إنّ هؤلاء النّفر من أبناء جلدتنا هم أكثر خلق الله حملًا للتناقضات. غير أنّهم ولاستفحال هذا الوباء في ذهنيّاتهم فقد عميت أبصارهم عن رؤية هذه التناقضات
الإنسان، بطبيعة الحال وعلى غرار أبناء جلدته في كلّ صقع من أصقاع الأرض، ينتمي إلى جماعة بشرية تعيش في دوائر، تبدأ بالعائلة ثمّ تتسلسل وتتّسع اضطرادًا نحو دائرة أوسع هي القبيلة، ثم الطائفة والقوم والشعب والأمّة إلخ.
غير أنّ القومجية ،على كافّة تنويعاتها ومشاربها في كلّ مكان، هي مرض عضال. بل وأبعد من ذلك، هي مرض تتدهور معه ذهنية الإنسان فيعود إلى مرحلة التوحّش الغابَوَيّة. لقد ظهر هذا الوباء وتجلّى التوحّش فيه بأبشع صوره في ألمانيا النازية في ثلاثينات القرن المنصرم.
إنّ الانتماء إلى قوم هو جزء من طبيعة البشر الاجتماعية، غير أنّ هنالك حدًّا شفّافًا يفصل بين هذا الانتماء الطبيعي وبين حال الإنسان لدى تخطّيه هذا الحدّ. إذ يسقط الفرد عندئذ في دائرة الكراهية لكلّ ما هو مختلف عنه. وإذا كان هذا المختلف ينتمي إلى قبيلة، قوم، طائفة أو شعب آخر فسيفقد هذا الآخر بنظره كلّ شيء وسيُضحي بنظره لا شيء. إنّ هذا الحدّ الشفّاف هو ما يفصل القومي عن ذلك القومجي، الذي لا يرى سوى ذاته. ولذا ينزع القومجي عن هذا الآخر كلّ الحقوق الطبيعية التي يراها ملكًا له دون غيره.
كذا هي حال القومجيين العروبيين. إنّ هؤلاء النّفر من أبناء جلدتنا هم أكثر خلق الله حملًا للتناقضات. غير أنّهم ولاستفحال هذا الوباء في ذهنيّاتهم فقد عميت أبصارهم عن رؤية هذه التناقضات. فمن جهة، طوال عقود قاموا بصرصعتنا حتّى صمّت آذاننا بإطلاقهم الشعارات والاتهامات للاستعمار والمستر سايكس والمسيو بيكو لتفتيتهم العرب برسمهم حدودًا مصطنعة بين أقطارهم. ولكن، من جهة أخرى وفي الآن ذاته، نرى أنّ هؤلاء القومجيين العروبيّين هم أشرس العرب دفاعًا عن هذه الحدود ذاتها التي يكيلون السباب عليها وعلى راسميها. بل وأكثر من ذلك، فهم يظهرون على الملأ بوصفهم أشدّ المدافعين عن ”وحدة التراب الوطني“، كما نهجوا على تدبيج كلامهم. إنّهم لا يرون في تشبّثهم بخطابهم هذا إقرارًا ضمنيًّا منهم بكون هذه الـ”وطنيّة“ صنيعة من صنائع الاستعمار الذي يكيلون له السباب، كما إنّّهم لا يرون حرجًا في كلّ هذا التناقض في مقولاتهم.
إنّ الأيديولوجية القومجيّة تفتك بحامليها أحيانًا، إذ تجعلهم ينظرون نظرة فوقية تجله أناس يُفترض اجتماعهم معهم بالانتماء ذاته. وبهذا السياق فقد أصاب الأستاذ خالد الدخيل في مقالة له نشرت هنا قبل عام، حيث نوّه فيها إلى ظاهرة ”عنصريّة القوميين العرب تجاه الجزيرة العربية“ (الحياة، 5.7.2017). إذ يعتقد دعاة العروبة الناصرية والبعثية الآفلتين إلى غير رجعة أنّ الحضارة العربية قد بدأت بهم، بينما مَحلّ أهل الجزيرة في البداوة والأعراب، ولا محلّ لهم في إعراب جملة القوميّة التي يتشدّقون بها. وفي الآن ذاته، ترى كلّ هؤلاء المتشدّقين يطالبون بحصّة من الموارد الطبيعية التي أنعم الله بها على الجزيرة، وكأنّ أهل الجزيرة مدينون لهؤلاء القومجيّين بشيء.
ولدى الحديث عن التناقض، حريّ بنا أيضًا أن نُذكّر هؤلاء وأمثالهم، إن نفعت الذكرى، أن لا عروبة دون الجزيرة التي تسمّى العرب باسمها وتسمّت باسمهم. فالجزيرة العربية ومنذ حقبتها ”الجاهليّة“ هي المهد الذي احتضن العروبة منذ العصور القديمة. وكما يقال، من أنكر أصله فلا أصل له. لا يعني هذا الكلام بأيّ حال دفاعًا عن أنظمة سياسية أو دينية، وإنّما هو وضع النقاط على الحروف حضاريًّا وثقافيًّا.
فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة، كالأكراد على سبيل المثال، ففي مثل هذه الحال، حدّث عن عنصريّة العروبيّين ولا حرج. لقد وصل أمر هؤلاء إلى إطلاق مصطلح ”قردستان“ على وطن الأكراد، كما فعل سعدي يوسف، وهو أحد دعاة العروبة من شعراء العراق.
ها هم الأكراد ذاهبون إلى إجراء استفتاء حول إنشاء كيان سياسي خاصّ بهم مفصولاً عن العراق. إنّ مواقف الغالبية العظمى من العروبيين يعارضون الاستفتاء ويرفضون أن يكون لهذا الشعب أيّ حقّ بتقرير المصير، على غرار سائر شعوب الأرض. إنّه ذات الحقّ الذي يطالبون به لأنفسهم في كلّ مكان. إذن، والحال هذه، ما هذا التناقُض البنيوي الذي يحيون معه؟ ألا يحقّ للأكراد ما يحقّ لغيرهم؟ أم إنّ الأمر حينما يتعلّق باحتلال عربي لشعوب أخرى فإنّ هذه الشعوب تفقد حقوقها من منظور عروبي؟ كلّ هذا ناهيك بالتجارب التي خبرها الأكراد من طرف الفاشية البعثية في كلّ من العراق وسورية.
لهذا، فعلى كلّ عربي يؤمن بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها أن ينتصر لحقّ الأكراد في إنشاء كيانهم المستقلّ على ترابهم الوطني الذي قام الاستعمار بتجزئته منذ قرن من الزمان، بين العرب والأتراك والفرس. إنّ العربي الذي يرفض حقّ الأكراد بتقرير المصير يفقد صدقيته أخلاقيًّا. بل وأبعد من ذلك، إنّه يفقد حقّه بتقرير مصيره هو. أليس كذلك؟
*
”الحياة“، 22 سبتمبر 2017