المقارنة تفرض نفسها: الثورات في الشق الافريقي من العالم العربي خيضت بشعارات المواطنة والديموقراطية، وكانت، باستثناء الليبية منها، سريعة بنتائجها المباشرة، أي إسقاط رأس النظام، ولم يصل الأمر بها الى خلق سجالات جانبية او جوهرية. ولكنها افضت الى مشهد يتصدّره الاسلام السياسي و صراعه مع العسكر، في كل من مصر وليبيا. أما في المشرق العربي، فالامر أكثر مدعاة للتشاؤم، أو الحذر، أو الاحباط. فما ان اندلعت الثورتان السورية والبحرينية حتى انتعش المارد المذهبي، الذي لم يكن أصلا نائما، لا في العراق ولا في لبنان، ولا غيرهما من الدول… وراحت الألسن تلوك الروايات والاحكام، تغرف من الماضي ما تيسّر من وقود الكراهية، لترمي بحممها على النفوس التي لا تنقصها لا الكراهية ولا الغلّ ولا الرغبة العارمة بأخذ الثأر.
وقد بلغ من شأن هذا المارد من التضخّم بحيث انكبّ المراقبون، الاجانب منهم خصوصاً، على تحليل مقومات ما وصفوه، «المذهبية بصفتها رهان جيو-استراتيجي»: أي ان ديناميكية البُعد المذهبي للثورات المندلعة في المشرق العربي، هي ذات طبيعة جيو استراتيجية، طبيعة قادرة على قلب الموازين التي اقامت الدول، وإعادة خلق دول أو تكتلات أو أقطاب أو مراكز قوى جديدة، كلها قائمة على معيار مذهبي، ومصالح مذهبية، وهوية مذهبية، خصوصا الهوية المذهبية، ذات الطبيعة الجوهرانية، المطلقة والخالدة. فتكون لنا الريادة في خلق عبارة «المذهبية كرهان جيو-استراتيجي»: التاريخ الحديث، وربما القديم، يعلمنا ان الرهانات الاستراتيجية تتعلق بالنفط، بالبحث عن موارد وأسواق، بالتوسّع، ببلوغ المياه الدافئة، بالسيطرة السياسية، ببناء دولة… أما رهان مذهبي من العيار الاستراتيجي، ومرهون بنتائج ثورة شعبية، فهذا من اختراعنا الخاص، ماركة مسجلة باسمنا، نحن روادها، لا غيرنا. (آخر الأمثلة ذات الدلالة الرمزية الفاقعة: في العراق مؤخرا، السنة يتظاهرون تضامنا مع أهل سوريا، فيما الشيعة يتظاهرون، ايضاً، تضامنا مع اهل البحرين).
أول ما تفضحه هذه العبارة الجيو ستراتيجة هو مفهوم غريب لموضوع «المصلحة» في ديار التناحر المذهبي. نحن ننهال ليل نهار على الغرب الابيض العنصري الذي لا يعرف غير «مصلحته». فيما نحن عاجزون عن صياغة معنى واضح لمصلحتنا. هل مصلحتنا تكمن في تأجيج هذا الصراع، وهو معطوف على التغيرات الآتية مع الثورات؟ الجميع يجيبك بـ»كلا!» عارمة ومستنكرة، مجرّد «كلا!»… الغالبية صاحبة الدور لا تفعل غير رمي مسؤولية التأجيج على الطرف المذهبي الآخر. اذن، مرة اخرى، أين المصلحة العامة في المذهبية؟ لا مصلحة عامة في المذهبية. حسنا، بالتأكيد هناك مصلحة اخرى. ما هي يا ترى؟ ما هي المصلحة التي تخلق كل هذه الطاقة المذهبية الجبارة؟ وتحولها الى رهان «جيو استراتيجي» قادر على قلب معطيات رأسا على عقب؟ ما هو نوع هذه المصلحة؟ انها المصلحة الضيقة، المباشرة، الضئيلة، الثأرية، او الثأرية المضادة، الواقعة في هوامش المصلحة العامة، والتي لا يعلن عنها لشدة خساستها. ولا يعلن عن الطرق التي تعتمدها لتبلغ مراميها. لا نلوم الغرب الأبيض الاستعماري، مصالحه وشهيته على ثرواتنا وأماكننا، وهي اقل خطرا علينا من «المصالح» التي يهمس بها قادة السيمفونية المذهبية، والتي لن تورث غير العتمة والخراب.
ليس هذا فحسب: ان الصراع المذهبي فضيحة إضافية بحق مفهومنا للتاريخ. فتبعا للـ»رؤية» المذهبية، نحن ننظر الى الماضي بصفته اسقاطا فجّا للحاضر. ليس الاسقاط المفذْلك، المدروس، الخاضع لمئة حيلة وحيلة، إنما الإسقاط الفظ، الخاضع مباشرة لمزاج المرحلة. فالقليل القليل من التاريخ يفيدنا بأن لا مذاهب في تاريخ الدعوة الاسلامية، ولا في ما تلاها من تاريخ الصحابة كلهم، وسلالة الرسول. وان الوقائع المفجعة التي تلتها لم تكن سوى صراع على السلطة، لا دخل له بالعقيدة، ولا بالمطلقات الالهية. وما أُلبست به من بعده، كان استمراراً لهذا الصراع، الذي يمكن ان تكتب له الابدية، في حال إبقائه حيّاً، ولو نائماً، أو مغالبا النعاس، ثم إعادة إشعاله عند كل فينة ملائمة وأخرى من التاريخ.
تلك القصص المتخيلة التي تغذي الصراع المذهبي، هي التي سوف تحدد وجه مستقبلنا ومستقبل احفادنا. تصوّر…!. رواية ماضية مأساتها تفعل فعل القدر الحتمي علينا. نحن محكومون بسرديتها من الآن الى ابد الآبدين. لا يوجد حرية في الرؤية المذهبية للصراع. لا يوجد سوى أناس ولدوا ونشأوا وسط هذا الشحن، فكان حكم التاريخ عليهم بلا رجعة. المذهبية تخلق عالما لا حرية للفرد فيه ولا للجماعة. ولا سن رشد ايضا. بل إغراق في زمن السخافة. وكأن السخافة نوع من انواع التعبئة السياسية. فهل يعقل ان يتلخص موضوع السجالات المحورية التي ولدتها الثورات في تحذير من نوع: «فلان من الصحابة خط أحمر»؟. تحذير يختصر مأساة ثقافية يواجهها أي تغير، أي تطور، أية ثورة: جمهرة من المحرومين من كل شيء تقريبا، من المستقبل خصوصا، تتقاتل على مذبح من «الخطوط الحمر» قوامها، شخصية صحابي أو صحابية.
انه تاريخ فقير، مكرّر، جامد المعطيات لا مجال، ضمن مفهومه، لأن يُعاد النظر فيه، ان تدرس خفاياه المنسية، أو الاشكالية، من دون احداث مذابح على الهوية. ولكنه ايضا تاريخ محدود التواريخ، محصور وضيّق: تاريخ مربّع، مسوّر، تحده من الماضي «الدعوة» وأحداثها، ومن الحاضر ايضا هذه الدعوة نفسها. تاريخ غير تاريخي، تاريخ سجين الرؤية، لا يذهب ابعد من الدعوة، نحو «الجاهلية» المنبوذة، المشرِكة، ولا يروم نحو مستقبل، طالما ان روايات المأساة المذهبية وصنوف عذابها سوف تتكرر، مهما تغيرت الامور…
والآن لنفترض ان الرويات التي تعتمد عليها الرؤى المذهبية صحيحة تاريخيا، وتسمياتها صحيحة، لنفترض ان الجميع شنّع بالجميع، على أساس الانتماء المذهبي الراهن، أليس بيننا من ألمّ، ولو قليلا، بشيء اسمه المصالحة والمسامحة؟ لا تبويس اللحى، ولا صلح العرب، أقصد؛ إنما بناء على تاريخ واضح. كما تفعل الشعوب، او المجموعات الناضجة عاطفيا، اليقظة ذهنيا، المستعدة ان تعفو، أن تبدأ مسيرة جديدة، حفاظا على حياتها وتطورها وكرم عيشها وربما التحاقها بالامم المفيدة لنفسها قبل غيرها؟
ولكن اكثر ما يثير الغيظ في الواقعة المذهبية الراهنة تمريرها لفرصة تاريخية نادرة. فاذا قارنت حركة التاريخ الراهنة والآتية، مع طريقة استقبالنا لها، فسوف تصاب بالدوار: اذ يبدو التاريخ هنا اكثر تسامحا من رؤيتنا له. انطلق وهو يجرّنا نحو المستقبل، نحو بناء دول وقانون… ونحن نرد عليه بالعودة الى ماض متخيل، لا يعدنا الا بالثأر والفوضى واشكال متجددة من التسلطيات. اننا نرتكب هنا جريمة بالجرم المشهود: ديناميكية خارقة، تشبه ديناميات الطبيعة، تقفز بنا نحو المستقبل، تحمل لنا وعود المواطنة ودولة القانون، فيما نحن نشدّ بهذه الديناميكة الى تحت، الى الماضي، حيث تنتفي المواطنة ودولة القانون: بالاسلامية السياسية التي تريد اقامة الخلافة، أو المذهبية التي تحبسنا في انتماءاتنا التي لم نخترها، ولا نستسيغها. هل من إسم محدّد يمكن ان نعطيه لهذه الديناميكية المضادة…؟
لو قلنا بأننا نستطيع الوقوف في وجه المذهبية وصدّ تسللاتها، لبدونا اصحاب ارادة انتصارية. قليل جدا ما نستطيع فعله. وهذا القليل بحدّ ذاته ضخم وصعب.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل