توقفتُ، منذ سنوات أصحت طويلة، عن متابعة “الجزيرة“ القطرية، كما ذكرتُ في حينها، بداعي “القرف“. ولا أجد حتى الآن مفردة أفضل منها للتعبير عمّا انتابني من مشاعر كلما أجبرتني حاجة، وضرورة، العلم بالشيء، على مشاهدة الفضائية المذكورة.
وأذكرُ، مما علق في الذاكرة، قبل قرار المقاطعة برنامجاً حول دارون والداروينية قدّمته “الجزيرة“ للتدليل على وجود عيوب علمية ومنهجية كثيرة في صميم نظرية النشوء والارتقاء. وقد استعانت، في هذا الشأن، بنقاشات الإنجيليين الأميركيين، دون أن تكشف عن ذلك لجمهورها، بطبيعة الحال. فكل ما كانت تريده يندرج في باب التشكيك في صدقية العلم الحديث، لا توثيق وتمحيص المعرفة.
وبهذا لم تكن قد تقدّمت أكثر من خطوة واحدة على مصطفى محمود، الذي عرض منذ أوائل السبعينيات أشرطة أميركية وأوروبية مصوّرة عن ممالك النحل والنمل، حصل عليها مجاناً من سفارات البلدان المعنية، ويعود أغلبها إلى ثلاثة أو أربعة عقود سبقت، لتتحول على يديه إلى وسيلة إيضاح لعلاقة جديدة وفريدة اكتشفها أخيراً بين العلم والدين.
فعل مصطفى محمود ذلك في ظل “دولة العلم والإيمان“ الساداتية. وفعلت “الجزيرة“ ذلك في زمن ممارسة قطر لدور الوكيل في الباطن لمشروع تمكين الإخوان المسلمين، وأسلمة العالم العربي. لدولة “العلم والإيمان“ دلالة انتقال مصر من معسكر إلى آخر، وفي تمكين الإخوان دلالة الطموح القطري بالحصول على مكان ومكانة على خارطة العالم، بصرف النظر عن الوسيلة والثمن.
وقبل أيام على صفحات مجلة “الشؤون الخارجية“ (فورين أفيرز) الأميركية فعل شادي حامد، المفتون بالإخوان المسلمين، والباحث في معهد بروكينغز، ما سبق وفعله مصطفى محمود و“الجزيرة“، ولكن بلسان إنكليزي فصيح، وبراهين تنتمي إلى الحقل الدلالي نفسه لخلايا النحل، ومستعمرات النمل، بمعنى اعتمادها على “خفة اليد“ أكثر من ضرورات البحث ونزاهة الإفتاء في ما اختلف عليه الناس. ومن تحصيل الحاصل، طبعاً، التذكير باحتفاء “العربي الجديد“ بكتاب حامد عن “الاستثناء الإسلامي“ قبل سنوات قليلة.
في مقالة بعنوان “ما بعد الليبرالية في الشرق والغرب: الاسلاموية والدولة الليبرالية“، نشرته المجلة في عددها الأخير، يقول حامد إن مثقفين وساسة في الغرب يتحفظون بشكل متزايد على النظام الليبرالي، ويبرهن على ذلك بمثلين أحدهما الفرنسي ميشيل ويليبيك، والثاني صعود الحركات الشعبوية في أوروبا، وانتخاب دونالد ترامب.
يعني مع قليل من اللف والدوران، ثمة محاولة للقول إن دولة الغرب العلمانية أصبحت مُهددة بالإفلاس، والدليل ما يتجلى في تساؤلات جدية وجديدة عن علاقة الدين بالدولة، والوظيفة الاجتماعية للأخلاق والقيم. ولكن، وهنا اكتشاف حامد المُدهش، الشرق الأوسط يسبق الغرب الآن في التساؤل حول دور الدين في الحياة العامة، خاصة بعد الإطاحة بأنظمة مُستبدة في موجة الربيع العربي.
وفي معرض نقد ونقض على هذا الكلام، ثمة ما يستدعي القول إن: عمر التساؤل حول العلاقة بين الدين والدولة، ودوره في الحياة العامة، أقدم من الربيع العربي بكثير، وهو من عمر الدولة القومية الحديثة في العالم العربي. ويمكن التوّقف حول محطات هامة في هذا الشأن من نوع سجالات الحقلين الثقافي والسياسي في مصر بعد ثوة 1919. وثمة ما يبرر العودة ثمانين عاماً إلى الوراء، إلى موقف طه حسين من الدستور، وإلى كتاب “مستقبل الثقافة في مصر“.
والأهم من هذا وذاك، أن علاقة الدين بالدولة، في العالم العربي، كانت جزءاً من سياسات واستراتيجيات الحرب الباردة. لم يكن بعد الناصر شيوعياً، ولكن قضايا العدالة الاجتماعية، والتأميم، وعدم الانحياز، والتقدّم والرجعية، جعلت منه عدواً في نظر الغرب، وجعلت من الإخوان المسلمين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حليفاً طبيعياً للسعوديين، وهم أكثر الحلفاء العرب التصاقاً بالأميركيين، وأكثرهم تشككاً وتشكيكاً في أفكار ودعوات من نوع التقدّم والرجعية.
وهذه، على أي حال، ليست نهاية الأحزان. فكما استعان مصطفى محمود بممالك النحل والنمل لبناء نظرية جديدة تماماً عن العلاقة بين العلم والدين، وكما استعانت “الجزيرة“ بدعاية وأشرطة الإنجيليين، وليس بينهم علماء يُعتَدُّ بهم، في معرض النيل من الداروينية، يستعين حامد بشخصيات ثقافية هامشية، وأفكار هؤلاء بالصدفة (بمحض الصدفة، فقط) تنسجم مع أفكار اليمين الأميركي على نحو خاص بشأن تقليص دور الدولة، وحجم تدخلها في الشأن العام، وهذا في معرض الدفاع عن احتمال صعود نموذج كهذا، بعد الهزيمة المدوية للإخوان، في العالم العربي، كبديل إسلامي، إخواني للنظام الدولاني القمعي القائم في الوقت الحاضر.
الأخ حامد لا يكف عن كتابة وتحرير الكتب، ويعتقد أن “القومية العلمانية“ كما عرفها العرب في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانت نوعاً من الانحراف، وأن “الإسلام“ كان دائماً جزءاً عضوياً في هوية المجتمعات العربية، التي لن تتمكن من الفصل بين الديني والدنيوي. المسكوت عنه في هذا الكلام أن خمسينيات وستينيات القرن الماضي، سّمِّها القومية العلمانية، أو ما شئت، كانت زمن احتدام الحرب الباردة، وصعود حركات التحرر القومي. والمسكوت عنه، أن الإخوان كانوا على الجانب الخطأ للمتراس.
والأهم من هذا وذاك، كانت خمسينيات وستينيات القرن الماضي، في العالم العربي، أفضل من هذا الزمن بكثير. خفّة اليد، والإنجيليين، واليمين الأميركي، وكل ممالك النمل والنحل لن تنجح في إقناع أحد بفوز القرضاوي على طه حسين. فما يفعله هؤلاء لا يعدو محاولات لا تكل ولا تمل، ولا يتجلى فيها سوى إصرار الأوّل على الثأر من الثاني.
khaderhas1@hotmail.com
إقرأ أيضا: