تونس –
أول ما يلفت انتباهك في تونس ما بعد «ثورة الياسمين» غياب صورة الحاكم… والرئيس… والقائد التي كانت في الماضي القريب تغزو كل الأماكن: المطار والطرق والفنادق والمؤسسات. انتهى حكم الشخص والعائلة التي قبضت على مقدرات البلاد، مع ما كان يتطلبه ذلك من مستلزمات الوجود والخلود، من قبضة استخباراتية على البلاد والعباد، وكمّ للأفواه ومحسوبيات!.
خرجت تونس من حكم زين العابدين بن علي، لكنها لا تزال تتلمس طريقها إلى إرساء ملامح حكم جديد. الأكيد أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء. تذوّق التوانسة طعم الحرية… الحرية السياسية. باتوا يتكلمون بصوت عال، لا يخافون البوح بما يعتمر في نفوسهم، ولا يتلفتون يميناً ويساراً حين يعبّرون عن رأيهم وينتقدون الحكّام والمسؤولين. الأكيد أنهم سيدافعون بشراسة عن المكتسبات التي حققوها من الثورة التي أطلق شرارتها الشاب محمد بو عزيزي. فالتونسيون الذين نشأوا على الإسلام المعتدل والتنويري والتحديثي بفعل تأثير جامعة الزيتونة، والدور الذي لعبته في إرساء تلك الثقافة الدينية الإسلامية، وترعرعوا على روحية الانفتاح التي طبعت بلادهم منذ زمن الاستقلال في الستينات عن فرنسا مع الرئيس الأول للجمهورية التونسية الحبيب بورقيبة، بقدر كبير من الحداثة والحريات الشخصية والاجتماعية وحرية المرأة والتماهي مع الثقافات والمجتمعات الأوروبية، كانوا حتى الأمس القريب يشكّلون نموذجاً متقدماً وسط محيطهم العربي والإسلامي. ولن يتوانوا تالياً عن الدفاع عن تلك المكتسبات بعدما ذاقوا طعم الحرية السياسية والديموقراطية.
رغم احتلال حزب النهضة الاسلامية حيزاً واسعاً من المشهد السياسي التونسي بحصوله على 40 بالمائة من الأصوات في انتخابات المجلس التأسيسي الوطني الموكّل إليه صياغة دستور جديد للبلاد، وقيادته ائتلاف حكومي مع حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» بزعامة المنصف المرزوقي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات برئاسة مصطفى بن جعفر، فإن ثمة حراكاً سياسياً ومدنياً وثقافياً وشعبياً تعيشه تونس على وقع ثورة الياسمين في المرحلة الانتقالية المواكبة لولادة الدستور الجديد، وتحضيراً لخوض الاستحقاقات الانتخابية من برلمانية ورئاسية.
الزيارة إلى تونس جاءت بدعوة من وزارة السياحة التي أرادت أن تستثمر الثورة لإعادة ضخ الحياة في القطاع السياحي بوصفه المصدر الرئيس للاقتصاد التونسي. فهذا القطاع أصيب بنكسة جرّاء ثورة الياسمين، رغم أن الثورة حملت بعداً حضارياً سلمياً، حيث لم تسل الدماء غزيرة في هذا البلد ثمناً للحرية، كما كانت حال جارتها ليبيا، وحال سوريا اليوم التي تشهد أبشع مشاهد القتل والقمع. حتى أن تشكيكاً في الشارع التونسي يدور حول مرامي الضحايا الـ300 الذين سقطوا خلال الثورة (300 قتيل)، ذلك أن ثمة اعتقاداً بأن غالبية هؤلاء كانوا من اللصوص الذين استغلوا الثورة، فعملوا على غزو المحال التجارية وخلق الفوضى، ولم يكونوا من متظاهري الثورة.
أرقام … وإحباط
لكن الثورة بحد ذاتها أرخت بثقلها على الاقتصاد الذي تراجعت معدلات نموه عام 2011 عما كانت عليه ما قبل الثورة. وبدل أن تتقلص البطالة التي كانت إحدى عوامل ثورة الياسمين، تفاقمت. صحيح أن الارقام لا يؤخذ بها في بلدان العالم الثالث لأنها تُوظف في خدمة السياسة. ولكن الاحصاءات أيام حكم بن علي كانت تؤشر إلى وجود نحو 600 ألف عاطل عن العمل، فيما إحصاءات ما بعد الثورة تلامس الـ800 ألف عاطل عن العمل. فالشريان الرئيسي للاقتصاد، المتمثل بالسياحة تراجع بشكل كبير. أرقام العام 2010 تشير إلى دخول 7 ملايين سائح إلى البلاد، فيما انخفض العدد إلى 4 ملايين عام 2011، أما حجم الإشغال في الفنادق، فسجل 35 مليون ليلة في العام 2010، لينخفض بنسبة 40 في المئة عام 2011. هذا التراجع ترك أثاراً سلبياً على حركة اليد العاملة التونسية والصناعات التقليدية والمداخيل بالعملات الصعبة، مما أحدث ندوباً في جسد الثورة اليافعة، وإن كان هذا العام حمل معه تحسناً ملموساً في السياحة وملحقاتها عن العام الماضي لكنه لم يصل بعد إلى مستوى ما قبل الثورة.
