صديقتي ميرنا، مخرجة الافلام الوثائقية، لا تصدّق ما أتت به جولتها على مناطق لبنان المختلفة. جاءت من دبي لتنفيذ مشروع فيلمها عن الطائفية في لبنان، وفي أجندتها تغطية كل المناطق، كل الطوائف فيه، لتعرف رأي أبنائه حول طبيعة أزمة بلدهم والحلول التي يقترحونها، معوّلة ربما على الفصل الذي نقيمه عادة بين سلطة غاشمة، طائفية، وبين شعب مغلوب، غير طائفي. نتيجة جولتها كانت صدمة عنيفة: «لا أصدق! كلهم طائفيون! من صميم قلوبهم طائفيون، كلهم…! من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب…!». تكتم غضبها، لا تعرف كيف تداري ذهولها وارتباكها. فهي تخاف «نشر هذه الاقاويل… هذا الكلام الذي قد يولّعها»، تتردّد وتسألك «هل يمكن عرض كل هذا على الشاشة؟ هل يقبل به المنتج؟ هل تعرضه الأقنية؟ هل تشتريه؟». صمت مطبق بعد ذلك، كأن ميرنا هي التي اقترفت ذنب «كل هذه الطائفية«.
في نفس هذه الأثناء كانت قضية برنامجي «نهاركم سعيد» و»كلام الناس»، اللذين عرضا، على درجات متفاوتة من الحدّة، أقوالا طائفية صريحة. البرنامج الثاني الزم بعدم عرض حلقته الثانية خوفا من اشعال «الفتنة»؛ وردود فعل عاصفة على نشرها وإدانات وبيانات ومؤتمرات صحافية، كلها غاضبة وشاجبة ومستنكرة لعرض الحلقة، ودعوة إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية وإحباط «الفتنة». وأشدّ المستنكرين من بين المسؤولين واعلامهم التابع هم الأكثر غوصا في منطق الطوائف وتعبآته!
واذا استثنينا الحركات «الكيتش» التي واكبت حلقة «كلام الناس» من نوع إحضار السلاح إلى الاستديو وقيام مقدّمه ،مارسيل غانم، بملاعبته، فان الحلقة اجمالا لا تختلف عن مضمون شريط ميرنا؛ اي ان المتكلّمين فيها طائفيون على الملأ، من غير مواربة. وهؤلاء الابطال ليسوا هذه المرة مسؤولين أو رؤساء احزاب أو رموز طوائف… بل انهم مواطنون «عاديون». أي اننا بصدد المجال «الميداني» الحيّ، مجال «الشعب»، المجال الذي يفترض فيه ان يكون هو المتضرّر الأول من «النظام» الطائفي، الآتي من فوق، فيما هو، أي «الشعب»، كما نحب ان نتصور، بريء، خال من شوائب السلطة وفسادها.
عما يكشف عنه هذا «الخوف» من إظهار الطائفية الاجتماعية على هذا الوجه السافر، من غير رتوش، ولا تدويرات التهذيب المعتادة واللبقة؟ عما يكشفه هذا الخوف؟
بالتأكيد ليس مثل العسل على قلب زعماء الطوائف ونوابها وتكتلاتها ان تنتقل إلى «الشارع» الترجمة الطبيعية لكل مشروعهم. الزعيم عليه احتكار الالتباسات، لكي يبقى مسيطراً «على الوضع»، مسيطراً على المجريات التي يسلكها. انتقال الطائفية إلى اللسان العادي والطبيعي وانفلاتها من رقابة الزعامة ليسا محمودَين، لأنهما قد يفسحان الطريق أمام مسارات تناقض تلك المرسومة. ان تبقى الطائفية ضمن الحلقة الضيقة من الجماهير الطائفية، تخرج بأمر وتعود إلى مخادعها بأمر، فهذا من أساسيات حكم إمارة طائفية: احتكار اللسان الطائفي وخوض لعبة الطائفيين المعصومين من الطائفية.
واذا كانت ردة فعل الزعيم دائما مستنكرة لطائفية غيره من الطوائف، منوّما الطائفية الصميمية للطائفة التي يقود، فهذا لأنه يقف، ربما يوميا، أمام مرآته يستنطقها على سؤال جماله انه هو، طبعا، الأجمل من بين خلق الله… ولا مرآة تصدق معه. وهو ان كان طائفيا بجرعات يصفها بالـ»معقولة»، فلأنه «اضطر ان يقود»، لم يجد غير القيادة الطائفية، جماهيره أملتْ عليه ذلك… فخضع للمشيئة الطائفية إنقاذا للبلاد من غيره من الطائفيين… فصار طائفياً بعدما كان… علمانياً، مثلاً.
