لا شيء ينجح مثل النجاح. كانت تونس دولة ناجحة الى حدّ ما. كانت الى ما قبل فترة قريبة بلدا واعدا. كانت تونس من البلدان العربية والافريقية القليلة التي تتقدّم على الرغم من ثرواتها الطبيعية المحدودة، بل المعدومة. كان رأسمال تونس الانسان التونسي الذي استطاع أن يتطوّر بفضل الاسس التي وضعها الحبيب بورقيبة مؤسس الدولة الحديثة الذي يحاول الارهابيون المتلطّون بالدين نسف ضريحه كي يتخلّصوا من كلّ ما هو حضاري في تونس.
في أساس الاسس التي رسّخها بورقيبة كان الحس الوطني السليم ومستوى التعليم واحترام القانون والمؤسسات…والانفتاح على العالم المتقدّم من دون عقد من أي نوع كان.
ما تواجهه تونس حاليا في غاية الخطورة نظرا الى أن الهدف تدمير كلّ الانجازات التي تحقّقت في عهدي بورقيبة ثم زين الدين بن علي الذي حافظ الى حدّ كبير على ارث سلفه. كان في مقدّم هذه الانجازات الأمن والأمان للمواطن. كانت انجازات كبيرة بكلّ المقاييس وذلك بغض النظر عن الاخطاء، بل الخطايا التي سقط فيها بورقيبة وبن علي.
قادت تلك الاخطاء الى “ثورة الياسمين” التي كانت بداية “الربيع العربي” الذي انهى أنظمة كانت قائمة في مصر وليبيا واليمن وسوريا…
تكمن خطورة ما تواجهه تونس في محاولة حركة “النهضة”، التي تنادي بشعارات ذات طابع ديني، تغيير طبيعة المجتمع التونسي، على غرار ما فعلته الانقلابات العسكرية. انّها الانقلابات التي اجتاحت المنطقة ابتداء من أواخر اربعينات القرن الماضي وقضت على امكان تحقيق أي تقدّم على أي صعيد كان في هذه الدولة العربية أو تلك.
توفّر مصر وسوريا والعراق وليبيا والسودان الدليل الافضل على عقم الانقلابيين الذين كانوا في معظمهم من الضباط الصغار الذين رّيفوا المدينة وصحّروها من أجل تطويع المجتمع والسيطرة عليه. أراد هؤلاءالضباط الصغار الانتقام من المدينة وقيمها بدل التعلّم منها!
لا يختلف الاخوان المسلمون في شيء عن الضباط الذين استولوا على السلطة في عدد لا بأس به من البلدان العربية المستقلة حديثا بدءا بسوريا وصولا الى مصر والعراق وليبيا والسودان. استطاع الاخوان خطف الثورات العربية، حيثما استطاعوا.
قبل أسابيع قليلة، كان خطفهم لرئيس الوزراء الليبي علي زيدان محاولة انقلابية حقيقية. فشلت المحاولة، ولكن من دون أن يعني ذلك نجاة ليبيا من كارثة تبدو ليبيا مقبلة عليها في غياب أي قوة شرعية قادرة على ضبط الوضع الامني في بلد ترك فيه معمّر القذّافي آلاف مخازن السلاح موزّعة على كلّ انحاء “جماهيريته” السعيدة الذكر. صارت مخازن السلاح هذه تهدّد ليبيا والدول المحيطة بها، بما في ذلك مصر والجزائر وتونس وتشلد، فضلا عن كل الدول التي تمتد في طول الساحل الافريقي.
كان بورقيبة يشجّع المواطن التونسي على ارسال أولاده الى المدرسة. كان يتعمّد بث اغاني فيروز في فترة الصباح عبر الاذاعة التونسية. عمل على تهذيب المجتمع التونسي مركّزا على نوعية البرامج التعليمية من جهة وحقوق المرأة من جهة أخرى. كسر كل الشعارات المتحجرة التي كانت تقيّد انطلاق المرأة الى ما لا نهاية وصولا الى التمتع بحقوقها المدنية الكاملة.
كان ذلك في النصف الثاني من عقد الخمسينات في القرن العشرين. نجد الاحزاب التونسية حاليا في بحث عن دستور عصري، أقلّه ظاهرا، بدل أن تأخذ بدستور عهد بورقيبة المتقدم على العصر وتدخل عليه بعض التعديلات المهمّة التي تضمن الحريات وتساهم في تكريس التعددية الحزبية.
لا شكّ أن بورقيبة ارتكب خطيئة رفض الانسحاب من الحياة السياسية عندما تجاوز السبعين من العمر. كان في استطاعته أن يترك اسمه خالدا وأن يدرس نهجه في مدارس العالم. لكنّه وقع في غرام السلطة، فذهب ضحية النساء اللواتي كن محيطات وبينهنّ ابنة أخته.
على الرغم من خلفيته العسكرية ومشاركة ضباط آخرين في الانقلاب الذي نفّذه على بورقيبة، لا يمكن اعتبار ما قام به زين الدين بن علي انقلابا عسكريا بالمفهوم المتعارف عليه للكلمة.
أنقذ بن علي تونس في السابع من نوفمبر 1987 عندما ارسل بورقيبة، الذي تقدّم به السنّ مفقدا الرجل بعض قواه، الى منزله. عرف كيف يستفيد من المؤسسات القائمة. لم يقدم على خطوة تدمير مؤسسات الدولة التي أقامها بورقيبة. كان خطأه يكمن في أنّه سعى الى تطويع هذه المؤسسات بدل المحافظة على استقلاليتها، كما يحصل في الدول المتقدمة. عرف بن علي خصوصا كيف يمكن تطوير تونس وتحسين الاداء الاقتصادي عبر الصناعات التحويلية والسياحة والمحافظة على الامن. لاشكّ أن بن علي، على الرغم من ضيق أفقه السياسي، ساعد في تحسين أوضاع التونسيين، لكنّه سقط أخيرا ضحية تعرّفه، وهو في سنّ متقدّمة، على الثروة من جهة وفساد العائلة (عائلة الزوجة الثانية) من جهة أخرى.
لا تحتاج تونس الى الكثير كي تنجح ثورتها. لكنّ الواضح أنّ شبق “النهضة” الى السلطة، كلّ السلطة، لا يبشّر بالخير وذلك على الرغم من وعد رئيس الوزراء علي العريض بتقديم استقالة حكومته بعد ثلاثة اسابيع وبدء جولة جديدة من الحوار الوطني. لا يمكن للحوار الوطني سوى الدوران في حلقة مغلقة في غياب الرؤية الواضحة لما يجب أن تكون عليه تونس مستقبلا.
لا يمكن الجمع بين الرغبة في الاستحواذ على السلطة والديموقراطية. لا يمكن الجمع بين استخدام الشعارات الدينية، كما يفعل الاخوان المسلمون حيث يحلّون، وبناء مجتمع مدني يتعلّم فيه الابناء في مدارس تعتمد مناهج حديثة مرتبطة بما هو حضاري في هذا العالم الجديد الذي أصبح قرية كبيرة. الاهمّ من ذلك كلّه، لا يمكن الجمع بين سماحة الدين الاسلامي، وهو دين يعترف بالآخر ويحترمه، وبين تغطية ما ترتكبه مجموعات متطرّفة تعتدي على قوات الامن وعلى المواطن الآمن…باسم الدين!
هل من أمل لتونس؟ من الصعب الاجابة عن هذا السؤال اذا لم تتواضع “النهضة” وتعترف بأنّ المجتمع التونسي يرفض محاولة تغيير طبيعته، كمجتمع عصري منفتح، كما يرفض ما يقال من سوء عن رجل عظيم اسمه الحبيب بورقيبة باني الدولة الحديثة.