إليها فليسع.
إذا رفض المسلم والمسيحي أن يمارس رجال الدين الهيمنة عليهم باسم الدين، فلن يسعى المؤمنون بدين الأغلبية للهيمنة على الأقلية، لن يسعى المسلمون السنة للهيمنة على الأقباط وعلى الشيعة والبهائيين، ولن يسعى الأقباط للهيمنة على الكاثوليك والبروتستانت وشهود يهوة.
إن قضية الاستنارة ليست في مجرد إنصاف الأقليات، وإنما البداية لابد أن تكون من نقطة إنقاذ الأغلبية نفسها من نفسها، القضية هي كيف نربي ابناءنا على أن يكونوا أحراراً، وأن يرفضوا أن يساقوا كالعبيد، مهما كانت المبررات أو اللافتات.
kamghobrial@yahoo.com
* الإسكندرية