المساواة هي الطريق للسلام والأمن
نشرت صحيفة ” معريف” ( 2007 – 10 – 28 ) مقالا لقاضي محكمة مركزية يدعى اوري شتروزمان ، تحت عنوان : ” المساواة متعذرة بين اليهود والعرب الى ان يحل السلام”.
وبما ان الكاتب هو قاضي ، يبرر وجهة نظره بالاعتماد على تفسيرات قوانين ومناقضة أحكام ونقدها صدرت عن المحكمة العليا الاسرائيلية.
المقال مثير للاهتمام من منطلق العقلية التي تروج للتمييز العنصري في اسرائيل.وضروة الاستفادة من منطلقاتها ” العقلانية ” اذا كان من الممكن ان نسمي مثل هذه المواقف عقلانية، وطرح خطاب سياسي ” يفرغ ” هذه العقلية من حججها.
سعادة قاضي المركزية يوجه سهام انتقاده ضد المؤسسة القضائية العليا ، المحكمة العليا ، وضد المؤسسة التشريعية العليا ، الكنيست ( البرلمان ). الأولى لأنها لا تصدر أحكاما تسد الطريق على المساواة في الحقوق المدنية وحقوق المواطنة، داخل دولة اسرائيل بين المواطن العربي والمواطن واليهودي . والثانية لأنها لا تشرع ما يمنع المحكمة العليا من رؤيتها المبدئية لحق كل مواطن ، بغض النظر عن اختلافه القومي ، بالحصول على نفس الحقوق والامتيازات والخدمات .
لا أدعي ان الحقوق كاملة للمواطنين العرب ، ولست الآن في باب استعراض جديد لما تعاني منه الجماهير العربية في اسرائيل من تمييز عنصري واضطهاد قومي في كل المؤسسات ومجالات الحياة ، مما يتناقض مع وثيقة استقلال الدولة والقوانين الأساس في الدولة. وباتت المؤسسات العربية الأهلية أكثر وعيا لأهمية الالتماس للمحكمة العليا ضد التمييز الصارخ المناقض لقوانين حقوق الانسان والمواطن التي يضمنها القانون الاسرائيلي بنصه على الأقل.
ان القضاء الاسرائيلي ، وخاصة المحكمة العليا ، تنقذ بقراراتها ، التي لا تسر قاضي المركزية ، وغلاة المتطرفين العنصريين في اسرائيل ، ليس حقوق الجماهير العربية المغبونة ، والتي تصطدم ، حتى بعد اقرارها بالعليا بالكثير من العقبات اثناء التنفيذ ، انما تنقذ وجه الدمقراطية الاسرائيلية ، اذ تقوم العليا بابراز اسرائيل أخرى امام المجموعة الدولية والراي العام الدولي ومنظمات حقوق الانسان الدولية ، كدولة قانون ومساواة في الحقوق ، دولة دمقراطية ليبرالية ، دولة مؤسسات مستقلة ، لا تميز بين مواطنيها العرب واليهود و دولة عدل اجتماعي . هذه الخدمة لا تقدر بثمن سياسي واخلاقي لدولة ما تزال تمارس البطش بالشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة ، ولا تتردد في استعمال كافة اشكال العنف ضد مواطني الدولة العرب اذا هبوا للدفاع عن حقوقهم . ومع ذلك أكون بلا ضمير اذا رأيت فقط سلبيات الدمقراطية والليبرالية الأسرائيلية ، ولكنه ليس موضوعي الآن، انما أقول ما قاله مثقف عربي للدكتور عزمي بشارة – ما معناه :” نتمنى ان نحصل في عواصمنا العربية على جزء صغير من الدمقراطية التي تتمتع بها في تل-ابيب والقدس والناصرة”. طبعا قبل اختياره الرحيل .
