على ضفاف بحيرة ليمان في لوزان كُتبت، وتُكْتب، صفحات من تاريخ العلاقات الدولية والمعاهدات. على ضفاف البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب يتنبه العالم لحرية الملاحة في مضيق باب المندب، وغالبا ما ارتبط اسم المضائق بالحروب والمعاهدات.
تسارعت الأحداث هذا الأسبوع: تواصلت المفاوضات الماراثونية النووية ما قبل الشوط الأخير من المسلسل الأميركي – الإيراني الطويل في لوزان، وذلك في موازاة إحكام القوات البحرية التابعة لعملية عاصفة الحزم سيطرتها على ممر باب المندب.
اتفاق الإطار في لوزان هو “تفاهم تاريخي” بالنسبة إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما، و”خطأ تاريخي” بالنسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وتقييم كليهما غير موضوعي، وستكون مهلة الشهور الثلاثة حتى آخر يونيو حافلة بالكثير من التجاذبات، حتى تتبلور أو تتعثر “خطة العمل المشتركة والشاملة” بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد.
أما مجريات عاصفة الحزم فقد تعدت اليمن نحو بداية تغيير ميزان القوى في سوريا. وإبراز القدرة على بناء تحالف عريض عربي – إسلامي لن يسمح لإيران بقطف مكاسب إقليمية جديدة، ويضع مكاسبها السابقة تحت التهديد.
ماذا جرى فعلا في لوزان، وهل نحن أمام إنجاز لصالح الاستقرار الإقليمي والسلم العالمي، أم أمام توافق عملت عليه إدارة الرئيس أوباما طويلا، كي يمهد الدرب نحو صفقة كبرى على غرار الصفقة التي أبرمها الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون مع الصين في حقبة السبعينات من القرن الماضي.
تتيح القراءة المتأنية للبيان الذي تلته وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني تبين أننا أمام بيان يحدد مفاهيم أو معايير عامة لكنه غير ممهور بأيّ توقيع، أي أنه لا يرقى إلى اتفاق إطار بالمعنى القانوني.
من الناحية السياسية أتاح الاستثمار السياسي الكبير في هذا الملف، وقرار واشنطن بمنع الفشل إنتاج هذه التسوية وفق وجهة نظرها بالتوصل إلى اتفاق على مرحلتين، وهذا يمثل أول تراجع للقيادة الإيرانية التي كانت تصر على صفقة نهائية متكاملة وليس انتظار آخر يونيو.
وحسب معلومات من مصادر متعددة أتى الوفد الإيراني إلى لوزان مع تعليمات من المرشد الأعلى آية الله خامنئي بعدم قبول نقل مخزون اليورانيوم المخصب بدرجة عالية إلى روسيا، وبعدم إغلاق موقع فوردو، وكذلك بالإصرار على إنهاء كل العقوبات الدولية دفعة واحدة.
وهذا التصعيد أتى لأن دعم واشنطن لعاصفة الحزم وتصرفها إبان معركة تكريت لم يُطَمئن محيط خامنئي الذي كان يتصور أن الاتفاق النووي سيكون المكافأة الضمنية لسياسات النفوذ الإقليمي. لكن بالرغم من تناغم جون كيري – جواد ظريف بالبسمة الخفيفة أو العريضة التي تخفي ما وراء المحيّا، وبالرغم من لعبة شطرنج وتفاوض على حافة الهاوية كي تكرس إيران نفسها قوة على الحافة النووية، تراجع الفريق الإيراني عن تشدده وعن التعليمات الأولية لديه لأن النظام الإيراني عند المنعطفات الحاسمة يتراجع تحت الضغوط لأن الأولوية تبقى لإنقاذ النظام واستمراريته، وهذا ما حصل مع الإمام الخميني الذي وافق كما قال على تجرّع كأس السم وقبول إنهاء الحرب مع العراق.
هذه المرة يوافق الإمام الخامنئي على تجرّع كأس المرارة بالتقسيط تحت وطأة آثار العقوبات وواقع المجتمع الإيراني (مئات الإيرانيين الذين هللوا للاتفاق في شوارع طهران رفـع بعضهم الدولار الأميـركي كإشـارة انفتاح أو للرغبة في نهاية العزلة) وكذلك موقف الكونغرس الأميركي والتحـولات الإقليميـة. عمليا، حسب الوفد الفرنسي المشارك في المفـاوضـات، وافقت طهران على إغلاق موقع فوردو وتحويل طبيعة عمل مفاعل آراك للمياه الثقيلة المنتج للبلوتونيوم، وحصلت كذلك موافقة على تخفيض نسبة التخصيب من عشرين إلى 3.27 بالمئة، أما أجهزة الطرد المركزي فسيكون عددها 5060 بدل 9200.
أما المخزون من اليورانيوم عالي التخصيب فسينقل إلى الخارج. وبالنسبة إلى مسيرة رفع العقوبات انتزعت طهران رفع العقوبات الأممية بعد الاتفاق، أما إنهاء العقوبات الأميركية والأوروبية فسيكون حسب وتيرة التنفيذ والتحقق من فيبر الوكالة الدولية للطاقة النووية.
من الناحية التقنية يمكن للشيطان أن يوجد في التفاصيل، ولكن التعطيل الأكثر احتمالا لإرادة إدارة باراك أوباما هو داخلي وعند الكونغرس الأميركي بالذات. وكان من الواضح أن أوباما تفادى المغالاة بإنجازه، وأبرز الاهتمام بإقناع الداخل الأميركي وإسرائيل والدول العربية في الخليج بحسنات هذا الترتيب، مع الاحتفاظ ببعض أوراق الضغط على طهران في ملف رعاية الإرهاب وملفات إقليمية أخرى.
من جهتها تجد فرنسا نفسها في موقع الأقل تحمسا وربما الخاسر بعد الاتفاق الأولي في لوزان. باريس التي كانت وراء فكرة التفاوض السلمي مع طهران في 2003 وكادت تصل إلى ترتيب مع الرئيس حسن روحـاني في 2005 (كـان حينهـا رئيس مجلس الأمن القومي والمفاوض الرئيسي) تعتبر أن إدارة أوباما لا تعمل بما فيه الكفاية لانتزاع اتفاق صلب يضمن عدم إحياء الجانب العسكري من البرنامج النووي.
ويأخذ مصدر فرنسي على لندن كونها تتبع دوما واشنطن، وعلى ألمانيا كونها مهتمة بالانفتاح والسوق الإيرانية. ولذلك تصر باريس في لعبة المخادعين أو البازار النووي أن تحتفظ بموقف حذر ولو أن رجال الأعمال فيها يخشون من انعكاسات لعب دور المشاكس أو المشاغب على مصالحها الاقتصادية.
في لوزان ليست هناك خسارة إيرانية مطلقة، ولا إنجاز أميركي كبير، إنها تسوية الممكن المرحلية في ظل موازين قوى وتغيير لقواعد اللعبة.
يصطدم رهان البعض في واشنطن وطهران على بناء شراكة ومنظومة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط والخليج بوقائع وتجاذبات في منطقة لا يمكن إعادة تركيبها من دون القوى العربية في عاصفة الحزم، التي لا يمكن لأيّ ترتيب أو معاهدة الالتفاف على مواقعها ومصالحها، وربما رغبت بعضها أيضا في الدخول مستقبلا إلى النادي النووي.
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس