بغض النظر عما اذا كان وزير الخارجية الاميركي ركس تيلرسون تُرك ينتظر عن قصد او غير قصد في قصر بعبدا الرئاسي، تبقى الحاجة الى ادراك لبناني لواقع لا يمكن الهرب منه. يَفرُض هذا الواقع السعي الى فهم افضل لموازين القوى في المنطقة والعالم بعيدا عن الشعارات الطنانة التي يطلقها “حزب الله” الذي لم تجر صواريخه سوى الخراب والدمار، فيما عمل سلاحه غير الشرعي على ترسيخ الشرخ المذهبي بين اللبنانيين.
يحتاج لبنان هذه الايّام الى الحكمة من جهة والعقول القادرة على متابعة ما يدور في المنطقة والعالم من جهة أخرى وذلك بدل الانصراف الى حسابات صغيرة ذات طابع شخصي لا يمكن ان تقدّم او تؤخّر، لا سيّما عندما يتعلّق الامر ببلد صغير يعاني من السلاح غير الشرعي قبل ايّ شيء آخر.
ثمّة حاجة الى التذكّر دائما ان لبنان حافظ على أراضيه في حرب 1967 لانّه لم يدخل في تلك الحرب الخاسرة سلفا في حين خسر الأردن الضفّة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية بعدما دُفع الملك حسين دفعا الى دخول الحرب في ظروف غير موآتية.
كان الملك حسين يدرك انّه لم يعد لديه من خيار آخر غير المشاركة في حرب كان يعرف نتائجها مسبقا. ذهب الأردن ضحية المزايدات العربية وحملات التخوين التي كان يؤججها جمال عبد الناصر وحزب البعث الذي كان يحكم سوريا والذي جرّ مصر الى حرب كانت في غنى عنها كشفت ضعف جيشها وقتذاك وهشاشة الفكر الذي كان يسيّر عبد الناصر.
حتّى لو أخطأت الإدارة الاميركية في حق أي مسؤول لبناني، لا مصلحة للبلد في الدخول في أي مواجهة معها. يكفي ان اميركا صاحبة اكبر اقتصاد في العالم. ويكفي انّ في استطاعتها هزّ أي نظام مصرفي لا يعجبها. هل من مصلحة ايّ مصرف في لبنان استفزاز واشنطن بطريقة او باخرى في وقت هناك حاجة الى اشخاص مثل تيلرسون يشغلون مواقع أساسية في إدارة دونالد ترامب.
جاء وزير الخارجية الاميركي الى بيروت والتقى الرؤساء الثلاثة وذلك من اجل مساعدة لبنان في تجاوز المرحلة الصعبة والمعقدة التي تمرّ فيها المنطقة. اكثر من ذلك، جاء ليقول ان الإدارة الاميركية تسعى الى التهدئة والى تفادي أي تصعيد كان بسبب الوجود الايراني في سوريا والخلافات التي تثيرها إسرائيل في شأن حقول الغاز المكتشفة في البحر قبالة الجنوب اللبناني. جاء تيلرسون ليقول أيضا انّ لبنان في غنى عن سلاح “حزب الله” وانّ التركيز يجب ان يكون على المؤسسة العسكرية الوطنية التي تستطيع حماية البلد بفضل التعقل اوّلا وأخيرا بعيدا عن العنتريات المضحكة المبكية.
من مصلحة لبنان لملمة أوضاعه والتيقن من حجمه الحقيقي والامتناع عن لعب أدوار اكبر منه ظلّ رغبة أميركية في مساعدته خصوصا ان الولايات المتحدة على علم تام بالعبء الذي يتحمّله في ظلّ وجود ما يزيد على مليون لاجئ سوري في أراضيه. وهذا ما أشار اليه بكلّ وضوح وزير الخارجية الاميركي في المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده مع رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري.
لا يستطيع لبنان ان يكون فاعلا من دون علاقة جيدة مع الولايات المتحدة وذلك على الرغم من كل الانتقادات التي يمكن توجيهها لادارة ترامب، خصوصا بعد القرار الذي اتخذه الرئيس الاميركي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل من دون الإشارة الى حق الفلسطينيين في دولة مستقلّة تكون عاصمتها القدس الشرقية، وهي ارض محتلة في العام 1967. تبقى هذه الانتقادات شيء والعمل من اجل تفادي مزيد من الاذى الاميركي شيئا آخر. ماذا اذا توقفت اميركا عن دعم الجيش اللبناني مثلا؟ ماذا اذا فرضت عقوبات على مصارف لبنانية؟
لا توجد ايّ مصلحة لبنانية في اثارة أي مشكلة من ايّ نوع مع اميركا، حتّى لو كانت هذه المشكلة ذات طابع بروتوكولي من نوع جعل ركس تيلرسون ينتظر وحيدا في احد صالونات القصر الجمهوري في انتظار وصول وزير الخارجية جبران باسيل ثمّ الرئيس ميشال عون.
ليست الولايات المتحدة دولة عادية. انّها، شئنا ام ابينا، القوّة العظمى الوحيدة في العالم. لا ضرر من التعاطي معها بلباقة ولا ضرر من ان يعرف الذي يتعاطى معها حجمه بعيدا عن البطولات الوهمية.
كان العراق، الذي تبلغ مساحته 437 الف كيلومتر مربّع تقريبا فيما مساحة لبنان 10452 كيلومترا مربّعا يعتبر نفسه في عهد صدّام حسين قوّة إقليمية. صمد العراق في وجه ايران في حرب استمرّت ثماني سنوات. حقّق شبه انتصار عليها واعتقد في العام 1990 انّه قادر على مدّ يده على الكويت فانتهى به الامر تحت عقوبات أميركية جعلته غير قادر على تصدير نفطه. جعلت هذه العقوبات قسما كبيرا من الشعب العراقي تحت خطّ الفقر.
ارتأت دول عدّة تمكين العراق من بيع النفط بغية شراء مواد غذائية توزّع على المواطنين وذلك بموجب قرار لمجلس الامن عنوانه “النفط من اجل الغذاء”. قبل صدور القرار في العام 1995، التقى بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة وقتذاك وزير الخارجية العراقي طارق عزيز بحضور برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدّام الذي كان يشغل منصب سفير العراق لدى الامم المتحدة في جنيف.
حاول غالي في اللقاء المنعقد في جنيف ان يقنع طارق عزيز باهمّية صدور قرار “النفط من اجل الغذاء” وفائدته. لكن وزير الخارجية العراقي، حسب ما يقول برزان التكريتي، انتفض من منطلق ان “في ذلك إساءة الى كرامة العراق والعراقيين”. فما كان من بطرس غالي الّا ان ذكّر طارق عزيز بان هناك منطقتي حظر جوي في العراق وانّه لا يستطيع استيراد قلم رصاص من دون اذن من لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة. وختم حديثة بالقول :”يا طارق، تَمَسكَن تِسلَم”.
الأكيد انّ على لبنان الذي تبلغ مساحته اقلّ من مساحة محافظة عراقية صغيرة استيعاب ماذا تعني عبارة “تمسكن تسلم”. ليس مطلوبا منه القبول بايّ مس بكرامته، لكنّه مطلوب منه تفادي ايّ استفزاز للإدارة الاميركية وشخص مثل ركس تيلرسون يحاول اصلاح ما ارتكبه دونالد ترامب من أخطاء… مع تشديده في الوقت نفسه على انّ لا تراجع عن التصدي للمشروع التوسّعي الايراني.
هل يأخذ لبنان عبرة من العراق في عهد صدّام حسين، أي من العراق الذي لم يعرف كيف يكون التعامل مع الولايات المتحدة وما هو احجام الدول في هذا العالم وادوارها.
مرّة أخرى ليس مقبولا من أي مسؤول لبناني الاقدام على ما يمكن ان يمسّ كرامة البلد. لكنّ هذا لا يعني انّ البلد يتحمّل ايّ استفزاز لمسؤول أميركي جاء يستكشف كيف يساعد لبنان ويبعده عن أي تهوّر من أي نوع. بكلام أوضح، عندما يسرح زعماء الميليشيات المذهبية التابعة لإيران ويمرحون في جنوب لبنان، على الرغم من وجود القرار 1701، من الأفضل تفادي البحث في تصفية الحسابات مع هذا المسؤول الاميركي، بطريقة او بأخرى، عبر جعله ينتظر وحيدا في احد صالونات قصر بعبدا مثلا.