السيد القاضي يصر على ان ابناء الشعب الفلسطيني مواطني اسرائيل ، لا يختلفون بعدائهم لدولة اسرائيل وشعبها عن حماس وفتح، الا بكونهم كما يكتب : ” لا يتجرأون على الحديث عن طردنا من بلادنا، ولكنهم يقولون يقولون الحقيقة في حديثهم عن تصفية الهوية اليهودية للدولة”. ويضيف القاضي : ” دليل واضح على ذلك يجد تعبيره في كتاباتهم ، في ” الرؤية المستقبلية ” لعرب اسرائيل : تعريف الدولة كدولة يهودية والاستخدام للدمقراطية في خدمة يهوديتها يبعدنا عن صفوفها ويضعنا في مواجهة مع طبيعة وجوهر الدولة التي نعيش فيها”.
لا شك ان وثيقة ” الرؤية المستقبلية ” لعرب اسرائيل التي صدرت عن اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية وحضرتها لجنة المتابعة العربية العليا ، كانت رؤية مشوهة ، بنت لنفسها عالما وهميا ، بعيدا عن الواقع ، الحقت الضرر الكبير بنضال الجماهير العربية من أجل المساواة وكسر الانعزال ( تجدون لكاتب هذا المقال مجموعة مراجعات لوثيقة ” التصور المستقبلي ” منشورة في العديد من مواقع الأنترنت ) .
يمكن القول بلا تردد ان وثيقة ” التصور المستقبلي” تتميز صياغتها بالحماقة السياسية ، والقصور الفكري عن رؤية وتفسير الواقع ، وللأهداف الملحة للعرب في اسرائيل ، وعلى رأسها بدء رؤية حقنا بأن نكون شركاء في السلطة وليس محكومين فقط ، وكسر عزلتنا السياسية التي عمقها قادة أحزابنا وبعض مؤسساتنا بمواقف دون كيشوتية.
ان مجتمعا يفقد ترابطة الوطني ، وتواصله الاجتماعي ، ويصبح الانتماء العائلي والقبلي والديني أهم من الانتماء الاجتماعي والوطني ، هو مجتمع مأزوم غير قادر على طرح رؤية مستقبلية عقلانية ومجندة عربيا ، ومؤثرة ايجابيا على
اوساط واسعة في المجتمع اليهودي ، التي تحلم بتغيير واقع العداء ، الى واقع من التعاون والسلام والأمن والحياة المشتركة .
العرب في اسرائيل لا يعيشون على جزيرة نائية. نحن بارتباط وثيق بالواقع الاسرائيلي . والتصرف الذي يعمق انعزالنا السياسي والاجتماعي يلحق الضرر بالأقلية العربية وبمجمل حقوقها وامتيازاتها . هذا يجب ان يبقى مطوحا قبل اتخاذ أي قرار سياسي للأحزاب العربية وممثليها في مختلف المؤسسات . وان الدمقراطية لا تعني الانفلات السياسي واللساني .
لا أرى ان تعريف الدولة هو القرار الحاسم الذي لن يمر . بل أؤمن ان اقرار قوانين ( دستور ) يحمي الحقوق الكاملة ، ويضمن المساواة الكاملة دون تمييز بين عرق او دين او لون ، لكل مواطن ، وفي كل مجالات الحياة داخل اسرائيل ، هي الصيغة التي يجب ان نطرحها في خطابنا السياسي .
لست رجل قانون ، وربما يجد القانونيين العرب الصيغة الأمثل ، ان معركتنا حول التسمية خاسرة من اليوم الأول . الأكثرية تقرر هوية الدولة ، هذا في كل دول العالم بما فيها الدول العربية ودولة فلسطين العتيدة. المطروح هو اقرار دستور ( أو قوانين ) تحمي النظام الدمقراطي وحقوق كل المواطنين في الدولة ومساواتهم أمام القانون ، وامامنا عمل هائل في هذا المجال نضيعة وراء فذلكات لغوية .
هل تسمية اسرائيل ” دولة مواطنيها” وبقاء الظواهر العنصرية أفضل من تسميتها ” دولة يهودية ودمقرطية ” والقضاء على الظواهر العنصرية ؟
لا احلم بالتخلص بسهولة من الواقع العنصري والتمييز ، وأن اقرار قانون ، أو دستور ، هو الأهم قانونيا على الأقل ، لمستقبلنا وتطورنا المتعثر ولواقعنا المتفكك ، ولتقدمنا نحو تحقيق المشاركة الكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة ، وقد تكون هي الضمانة لعودة اللحمة الى مجتمعنا ونبذ العائلية والطائفية المدمرة.
القاضي المحترم يسمح لنفسه ان يحكم على الجماهير العربية في اسرائيل بالجملة ، حسب ” القلب والدم ” مما يذكرني بفترات سوداء من تاريخ اوروبا الذي دفع الشعب اليهودي نفسه ، شعب القاضي شتروزمان ، ثمنها المأساوي والكارثي.
يكتب القاضي : ” عرب اسرائيل ملزمون حسب القانون بالولاء للدولة . حسب واجب القلب والدم ، موالون فقط ، أو أيضا، لأبناء شعبهم ، وبصفتهم ذوي ولاء مزدوج ، وفي وضع تضارب المصالح ، الغبي وحده يضمن بنقاء فكرهم الذي يفترض ان تحركه مصلحة الدولة اليهودية والدمقراطية . الأمور معروفة ولا حاجة للاطالة فيها ” .
اصدار مثل هذه الأحكام العنصرية ، وبتجاهل كامل للأهمال السلطوي للعرب وحقوقهم وممارسة سياسات التمييز والقمع والاضطهاد القومي ومصادرة الأرض والحرمان من مناطق صناعية ومناطق لتوسيع مسطحات البلدات العربية وتفشي البطالة بنسب كبيرة وغيرها من السياسات العنصرية ، عدا الأحتلال وقمع شعبنا الفلسطيني، هي من جذور الغضب العربي في اسرائيل . هي من جذور فقدان الانسجام في الواقع الاسرائيلي بين الدولة ومواطنيها . وكان على القاضي المحترم ان يرى الصورة الشاملة . وبجذور هذه الصورة ان العرب أثبتوا وعيا سياسيا تجاوز حتى قادته السياسيين المحبطين ، ويطرحون خطابا يجب الانصات اليه والاهتمام بايصاله للجمهور اليهودي ، وليس الترويج لمقولات سياسية خرقاء تضر بواقع الجماهير العربية … واثبتت فشلها حتى انتخابيا ، بحصول الآحزاب العربية على أقل من نصف الأصوات العربية .وبعض هذا النصف الذي حصلوا عليه أكثر وعيا وفهما لواقعة من الأحزاب التي لم يجد بديلا عربيا لها يستجيب لكل تطلعاته ، صوتي انا مثلا . وكان عليه ، كرجل قانون .. العودة الى وثيقة قانونية رسمية ، وثيقة ” لجنة أور” التي حققت بأحداث اكتوبر 2000 ، وان يقرأ استنتاجاتها وتحميلها جزء كبير من المسؤولية لأجهزة السلطة بدءا من الوزراء ، وانتقادها للتمييز الممارس ضد الأقلية العربية ، وتوصياتها الايجابية بشكل عام ، التي لم تنفذ للأسف الشديد ، مما يعني ان انفجار غضب جديد في الوسط العربي لن يكون مفاجئا ، ولا يحق لأي مسؤول ان يتهم الجماهير العربية بعدم الاخلاص ، واذا كانت من تهمة لعدم الاخلاص لمصالح الدولة فيجب ان توجة للسلطة نفسها .
كلمات القاضي بالغة الخطورة . الاسنتاج الأول لا يمكن لمن يحمل مثل هذه الأفكار ان يكون قاضيا في قضية أحد أطرافها عربي ،وربما لا بد من مراجعة كل احكامه السابقة التي كانت فيها أطراف عربية ، وهذا اتركه للقانونيين العرب.
الاستنتاج البديهي الثاني، مثل هذا القاضي لا يشرف القضاء الاسرائيلي .. الذي تجهد أحيانا المحكمة العليا لتبييض وجهه بقراراتها حول التي ترفض التمييز ضد العرب في بعض المجالات .
ان التزام العرب في اسرائيل بقضايا شعبهم الوطنية لا يتناقض مع الحفاظ على قوانين الدولة والمواطنة ، وكل التجاوزات التي حصلت كانت هامشية جدا ، وحصل ما هو أسوأ منها في الوسط اليهودي في تهريب وبيع السلاح للفلسطينيين مثلا ، او حتى الشراكة الكاملة بسرقة وتجارة قطع السيارات المفككة ، وغيرها من اشكال التحايل ومخالفة القوانين .
وقوفي الى جانب حق شعبي بكنس الاحتلال وبناء دولته المستقلة ، هو نضال سياسي يشاركنا فية الكثير من ابناء الشعب اليهودي ، فهل صاروا تبعا لذلك أعداء للدولة؟ وربما كان على القاضي ان يتهم رئيس حكومة اسرائيل الأسبق المرحوم اسحاق رابين الذي وقع اتفاق سلام واعتراف متبادل مع منظمة التحرير الفلسطينية ، بالعداء للدولة..؟
نحن متنبهون لواقعنا المليء بالاشكال ، في ظروف ” دولتي تحارب شعبي” ، ومن هنا معركتي التي أخوضها اعلاميا ، لطرح قيم مدنية اجتماعية جديدة ، وخطاب سياسي يجند المزيد من ابناء الشعب اليهودي ، للوصول الى فرض حل عادل للقضية الفلسطينية.
الخطأ الكبير للقاضي شتروزمان ، هو تجاهله ان اليهود ليسوا كلهم اسرائيليون .هناك عدد من اليهود في مختلف انحاء العالم يفوق العدد الكلي ليهود اسرائيل.
هل يعني ان اليهودي الأمريكي ، او الروسي ، او الهندي او من بقي من اليهود في العالم العربي ، وغيرها من مختلف
دول العالم ، هم غير مخلصون لأوطانهم ، واخلاصهم يتحكم فيه ” القلب والدم “؟
من حقهم كيهود وغير يهود الوقوف الى جانب اسرائيل والتبرع لها والتظاهر دفاعا عنها ،او الوقوف ضد الاحتلال الاسرائيلي الذي يشارك فيه الكثير من يهود اسرائيل ويهود العالم أيضا. لماذا تسحب هذا الحق من الفلسطيني مواطن اسرائيل ، وفورا ترى فيه غير مخلص ولا يقول الحقيقة عن مشاعره وتفكيره ، وبالتالي لا يستحق المساواة ؟ أي بنص آخر ، القاضي يريدنا ان نستنتج ان العربي هو انسان أقل قيمة وأقل انسانية من اليهودي ( ربما علينا ان نستنتج اننا لسنا بشرا يا سعادة القاضي ) ، ولا غبن باضطهاده وحرمانه من الحقوق الاساسية ، وقمعه وقتل ابنائه اذا احتج .. وربما كان عليك سيدي القاضي ان تتهم اليهود مواطني اسرائيل المؤيدين للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني بخيانة دولة اسرائيل ، لأن جريمتهم أشد شذوذا من جريمة العرب ؟
لا انتظر الجواب من القاضي .. انما من المستشار القضائي للحكومة ، ومن أعضاء الكنيست : هل يوجد في القضاء الاسرائيلي مكانا لمن يحمل مثل هذه الأفكار التي تلحق الضرر بدولته أولا ثم بالأقلية العربية بما يشيع من أحكام مسبقة عنصرية في مضمونها رغم ظاهرها العقلاني القانوني ، وتلحق الضرر بالأقليات اليهودية في مختلف دول العالم ، حيث يقر قاضي المركزية ان ولائي لغير دولتي وشعبي هو خداع وتضارب مصالح وغباء من الدولة التي تصدق ولائهم ؟!!
كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com