بغير ذلك لا نفهم إنتفاضة الطائفيين على الاشارات والمعاني الطائفية، ولا استنكارهم المكرّر، الخشبي، لطائفية غيرهم. ولكن ما يهمنا هنا، هو استنكار المجتمع نفسه: اذا فهمنا استنكار المسؤول، فماذا عن إستنكار المجتمع؟ ما الذي يخيفه في هكذا اعترافات؟ ولماذا هو ايضا يتماهى مع القائد الطائفي، فلا يرى طائفية إلا في «معسكر» غيره؟ غيره طائفي، أما هو فـ… علماني.
الجواب الجاهز هو اننا نخشى الحقيقة المرّة، وبأننا لا نحب ان نرى الجوانب البشعة من وجوهنا، ولا ان ننشر «إلى الخارج» (والمقصود بـ»الخارج» هنا، الطوائف الاخرى) الأوساخ المصيرية العالقة في أبداننا. يكفينا اضطرابنا وتوترنا وتبعية قدرنا لقوى تتجاوز أنفسنا ووطننا… إلى ما هنالك من المعزوفة. نفضل، من غير ان نعلن، ان تعيش الطائفية في الهواء الطلق، بين أحضان الطبيعة، أن لا نسجلها، أن لا نصوغها. مع اننا لا نزيد كثيرا اذا قلنا بأن ليست ولاءاتنا السياسية هي وحدها الطائفية، بل كذلك مشاعرنا الاخرى، الطفيفة والثقيلة. نعيش وننتصر ونموت في الاطار الطائفي الواحد، ولا استثناء بيننا الا بضعة آلاف من العاجزين عن الالتحاق بأطرهم الطائفية «الطبيعية»، رغم تضرّرهم الفادح من هذا العجز؛ لخلل في طبائعهم أو لجنون مغامِر آخر… أو لانجذابهم للخطر والمجهول.
ولكن خلف هذه الخشية البديهية يوجد شيء آخر: الحقيقة يعرفها جميعنا؛ ولكن صياغتها بهذه الطريقة الفجّة والعلنية هي المشكلة. المشكلة في انهيار الصروح والقلاع التي نعتقد بأنها تحمينا من الطوائف الاخرى. بمعنى آخر، نحن أسرى طوائفنا، والقلة القليلة المنفلتة، موسميا، من هذا الأسر تشكل تهديدا يكاد يكون وجوديا على اطمئناننا إلى طوائفنا. والسكون الطائفي، أو الانضباط الطائفي ضمن القواعد المعمول بها، أي إبقاء اللسان الطائفي «الشعبي» تحت الرقابة الاعلامية يشفينا من النظر إلى قباحتنا.
لنعد إلى البداية: اذا أخذ هذا «الكلام» الطائفي طريقه إلى الملأ، واحتل حيزا في الاعلام، وفي اهتمامات الجمهور الذي يغريه الجهر بالهمْسات، مع انه يخيفه، فهذا ما سوف يخلق حالة من الاهتمام ستطال شرائح من الناس معنية بهذا الجهر. وسوف يكون هناك نقد وبحث ووصف وتفاصيل وافراد أصحاب وجوه وتعابير، لا جماعات تغرق ملامحها في جموعها. ورشة من تفكير المجتمع حول نفسه، تطرح الاشكاليات والمسائل، وتتبلور لديها مفاهيم أنتجها احتكاك الميداني بالفكر والنقد. بالطبع سوف تعرف هذه الصيرورة أولى مطبّاتها عندما تبلغ واحدة من حقائقها المرّة، من اننا أمام حلقة مفرغة قوامها: من وجد قبل اولا؟ الطائفية أم المجتمع؟ البيضة أم الدجاجة؟ لكن سيكون المجتمع في وضعية من يضع نفسه على المشرحة، ويرى بالعين المجردة، من دون وسائط أقوال المسؤولين الطائفيين المعسولة، الرافضين طبعا للطائفية، وللبحث بشؤونها…
ما الذي يشجّع المجتمع على تفادي عملية كهذه؟
الفراغ الفكري، الكسل الذهني، الاستكانة إلى الاستنكارات اللفظية، خشية المجتمع من وضع نفسه على المشرحة وجرّه نحو مرآته. طبعا ليس المقصود بهاتين المهمتين الدعاة الرسميين الذين لا يملّون، في مواسم السجال الحاد، من إعلان كراهيتهم للطائفية ومن الدعوة إلى «الغاء الطائفية السياسية»، ودخولهم زواريب اللغة الكودية، المفاضِلة بين إلغائها «في النصوص» أو «في النفوس»، والتي لا تنطوي الا على نوايا طائفية.
المقصود هم هؤلاء اللبنانيون الذين أقاموا مسافة مع طوائفهم، وقد بات يلحّ عليهم السؤال عن معنى «علمانيتهم».هل تكون لفظية مثل علمانية السياسيين في لحظات ضعفهم أو اعتذارهم؟ أم تكون مسبوكة، هذه العلمانية، بالتجربة الميدانية، بنقيضتها، الطائفية الفذة والمدمّرة؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل