بكر صدقي
يتوجه الناخبون الأتراك، اليوم الأحد إلى صناديق الاقتراع لانتخاب برلمان جديد، وتختلف الانتخابات هذه عن سابقاتها، في أنها تجرى وسط أزمة سياسية كبيرة تمر بها البلاد، لها أبعاد داخلية وخارجية، سياسية وإيديولوجية وأمنية، ووسط انقسام حاد في المجتمع التركي بين علمانيين ولا علمانيين، شبههما الكاتب ناجي بستانجي بالقبيلتين. ورصد الكاتب الأرمني – التركي إتيين محجوبيان، أفول موضوعات السياسة المعتادة عن الحملات الانتخابية للأحزاب السياسية، كموضوعات الاقتصاد والتعليم والصحة والضمان الاجتماعي وغيرها، لمصلحة الإيديولوجيا. وبالفعل تتنافس في الحملات الانتخابية تيارات إيديولوجية، من أبرزها، التيار الليبرالي المحافظ الذي يمثله الحزب الحاكم، والتيار العلماني – القومي ذو الصبغة الدولتية ممثلاً في حزب الشعب الجمهوري بقيادة دينيز بايكال، والتيار القومي – الإسلامي ممثلاً في حزب الحركة القومية المتشدد بقيادة دولت بهتشلي. ومعظم استطلاعات الرأي التي أجريت في الشهرين الماضيين تمنح «حزب العدالة والتنمية» الحاكم أغلبية كبيرة تتجاوز نسبة الـ40 في المئة، في حين تدور أرقام الحزبين المعارضين، حول الـ20 في المئة للأول، والـ10 في المئة للثاني.
عوامل عدة أثرت في التوجهات المتوقعة للناخب التركي، لعل أهمها الأزمة السياسية التي دارت حول انتخاب رئيس للجمهورية، وانتهت، موقتاً، بقرار المحكمة الدستورية الذي حرم بموجبه وزير الخارجية عبدالله غل من تبوّؤ منصب الرئاسة، والذي كان متوقعاً أن يفوز به في الجولة الثالثة من الاقتراع، نظراً للأغلبية البرلمانية التي يتمتع بها حزبه الذي رشحه. وفي موازاة القرار المذكور، تحرك الجيش فأصدر بيان السابع والعشرين من نيسان (ابريل) الذي عدّ بمثابة إنذار بالانقلاب العسكري. ونزل التيار العلماني إلى الشارع في تظاهرات متنقلة بين المدن التركية، للإعلان عن تمسكه بعلمانية الدولة ورفضه دخول شخص ذي خلفيات إسلامية، ترتدي زوجته الحجاب الشرعي، قصر الرئاسة.
بالتزامن مع التطورات المذكورة وقعت هجمات عدة من مقاتلي حزب العمال الكردستاني ضد أهداف عسكرية تركية في جنوب شرقي البلاد، وارتفعت حرارة التهديدات الرسمية للقيام بتدخل عسكري في شمال العراق، وضغطت المعارضة، ومعها قيادة الجيش، على الحكومة في هذا الاتجاه. كما كشفت الصحافة في أواخر أيار (مايو) عن فضيحة معهد هودسون في الولايات المتحدة، حيث شارك ضابطان تركيان كبيران في ندوة حول الأزمة السياسية التركية، ناقش فيها المنتدون «سيناريو» افتراضياً، يشمل عدداً من الاغتيالات وأعمال العنف داخل تركيا، بما يسوغ اللجوء إلى انقلاب عسكري يعيد الأمور إلى نصابها. كما أصدرت قيادة الأركان بياناً آخر دعت فيه المواطنين إلى مواجهة الإرهاب «مواجهة جماهيرية»، الأمر الذي أثار ردود فعل سلبية جداً في أوساط الرأي العام التي رأت في البيان المذكور دعوةً الى الاقتتال الداخلي.
هذه العوامل لعبت دوراً في زيادة حدة الاستقطاب الإيديولوجي، فأخذت المعركة الانتخابية طابع الصراع المصيري على مستقبل تركيا: هل تبقى البلاد أسيرة وصاية نخبة الدولة العسكرية – المدنية، أم تسير قدماً في التحول الديموقراطي في ما يشبه الثورة الناعمة على التصور الكمالي للدولة الحديثة الذي يقارب عمره قرناً من الزمان؟ لذلك كتب إتيين محجوبيان يصف الانتخابات الوشيكة بأنها استفتاء على النظام السياسي برمته، أكثر من كونها انتخابات سياسية عادية. فالخيار المطروح أمام الناخب التركي، هو بين استمرار الوضع القائم والتغيير الديموقراطي العميق.
كيف تتوزع الأصوات الانتخابية للأقليات الإثنية والدينية وغيرها من الهويات الفرعية؟
تتشكل تركيا الحديثة من موزاييك واسع من الهويات الفرعية، فينقسم المجتمع إلى هويات إثنية متعددة: أتراك وأكراد وتركمان وعرب وأرمن ويونانيون (روم) ولاز وشركس وغيرها. كما ينقسم دينياً ومذهبياً إلى أغلبية كبيرة من السنّة بمذاهبها الأربعة، وعلويين يتجاوز تعدادهم أربعة ملايين، ومسيحيين بمختلف كنائسهم ويزيديين وغيرهم. ويأخذ أنصار العلمانية والحداثة على هذه الأقليات سلوكها الانتخابي التكتلي، أي أن أفراد المجموعة الدينية أو الإثنية ينتخبون، عموماً، في اتجاه موحد. لكن هذا المأخذ لم يمنع الأحزاب الحديثة والعلمانية، في جميع الانتخابات السابقة، من التنافس على كسب ود الأقليات طمعاً بأصواتها. واللافت أن ممثلي الأقليات المذكورة يعلنون في وسائل الإعلام، مسبقاً، عن الأحزاب التي سيصوتون لها. لذلك تأتي نتائج تصويت أفرادها مطابقة إلى حد كبير للتوقعات. فإذا بدأنا بالأكراد، ويقدر تعدادهم بما يقارب العشرين مليوناً، وفقاً للمصادر الكردية، ويشكل الوعي القومي عاملاً حاسماً في سلوكهم السياسي، فقد كان التوجه عند مختلف مجموعاتهم السياسية، نحو المشاركة في الانتخابات بمرشحين مستقلين، للتغلب على حاجز الـ10 في المئة الذي يحول دون دخولهم البرلمان، إذا خاضوا الانتخابات على قوائم حزبية، بصرف النظر عن عدد الأصوات التي سيحصلون عليها. لكن أحد أحزابهم تراجع عن ذلك وقرر خوض الانتخابات بقوائمه الخاصة، في حين ستشارك القوى السياسية الكردية الأخرى بمرشحيها المستقلين.
ويدور تنافس شديد على أصوات العلويين، كما في الانتخابات السابقة. وقد أصدر قادة هذه الطائفة، في أيار الماضي، قراراً هددوا بموجبه كل علوي يرشح نفسه على قوائم أحزاب اليمين، بالنبذ من الطائفة، ووجهوا أبناءها الى التصويت لأحزاب اليسار (حزب الشعب الجمهوري وحزب اليسار الديموقراطي). ويصوت العلويون، تقليدياً، لهذا التيار العلماني الكمالي. ويشير تقرير نشرته مجلة «آكسيون» الشهرية، إلى أن أصوات العلويين ستنقسم في الانتخابات الحالية، بين أغلبية كبيرة ستصوت لحزب الشعب الجمهوري، وأقلية ستصوت للحزبين الكبيرين الآخرين: حزب الحركة القومية وحزب «العدالة والتنمية».
أما الشركس، ويقدر عددهم بثمانية ملايين، فيحافظ نصفهم على هويته الثقافية الأصلية، ويتوزعون إلى مجموعات، تحمل تصورات وتفضيلات سياسية وثقافية متنوعة. وتتنافس الأحزاب السياسية على أصواتهم، بضم مرشحين شركس إلى قوائمها الانتخابية، وقد احتل عشرون نائباً شركسياً مقاعد في البرلمان السابق، بينهم نائب رئيس الوزراء عبداللطيف شنر. وتشير التقديرات، القائمة على التوجهات المعلنة للمجموعات الشركسية، إلى أن أغلبية كبيرة من أصواتهم ستذهب لمصلحة حزب العدالة والتنمية الحاكم.
وثمة مجموعة كبيرة تتشكل من الأتراك من أصل يوناني وبلقاني، ويزعم هؤلاء أنهم المؤسسون الحقيقيون للجمهورية التركية. عددهم غير معروف بدقة، لكن بعض التقديرات تشير إلى الرقم 24 مليوناً. ويتمتع التيار القومي المتشدد بنفوذ واسع بينهم، لذلك من المتوقع أن يصوتوا بأغلبية كبيرة لحزب الحركة القومية، كما لحزب الشباب (وهو حزب جديد لا يتوقع تجاوزه حاجز الـ10 في المئة الضروري لدخول البرلمان).
الجيورجيون، ويعدون مليونين تقريباً، ستتوزع أصواتهم بين حزب الشعب الجمهوري وحزب العدالة والتنمية. أما التركمان من أصل عراقي، ويتمتع خمسون ألفاً منهم بحق الانتخاب، فقد أعلن حزب العمال التركي في مجلته أنهم سيصوتون له، لكن هذا الإعلان قوبل بالاستهجان بين التركمان، وثمة توقعات بأن قسماً منهم سيصوت للحزب الحاكم. ويتوقع أن يصوت قسم كبير من الأرمن لحزب «العدالة والتنمية»، لأنهم يرون فيه أقل قوميةً من الأحزاب التركية الأخرى، وفقاً لتصريح بطريرك كنيستهم مسروب الثاني. وقد خسر حزب الشعب الجمهوري أي تعاطف بين الأرمن، بعد معارضته، في البرلمان، مشروع قانون الأوقاف الذي تقدم به الحزب الحاكم. وسيذهب بعض آخر من أصوات الأرمن، وتقدّر بنحو 60 ألف صوت بالإجمال، إلى مرشحين مستقلين.
قسم مهم من أصوات السريان سيذهب لحزب «العدالة والتنمية»، ويشاع بأن قراراً اتخذ بذلك داخل هذه الجماعة. ويتوزع سريان تركيا إلى خمسة آلاف من الكاثوليك وعشرين ألفاً من الأرثوذكس. موطنهم الأصلي مدينة ماردين الجنوبية، لكن قسماً كبيراً منهم يعيش في اسطنبول. أما القسم القليل من أصواتهم فسيذهب الى حزب الشعب الجمهوري.
اليهود واليونانيون، يتوقع أن يصوّتوا لحزب «العدالة والتنمية»، بسبب استيائهم من الخطاب ذي النزعة القومية الذي يطرحه حزب الشعب الجمهوري. في حين أن أصوات اليزيديين تنقسم بين حزب العدالة والتنمية والمرشحين المستقلين الذين كانوا أعضاء في حزب المجتمع الديموقراطي.
* كاتب سوري.
الحياة