في العام 2002 ظهر في نيجيريا شخص اسمه الأستاذ محمد يوسف. الأستاذ أسس جماعة اسمها بوكو حرام. بعد عامين انتقل الأستاذ وجماعته إلى منطقة نائية وأقاموا هناك مدينة فاضلة اسمها أفغانستان. وقبل أشهر قليلة عاد الأستاذ إلى صفحات الجرائد، وشاشات التلفزيون عندما اشتبك أنصاره مع القوّات الحكومية في مجابهات قُتل فيها المئات، بما فيهم الأستاذ نفسه، الذي ظهر هذه المرّة جثة مزقها الرصاص.
قبل مقتله بوقت قصير نفي الأستاذ في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية أن تكون الأرض كروية، كما أنكر أن يكون سقوط المطر نتيجة تبخّر الماء في الجو، فهذه الأشياء تتعارض مع الإسلام. وهذا يصدق، أيضا، على الديمقراطية.
الأستاذ ضد التعليم العلماني، ولا نعرف المقصود بالتعليم العلماني، كل ما في الأمر أن جماعته تعادي نظام التعليم الغربي، ومن هنا جاء اسمها، فبوكو تعني الأبجدية المكتوبة بحروف لاتينية التي أدخلها المستعمرون الإنكليز والفرنسيون في مطلع القرن العشرين إلى نيجيريا، أما حرام، الكلمة العربية، فلا تحتاج إلى تفسير.
الأستاذ لا يختلف من حيث الجوهر عن أساتذة ظهروا في مناطق مختلفة من العالمين العربي والإسلامي منذ بداية الاحتكاك بالغرب قبل قرنين. وغالبا ما ظهر هؤلاء في أماكن ريفية نائية، أو حملوا خلفياتهم الريفية إلى مدن هاجروا إليها بحثا عن مورد للرزق، واستغلوا مظالم اجتماعية واقتصادية وسياسية نجم بعضها عن الوجود الكولونيالي، والبعض الآخر عن خصوصيات محلية، لتبرير مشاريع طوباوية من نوع إعادة الأمة إلى الطريق القويم. وغالبا، أيضا، ما اتسمت نظرتهم إلى الطريق القويم بالفقر المعرفي، وعكست خوف مجتمعات راكدة من الحركة والحراك.
ولكن، ومنذ صعود الحركات القومية المعادية للكولونيالية، وظهور النفط، واكتشاف الغرب للمشاعر الدينية كسلاح محتمل في الحرب الباردة، لم يعد الأستاذ ظاهرة محلية، بل أصبح جزءا من صراع الحيتان في العالم، وبضاعة يتسابق عليها الأقوياء، إذا أرد مالا أغدقوا عليه، وإذا أراد سلاحا أعطوه، وإذا أراد بضاعة أيديولوجية تهافتوا عليه بالنصح لما فيه خير البلاد والعباد وإرشاد الحيارى إلى طريق السداد، بينما يتكفل الإعلام والكتبة بالباقي.
وفي زمن التلفزيون والإنترنت يتحوّل الأستاذ إلى مجاهد بالصوت والصورة يدعو ويشدو ويناشد ويعاهد ويندد ويهدد ويبدد ويسدد ويجدد الملة والدين، وفي الأثناء يشتغل مقاولون في الباطن، ومقاولون للمقاولين في الباطن في سلسلة طويلة تبدأ من دولة في الإقليم، مرورا بأكثر من جهاز للاستخبارات، وتنتهي برجال الأعمال والعاطلين عن العمل، لاكتشاف الأساتذة وتحويلهم إلى نجوم. وبين هذا وذاك، ومع هذا وذاك، يُراق دم، وتهدر حيوات، وتُبدد طاقات، وتضيع بلاد.
بهذا المعنى، لا تختلف حكاية الأستاذ النيجيري عن حكايات أساتذة آخرين في أماكن مختلفة من العالمين العربي والإسلامي. الفرق الوحيد أن الحظ لم يسعف الأستاذ النيجيري فمات قبل الأوان، بينما أسعف الحظ أساتذة آخرين في الصومال، وأفغانستان، وباكستان، والعراق، وفلسطين، ولبنان، وفي غيرها من البلدان.
قبل أيام ظهر في رفح أستاذ جديد لإنشاء إمارة إسلامية سارع للقضاء عليها وعليه أساتذة آخرون، فلا أحد يعرف بضاعة الأساتذة ومخاطرهم أكثر من الأساتذة أنفسهم. فهم في نهاية الأمر من طينة واحدة.
وصاحب الحظ بينهم من علق بصنّارة مقاول يخدم مقاولا أكبر لا يعنيه ما إذا كان بوكو من الحلال أم الحرام. وقد يكون المقاول الكبير صاحب بوكو، أما الأستاذ فلا يريد اقتسام البضاعة مع أحد، ولا يسمح لأحد سواه بتحريم بوكو، الذي قد يتحوّل من أبجدية إلى مجازات مختلفة لأعداء تزداد أعدادهم أو تنقص بالتوازي مع طول أو قصر خيط الصنّارة، وما يتوّفر على شاشة التلفزيون من بقع ضوئية. كوميديا سوداء.
لم يتمكن أحد من القبض على معنى الكوميديا السوداء مثلما فعل ماريو فارغاس يوسا قبل ما يزيد على عقدين من الزمن في رواية بعنوان “حرب نهاية العالم”. لم تكن تلك الرواية عن الإسلام السياسي، ولا عن العالمين العربي والإسلامي، بل كانت محاولة لإعادة النظر في تاريخ الحركات الفلاّحية الراديكالية في أميركا اللاتينية.
السر في إعجابي بهذه الرواية أننا لا نحتاج إلى كثير من التعديل والتأويل لاكتشاف أن الشخصية الرئيسة في رواية يوسا ليست في الواقع سوى النسخة الأميركية ـ اللاتينية من سيرة الأستاذ محمد يوسف والأساتذة من آل بوكو حرام في فلسطين ولبنان وأفغانستان والعراق وباكستان وغيرها من بلاد المسلمين والعربان.
لا يختار يوسا اسما لشخصيته الرئيسة، يسميه أصحابه الرجل الصالح. وهو صالح بالفعل، يزور القرى فيرمم مقبرة تهدمت أسوارها هنا، وينظّف باحة كنسية هناك، وينام في العراء مكتفيا بالقليل من الزاد الذي يقدمه الفلاّحون تقديرا لورعه وتقواه. لكن حياة الصالح تشهد تحوّلات دراماتيكية مع وقوع ثورة في برازيل نهاية القرن التاسع عشر، تلغي الملكية وتعلن قيام النظام الجمهوري. وهذه في نظر الرجل الصالح من علامات القيامة. والأهم أن الجمهورية تبطل العمل بنظام الياردة للقياس وتستخدم المتر كوحدة للقياس. وهذه علامة أشد وطأة من الأولى، وأكثر دلالة على قدوم المسيح الدجّال، ووصول العالم إلى حافة النهاية. لذا، يرفع الرجل شعار عاشت الياردة يسقط المتر، وينتقل للعيش مع أتباعه في منطقة نائية، كتلك التي أختارها الأستاذ محمد يوسف وأسماها أفغانستان (وهي أيضا في صلب منطق التكفير والهجرة).
المهم أن المدينة الفاضلة تنتهي بطريقة مأساوية بعدما جرّدت الحكومة المركزية ضدها أكثر من حملة عسكرية، وبعدما انضم إليها مناضلون جاء بعضهم من أوروبا اعتقادا منهم بأن أصحابها الرفاق يقومون بثورة فلاّحية ضد الإقطاع، وبعدما حاول الإقطاعيون استمالة الرجل الصالح والتفاوض معه (تحقيقا للوحدة الوطنية بلغة الفلسطينيين)، والمهم أن لا أحد يعثر على جثة الرجل الصالح، وعندما يصل الجيش إلى ما تبقى من مقر إقامته يجدون الكاتب، الأحدب، الذي تولى من قبل تحويل كلام الرجل الصالح إلى أيديولوجيا مرموقة، وعندما يسألونه عن الزعيم، يرفع إصبعه إلى أعلى قائلا: لقد صعد إلى السماء.
مشكلة الرجل الصالح مع المتر لا تختلف كثيرا عن مشكلة الأستاذ محمد يوسف مع المطر والديمقراطية وكروية الأرض والأبجدية، ولا تختلف كثيرا عن مشكلة الأستاذ صاحب إمارة رفح، أو الذين قتلوه، ولا تختلف عن مشكلة الأستاذ بيت الله محسود الطالباني الباكستاني. هؤلاء أسقطهم سوء الحظ من الصنّارة، لكن بوكو حرام في فلسطين وغيرها لن تخرج من التداول في وقت قريب، ولن يشكو دعاتها من ندرة المقاولين أو القضايا والمنايا. تعددت الأسباب والأنساب والأستاذ واحد.
Khaderhas1@hotmail.com
• كاتب فلسطيني- برلين
عن جريدة الأيام