تقرير فينوغراد حول مسؤوليات القيادة في «فشل» اسرائيل بتحقيق اهدافها في «حربها الثانية على لبنان»: ماذا تتوقع؟ «حزب الله» يبتهج بنتائجه، مهلّلا بأن تلك هي اثباتات الانتصار «على لسان العدو نفسه»… تماماً كما سبق له واحتفل بنتائج تحقيق اربع لجان اسرائيلية حكومية رسمية اخرى حول الحرب نفسها: رقصات على انغام «الاعتراف الاسرائيلي بالهزيمة»، وتعبئة الطاقات التحريضية ضد الذين «يرفضون الاعتراف بالنصر»… «الخونة»، «الجبناء»، «المتخاذلون» الخ. الواقع ان ليس في الأمر مفاجأة. ولكن بما ان «حزب الله» اعتبر ان تقرير فينوغراد هذا ينطق صدقا حول «إنتصاره»، فمن البديهي ساعتئذ ان يكون صادقاً، ان لا يكذب. وبأننا بوسعنا الاخذ به جدياً؛ كغيره من التقارير الاسرائيلية التي «اثبتت النصر».
ماذا يعلمنا هذا التقرير ذو المصداقية اذاً؟ ان آلية القرار في اسرائيل تدور حول محاور القانون والمؤسسات والصلاحيات والخطط والمسؤوليات. وان القضاء الاسرائيلي مستقل عن السلطات الاخرى. وان الخطأ السياسي خاضع للمحاسبة. وبالملموس، يقول التقرير ان الثلاثة، رئيس الوزراء اولمرت، ووزير الدفاع بيرتز، والقائد الاعلى للأركان حالوتس، قد اساؤوا اتخاذ القرار وتفرّدوا به واخفقوا في تحقيق الاهداف المطلوبة وعرّضوا البلاد لخسائر في الارواح وفي الاقتصاد، ما نال من معنويات الشعب والجيش. الاخفاقات تتطلب اجراءات. رئيس الاركان استقال، فيما نجا رئيس الوزراء ووزير الدفاع من السقوط امام الكنيست. بقي الرأي العام الذي يحمل 70 في المئة منه سخطا ضدهما. نزل الى الشارع ، لكنه لم يكن على قدر سخطه. ونهاية اللعبة مرهونة بدورها بخطط إعادة التنظيم وتغير التحالفات. الى ان تفضي اسرائيل لقيادة جديدة او متجدّدة ، تعيد لها عافية ردّ الصاع.
ثمة لازمة تكررت في تقرير فينوغراد على نحو لافت: ان العملية العسكرية التي قام بها الاسرائيليون ردا على عملية «حزب الله»، «لم يحصل بشأنها اي نقاشات معمقة وشاملة في شأن مخطط العملية واهدافها» (الفقرة 12)، وان «الجيش بقيادة حالوتس لم يملك خطة محدثة ومقرة تتعلق بتصعيد مبادر اليه في الساحة اللبنانية» (16)، او ان «العملية العسكرية لم ترتكز بتاتا على خطة مسبقة» (54)، وغيرها من عبارات تكرر لازِمة ان اسرائيل لم تكن جاهزة لهذه العملية؛ لا ردا على «الوعد الصادق» بالتحديد… ولا «لعملية واسعة ضد لبنان» كما قال نصر الله، وتبعه الكورس، عندما سئل عما دفعه لإتخاذ القرار بـ»الوعد الصادق»، فأجاب: استباقا لعملية ضخمة ضد لبنان تعدّها أميركا واسرائيل، وصلته معلوماتها «الدقيقة» عبر تقارير اجنبية.
هل يخفي «حزب الله» الامر عن التقرير من ان اسرائيل لم تكن مستعدة لهذه الحرب، فتنتفي بذلك حجة الزعيم؟ نعم، يخفيه عبر تجاهله، عبر ذر رماد نصره عليه. بل يذهب الى ابعد: يقرر بأن تقرير فينوعراد «يكشف» أن اسرائيل «كانت معدة للحرب سلفا قبل اربعة اشهر من اندلاعها». اين الفقرة التي تكشف فيها اسرائيل عن ذلك؟ لن تجدها بالطبع. قد يكون «حزب الله» أخذها عادة: كل تحقيق، كل تقرير يصدر عن اسرائيل تليه اوتوماتيكيا نشوة «إنتصار». ما يسمح بالتمادي به… فيغرفه بشطارة من سلّة الاخطاء والتقصيرات الاسرائيلية. ثم يفبْرك انتصارات اضافية: من التقرير نفسه الذي تكلم مئة مرة عن «فشل» اسرائيل في تحقيق هدفها، ترجمها «حزب الله» بـ»إنتصار». ثم بعد تثبيته لغويا، يقفز فوق القضاة الاسرائليين، لينبّههم وينبهنا، بأن التقرير انما «اخفى» دور خصوم الحزب المحليين في الحرب. واخفى «الدور الاميركي» بطبيعة الحال. مع ان التقرير في فقرته 143 يقول: «يبدو ان وزير الدفاع تصور بأن العملية العسكرية ستكون قصيرة المدى، لأن الضغوط الدولية ستوقفنا بعد يومين او ثلاثة…»، او ان نصر الله نفسه يحترم ويقدّر التقرير، ويؤيد محاسبة المسؤولين عن الحرب! نصر الله يريد ان يحاسب؟ عليك ان تحزر بمن سيبدأ: هو الذي نعرفه معصوماً.
هل يمكن مقارنة سلوك طرفي النزاع؟ هل من حاجة الى القول بأن دويلة «حزب الله» في مناطقها لا تشهد الا تأكيدا تلو الآخر على ابدية قيادتها والهيتها وذكائها وحكمتها ودفاعها المستميت عن مصالح طائفتها، وحياتها؟ هذا اذا اكتفينا بالدويلة ولم نغصْ في تعقيدات العلاقة المرَضية التي اقامتها هذه الدويلة مع المؤسسات الشرعية الموازية لها؟ من يحاسبها؟ كيف نحاسبها اصلا وقد خرجت منتصرة على العدو؟
التمادي في «النصر» ايضا: طبائع «حزب الله» الشخصانية يسقطها على التقرير. فيتحول هذا الاخير الى صديق يحاسب اعداء ثلاثة: اولمرت وبيرتز وحالوتس. فتبدو محاسبتهم ووضعهم امام مسؤوليتهم دليل هزيمة اسرائيل. كأن ثأرا شخصيا يربطه بهؤلاء. كأن الحزب لم يفكر بالذين سوف يخلفونهم ممن هم اكثر تطلبا للقتال، ولكن بدِراية هذه المرة. هذا ما كان جديرا به ان يحثهم على عكس ما يفعلون الآن من تشدّق بـ»انتصار» وتوظيف للغلبة. ان يزيد يقظتهم تجاه القيادة القادمة، التواقة الى الاخذ بالثأر. ثأر قد يجّر لبنان معه الى إختبار «انتصار الهي» ثان…
اسرائيل فشلت كما يقول التقرير بسبب عنجهيتها، وعنجهية صناع القرار الثلاثة فيها. «النتيجة» التي يصفها التقرير بـ»المذهلة» في فقرته (61) هي ان»القرار الجوهري والوحيد الذي اتخذته الحكومة الاسرائيلية خلال فترة الخروج الى الحرب، كان دعم قرار الخروج الى عملية عسكرية كان متوقعا انها ستؤدي الى سقوط الصواريخ على الجبهة الداخلية، لم يكن واضحا كيف ستنتهي ومن دون معرفة حجمها المخطط له واهدافها وغاياتها الفعلية (…) بعد تبادل للآراء دام ساعتين ومن دون نقاش فعلي ومن دون اعطاء اجابات كافية عن اسئلة جوهرية…». وهذا وصف يتكرر في التقرير. فشل الاسرائيليون بسبب عنجهيتهم الخاصة والعامة. كانوا «يعرفون بأن صواريخ سوف تسقط»، ولكنهم لم يتصوروا قوة نيراتها، ولا الاستعدادات الجيدة لخصمهم. وهذا يكفيهم. الفشل عسكري وليس سياسيا ولا اخلاقيا. المجازر التي ارتكبوها في لبنان؟ لا ذكر لها على الاطلاق. العنف الاسرائيلي ضد الآخرين الآن عضوي في المؤسسة السياسية والعسكرية كما يتبين من الذي لم يقل في التقرير، ما ينبىء بالمزيد من تضاؤل فرص السلام. قارن فقط مع تقرير صبرا وشاتيلا (عام 1983) الذي أنزل ربع مليون اسرائيلي ساخط الى الشارع. يا له من انتصار! سلام غائب عن اسرائيل، وإعادة هيكلة هدفها الفاعلية والنجوع والاداء الحربي الاشرس. عبر آليات القانون والمؤسسات، التي لا تلغي الدسائس. مجتمع يسخّر آليات مؤسساته لتعزيز قدراته الحربية وإعادة تكريس تفوقه المطلق. ومجتمعات، او شعوب، لبنانية («مقاوِمة»، «مسيحية»، «سنية»… وحتى «قواتية» الخ…)، «طاستها» ضائعة ، يقودها معصومون ونصّابون نحو السخافة والركاكة والكراهية.
الحياة
dalal_el_bizri@hotmail.com