بات من المؤكد والضروري أن نشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف حاجة أساسية وملحة وخاصة في ظل هذه الظروف الحساسة والحرجة التي نمر بها من كافة النواحي التي نحن فيها، ويجب زرع هذه الثقافة في نفوس وعقول الجيل النشء، لأنها تساهم بشكل فعال في خلق جيل واع قادر على تحمل أعباء المسؤولية وقيادة المرحلة القادمة بشكل ايجابي وسليم، لأن مثل هذه الثقافة تشكل ترسيخاً قوياً لمعالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على أساس من الثقة وبعيداً عن الهواجس وحسابات الربح والخسارة.
لأن الثقافة بشكل عام هي ثقافة إنسانية، لذلك لا توجد ثقافة عديمة القيمة كلياً، أو ثقافة كاملة مكملة تحتكر الحقيقة الإنسانية وتختزل ثراء الوجود وتمتلك حق فرض معاييرها وايديولوجيتها وأجندتها السياسية على الآخرين ، بما في ذلك الليبرالية التي تعيش أبهى أيامها وأكبر انتصاراتها. لذلك نرى بأن السبب الكامن وراء الاستقرار النسبي والغنى الثقافي لمعظم المجتمعات الغربية يعود بالضبط إلى حقيقة أنها لا تعتمد على عقيدة سياسية وحيدة أو وجهة نظر واحدة للعالم.
ولا يتحقق التسامح وقبول الآخر، إلا بالحوار والتواصل، والمشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار، لأن إقامة حوار بناء، وخلق فضاء للنقد والفكر المستقل يسود المجتمع حالة من الاستقرار والسلام والتعايش مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه.
وإن الحوار والتواصل دائماً وأبداً هو الطريق الصحيح لحل كافة القضايا العالقة، وهو البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، وبالحوار نحافظ على التواصل والمحبة والسلام، ونعمق معاني الديمقراطية والتعاون، ولا يكفي لنجاح الحوار مجرد الدعوة إليه دون اتخاذ خطوات عملية تترجم ما اتفق عليه من قبل الأطراف المتحاورة على أرض الواقع، وتنمي الثقة بين المتحاورين، فإذا لم يطمئن المتحاورين إلى المصداقية في إجراء الحوار، وإذا لم تستبعد العوائق والموانع فيصبح الحوار بدون غاية أو هدف، أو مجرد حوار من أجل الحوار.
إن المجتمع المتجانس ثقافياً يتمتع بقوة مميزة خاصة به، ويخلق مناخاً تشترك فيه الثقافات المختلفة لحوار مثمر يعود بالنفع على الجميع، ويساعد على إقامة حس مجتمعي تكافلي، وبذلك يسهل عملية التواصل الداخلي بين أبناءه، ويغذي ثقافة كثيفة متماسكة ويمدها بأسباب الحياة.
وإن قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثقافة مبنية على حساب حقوق الآخر أو وجوده، كما ويجب النظر إلى الآخر المختلف من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أي سبب آخر، وطالما أن الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فرد مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكل طبيعي بما تنسجم مع واقعنا ومتطلباته.
وإن التسامح والديمقراطية لهما اتجاهان أي اخذ وعطاء وتفاعل ايجابي مع قيم إنسانية جديدة بعيدة عن روح التعصب والكراهية وشطب الآخر المختلف.
حيث إن غياب الديمقراطية تنعدم إمكانية تكافؤ الفرص في التعبير عن الرأي, وإن غياب العدالة السياسية تنقطع فرص الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع, وإن غياب سلطة القانون يقع الضرر على الجميع بدون استثناء.
هنا أود أن أشير إلى مسألة جد مهمة وهي: قضية الحجاب عندما أثير من قبل الحكومة الفرنسية العلمانية، فتح باب الحوار واسعاً أثنائها على مصراعيه بين جميع مكونات المجتمع الفرنسي، فقد كان باستطاعة الفرنسي أن يقول إن الحجاب يستفز مشاعره الدينية أو مزاجه الشخصي، وبالتالي يقف بدون تحفظ ضد الحجاب ويطالب بمنعه، ولكن وجود دستور معترف به من قبل الجميع وهذا الدستور يحترم لكل إنسان حقوقه الشخصية جعل المنع صعباً.
وفي المجتمعات الغربية توجد مئات من المجلات والكتب والجمعيات والهيئات والمواقع التي تمارس النقد المعرفي للدين، ويتقبلها الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي برحابة صدر، دون أن يضيق بها أحد أو يدعو إلى الحد من حريتها، أما في مجتمعاتنا فيواجه النقد المعرفي للدين بالرفض والاستهجان، بل وبالدعوة إلى محاكمة من يمارسه بحجة إهانة (للمشاعر الدينية وللمقدس).. لأننا لم نصل بعد إلى أمر هام وهو أنه في النقد المعرفي لا توجد مقدسات تعلو على النقد.
إن مثل هذه الثقافة مفهومة، لأنها رد الفعل الطبيعي لمن لم يتعلم بعد ثقافة الاختلاف والتعددية الفكرية، ولم يعتد على قبول الآخر المختلف، ولذلك من الطبيعي أن نسمع من يصف النقد المعرفي للإسلام وبنيته الفكرية بأنه إهانة للمقدسات.
ولكن غياب ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف هو من أكثر عوامل الواقع الذي يعاني منه مجتمعنا في الوقت الحاضر، وهذا يمثل مسؤولية يجب أن يضطلع بها الجميع من قوى سياسية ومنظمات مجتمعية ومؤسسات ثقافية وحتى علماء دين، ولكن بعض ما تم ذكرها هو فاقد لما عليه أن يعطيه للمجتمع، وحيث أن فاقد الشيء لا يعطيه بأي حال من الأحوال.
وإن الاعتراف والإقرار بثقافة التسامح وقبول الآخر والاعتراف به هو أمر جيد ومقبول نظرياً ولكن يجب العمل والنضال من أجل ترسيخ قيمة هذه الثقافة وتطبيقها في الحياة اليومية بشكل يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء.
من أجل العمل على نشر هذه الثقافة لا بد من اتخاذ بعض الخطوات العملية في هذا المجال ألا وهي:
#- تبني برامج علمية وذلك لتنمية وعي مجتمعي…
#- وضع مناهج تعليمية جديدة لإعداد جيل واع قادر على تحمل أعباء المرحلة…
#- إيجاد أدوات إعلامية متطورة على جميع الأصعدة…
#- نبذ كل أشكال التطرف والتخلف والتشدد في المجتمع عن طريق إقامة دورات تعليمية وندوات تثقيفية…
إن فكرة التسامح وقبول الآخر، واللجوء إلى الحوار وإلغاء فكرة شطب الآخر والثأر وإناطتها بالقانون، يعتمد على استعداد الأطراف التي تريد بناء مستقبلها على أساس تغليب المصلحة العامة على الخلافات الشخصية والمشاعر الدفينة البعيدة عن التعقل والتروي في نتائجها.
وهنا لا بد من الإشادة إلى بعض الشخصيات التاريخية المتسامحة:
#- المهاتما غاندي: صاحب سياسة المقاومة السلمية (فلسفة اللاعنف) وتسامحه ومن أقواله:
“أين يتواجد الحب تتواجد الحياة.”
“إن اللاعنف هو القوة العظمى لدى الإنسان. وهو أعظم من ما أبدعه الإنسان من أكثر الأسلحة قدرة على التدمير.”
توفي مقتولاً برصاص شخص هندوسي متعصّب لم ترق له عظمة التسامح الغاندية.
#- القائد الكردي الخالد مصطفى البرزاني صاحب الشخصية الكارزمية والمعروف بتسامحه وتعامله الإنساني مع الأسرى، فعبر ذات مرة بصريح العبارة عن إستراتيجيته العسكرية قائلاً: ( إن عقيدتي هي تحقيق مطالب شعبي وأن أفدي روحي في سبيل قضيتي …. وان حزبنا ليس ضد العرب ولا ضد أي قومية أخرى، ولا نشارك في ثورة من أجل اسم أو شهرة، إن العرب والأكراد أخوة، ولا يجوز التفرقة بين الأخوة، إننا لم نهاجم أحداً بل ندافع عن حقوق شعبنا الكردي).
#- بابا الفاتيكان والكاثوليك المسيحيين في العالم يوحنا بولص الثاني: تعرض لحادثة اغتيال عام 1981 من قبل تركي متعصب يدعى (علي أقجا ) فخرج على أثرها بجروح بالغة، وادخل المستشفى واخضع لعمليات جراحية كادت تودي بحياته، لكنه بالرغم من ذلك التقى بقاتله وعفا عنه وأخلى سبيله بكل رحابة صدر!!!
وبالرغم هذا وذاك نلاحظ أن هناك تصميماً واضحاً لدى كافة المهتمين والغيورين على حرية الإنسان وحقوقه المشروعة في الاستمرار بالعمل والنضال الدؤوب وبالوسائل المتاحة والممكنة في نشر هذه الثقافة مهما كانت الضريبة، وبفضل العولمة والتقنية الحديثة، لا يمكن لأي مجتمع اليوم عزل نفسه عن المؤثرات الخارجية، خصوصاً مع انتقال رأس المال والتكنولوجيا والقوى العاملة والأفكار وما إلى ذلك بحرية عبر الحدود الإقليمية وبالتالي إنتاج صيغ جديدة للتفكير والحياة.
selman_barodo@hotmail.com
* سوريا