كلام كبير يقوله عامة الناس عن واقع الحال المعيشية. فحال الإحباط تسود الشارع التونسي، وهو أمر يعتبره وزير السياحة إلياس الفخاخ طبيعياً رغم تحسن الحال نسبياً، ذلك أن الشباب التونسي، الذي قام بالثورة، لم يلمس بعد سنة ونصف، أي تبدّل على مستوى مطالبه، ولا سيما فرص العمل. تصوّر هؤلاء أن الثورة ستُنهي البطالة وتزيد الاستثمار وتُسرّع العجلة الاقتصادية وتحل المشاكل، فكان أن زادت البطالة ونقصت الاستثمارات واتسمت الإدارة ببيروقراطية أكبر نتيجة خوف كبار الموظفين من الاجتهاد والتساهل في تطبيق القانون، وتعرضهم تالياً إلى المحاسبة على غرار ما حصل في حقبة بن علي.
تسمع في الشارع التونسي ترحّماً على أيام حكم بن علي. من منطلق اقتصادي – معيشي. إذا ما سألت سائق سيارة أجرة عن حركة العمل، يبادرك إلى القول: «ما في شغل بعد الثورة». تسمع كلاماً على غرار أن المشكلة لم تكن في بن علي نفسه، بل في عائلة السيدة الأولى ليلى الطرابلسي التي كانت «تسرق» مال الشعب. وتسمع مآخذ على قرار السلطة الحاكمة اليوم منح تعويضات للسجناء السياسيين أيام بن علي - أي لأنفسهم - من مال الشعب!.
وحال الإحباط هذه لا تخيف الترويكا الحاكمة من ثورة مضادة. فالتوانسة، بالنسبة إلى وزير الخارجية المنتمي إلى حركة النهضة رفيق عبد السلام «لا يحنّون للعودة إلى المرحلة الماضية لأنها مرحلة قاتمة من تاريخ تونس. فهؤلاء يدركون أنهم كانوا يعانون من تهميش اقتصادي – اجتماعي، وهذا سبب من أسباب الثورة. مسار الثورات يأخذ وقته كي تستقر الأوضاع لأنها هي حال انتقال تفكيك الوضع القديم إلى تأسيس وضع جديد. ولو لم يقع مثل هذا الاهتزاز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لما كانت هناك ثورة، ولكانت عندها بمثابة انقلاب أبيض. ما يجري في تونس اليوم يدخل ضمن حركية ودينامية الثورة. وما تعيشه هو حركية وصعوبة الحياة والنمو والتطور، ذلك أن حال الاستقرار سابقاً كانت مزيفة، وأشبه ما تكون بصمت القبور. وكثير من المشكلات التي كانت مَخفية في العمق تطفوا على السطح بحكم الانفتاح السياسي والاعلامي».
تحت المجهر
على أن تونس باتت تحت المجهر منذ استلام الإسلاميين دفة الحكم. إنها تحت مجهر القوى العلمانية التونسية والمجتمع المدني الذي يريد أن يحمي مكتسباته من الحريات الفردية والعامة والمسار الديموقراطي، وتحت مجهر الإعلام المحلي والأجنبي الذي يلتقط كل حدث، صغيراً كان أو كبيراً، هامشياً أو جوهرياً ذات دلالات عقائدية. فما شهدته مدينة سجنان من سيطرة للسلفيين في لحظة تراجع هيبة الدولة، أحدثت مخاوف من قبضة هؤلاء على الحياة الاجتماعية. حادثة يقول وزير السياحة إنها انتهت مع استعادة الدولة لزمام السلطة فيها. فالسلفيون – حسب رأيه – لا يشكلون إلا نسبة صغيرة جداً من المجتمع التونسي، ولهم الحق في العمل تحت سقف القانون. لكن انطباعاً قوياً سرى في الشارع التونسي من أن حكومة الجبالي غضت الطرف عن السلفيين، وتأخرت في معالجة الانفلات الذي حصل، وكأنها كانت توجه بذلك رسالة ما إلى التوانسة من أنها تشكل خط الاعتدال الذي يشكل الضمانة للالتفاف حول النهضة.
في تونس أمس، لم تكن المرأة المحجبة حاضرة في المشهد الاجتماعي، ولا كانت المرأة المنقبة جزءاً من النسيج التونسي. اليوم باتت الأولى في الصورة بعد نجاح الإسلاميين، وبدأت المرأة المنقّبة تجول في الشارع مطمئنة لحالها، تختلط في المجتمع من دون خشية الملاحقة. حتى أن إحدى المنقبات أحدثت ضجة سياسية إعلامية نتيجة دخولها إلى حصة دراسية في كلية الآداب في جامعة «منوبة»، رافضة الكشف عن نقابها، مما حدا بعميد الكلية إلى رفض تواجدها كونه مخالفة لقوانين الجامعة.
ظواهر جديدة على المجتمع التونسي، تُربك المسؤولين في كيفية التعاطي معها، لكنها من وجهة نظرهم تندرج في إطار الحريات الفردية التي تملي على القيمين على السلطة احترامها، ولا بد من مقاربتها بحكمة. غير أن هذه الظواهر تؤرق جزءاً كبيراً من المجتمع التونسي، وإن كان مسألة الحفاظ على الحريات الفردية والعامة وتدعيمها أضحت مسألة محسومة ولا جدال عليها في المجلس التأسيسي، الذي لم يعد أمامه سوى أن يحسم ماهية النظام المقبل: أهو نظام رئاسي أم نظام برلماني، وفق ما يؤكده الفخاخ، مضيفاً أن الحكومة الراهنة تدافع عن السياحة ومقوماتها كإحدى المرتكزات الاقتصادية. وتدافع عن مكوناتها وهويتها والانفتاح لدى المجتمع التونسي.
كانت هناك مخاوف على الموسم السياحي هذه السنة، ولكن زائر تونس يشهد حركة ناشطة. السيّاح ذوو الغالبية الفرنسية والإيطالية والألمانية يقصدون الأماكن السياحية، سواء في العاصمة تونس وفي سيدي بو سعيد وفي قرطاج وفي الحمامات وفي سوسة وغيرها من الأماكن، وسط جهد حكومي لرفع مستوى الخدمات وتحديث القطاع.
تحديات الاستثمار
ومما لا شك فيه أن تشجيع الاستثمار لتعزيز النمو الاقتصادي في البلاد والتصدي للبطالة، يشكّل تحدياً لتونس ما بعد الثورة، التي تنتظر إرساء المعالم النهائية لنظامها السياسي مع إنجاز الدستور الجديد. فالمستثمر يحتاج إلى مناخ من الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والتشريعي خصوصاً إذا كانت استثماراته الرئيسية في قطاع السياحة، الذي ينتظر مشاريع تطويرية وتنموية في إطار خطط استراتيجية تطال مختلف المناطق، وتعمل على تنويع المنتوج السياحي وتوسع رقعته. ثمة نوايا استثمارية ارتفعت نسبتها عن العام الماضي بمعدل 30 في المئة. ولعل هذا يعود إلى ارتياح الأطراف الدولية والاقتصادية لمجريات الأمور، خصوصاً بعد توضيح الحكومة الجديدة لخارطة الطريق حيال مستقبل البلاد السياسية على حد تعبير وزير الخارجية. فهي ذاهبة إلى صياغة دستور جديد أكثر انفتاحاً وأكثر ديموقراطية وأكثر ضماناً للحريات الفردية والشخصية والعامة، وصولاً إلى وفاق عام جديد مبني على أسس ديموقراطية، لافتاً إلى أن المجتمع الدولي يشعر بارتياح أكبر بعد تصدي الحكومة الحالية لحال الفساد المنهجي الذي كان سائداً في الدولة سابقاً. ويبدو عبد السلام جازماً بعدم وجود خشية لدى الأطراف الدولية من أن يكون الإسلاميون جزءاً من المعادلة السياسية، سواء حكموا في اطار شراكة أو غير شراكة، بعد معايشتهم تجارب ناجحة مثل التجربة التركية، فضلاً عن أن الإسلاميين أنفسهم باتوا جزءاً من نسيج دولي لا يستطيعون أن ينعزلوا عنه، حيث لديهم مصالح اقتصادية ومضطرون للتعامل مع المحيط الدولي.
العدالة الانتقالية
على أن زائر تونس يحمل في جعبته تساؤلات عما حلّ بأركان الحكم من الذين لم يغادروا البلاد، وبمسؤولي حزب التجمع الدستوري الديموقراطي الذي كان يتزعمه بن علي، والذي تمّ حظره من العمل السياسي. يأتيك الجواب بأن وزارة أنشئت هي وزارة العدالة الانتقالية للبت بهذا الملف. فهناك مسؤولون فروا من البلاد، وهناك فئة غالبيتهم من عائلة وأقارب بن علي وبعض الوزراء والمسؤولين قد احتجزوا في ثكنة عسكرية هي «ثكنة العوينات»، وتم نقلهم مؤخراً إلى سجن « المرناقية» الذي يبعد نحو 25 كلم عن العاصمة، بانتظار المحاكمة، وهناك فئة ثالثة لم يتم توقيفهم لكنهم ممنوعون من مغادرة البلاد إلى حين انتهاء التحقيقات. ثمة إصرار على محاسبة رموز النظام السابق بعيداً عن التشفي، كما تقول الطبقة الحاكمة الجديدة، وهي حريصة على التماهي مع تجارب الدول التي مارست مفهوم العدالة الانتقالية ولا سيما في جنوب أفريقيا. إنها معادلة صعبة تضع السلطة الراهنة، ما بعد حقبة بن علي، على المحك وتحت اختبار النجاح في المحاسبة لفتح باب المصالحة مع شرائح واسعة تشعر أنها تعيش حال إقصاء، قد لا تكون مختلفة عن حال الإقصاء التي كان حكام اليوم يعيشونها في الأمس. لكن أركان «الترويكا» يؤكدون العزم على إبعاد رموز النظام السابق عن مواقع القرار والسلطة، كون أن الثورة من حقها أن تدافع عن نفسها ومصالحها وأن تؤسس شرعيتها. ففي نظرها أن الاستعانة بالوجوه القديمة يعيدها إلى المربع الأول ويشكل انقلاباً على الثورة، وهو ما لن يسمحوا به. هؤلاء قد يشكلون ما نسبته 5 في المئة من حزب التجمع الذي كان يضم في صفوفه نحو مليوني تونسي. تلك الشريحة الواسعة من جمهور التجمع لن تكون بالتأكيد غائبة عن المشهد السياسي في الانتخابات المقبلة. فهم سيكونون محور استقطاب للقوى السياسية الراهنة، وربما من هنا شكّل تأسيس الباجي قائد السبسي مؤخراً حركة «نداء تونس» بعضاً من القلق لدى بعض الأحزاب الحاكمة.
ذلك أن ثمة آمال تعلقها شريحة من النخب التونسية على الباجي قائد السبسي. في رأي هؤلاء أن السبسي – بما يملك من «كاريزما» – قادر على أسر كثيرين من التوانسة وإقناعهم بطروحاته. إنهم يرون فيه بعضاً من ظل بورقيبة الذي يعزون اليه البعد التحرري لتونس، لكن الحسرة التي تعتري هؤلاء تعود إلى تقدّم السبسي في السن، حيث قارب الرابعة والثمانين من العمر. والاسئلة تدور حول قدرة من سيخلفه على إعطاء زخم لحركته السياسية – حركة «نداء تونس» – والتي هي بمثابة حزب وسطي يهدف إلى إحداث توازن في المشهد السياسي التونسي والتصدي لما يعتبرونه هيمنة حركة النهضة الاسلامية، استعدادا لخوض الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة.
تغادر تونس، وهي تعيش حراكاً واسعاً، من تحضيرات انعقاد المؤتمر العام العلني الأول لحركة النهضة الاسلامية على التراب التونسي… إلى نقاش واسع في الصحافة التونسية حول أسباب إقالة حاكم البنك المركزي التونسي… إلى حال من التململ في الإعلام الرسمي من محاولة وضع اليد عليه إسوة بأيام بن علي… إلى استقالة الوزير المكلف بالإصلاح الإداري محمد عبّو على خلفية تكبيله بصلاحيات محدودة ورفض اقتراحه بإحداث جهاز للرقابة على الإدارة، فيما حكومة الترويكا ترفع شعار الإصلاح…. إنه حراك يحمل دينامية ثورة الياسمين التي قدّمت نموذجاً لثورة سلمية هادئة تتنظر قابل الأيام للحكم على ما إذا حققت النجاح لما يطمح إليه الشعب التونسي.
* كاتبة لبنانية
rmowaffak@yahoo.com