اندفاعة ” طهران ” شرقا وغربا باغتت المنطقة، ودفعت الذين أقلقتهم، وتعاملوا مع أنفسهم كمستهدفين، إلى الانكفاء نحو ذواتهم، ونحو السعودية، التي اكتسب دورها الإقليمي بعدا فائق الحساسية، امتزج فيه السياسيّ بالدينيّ لأول مرة، على شاكلة خاصّة، لم تعهدها المملكة سابقا، وما قاله العماد ميشال عون من أنّ السعوديّة تمثّل للسنّة ما تمثّله البابويّة للمسيحيين، وقم والنجف للشيعة، أي المرجعية الروحية الأبوية؛ قول غير دقيق، فالسنّة – وليسامحنا الجنرال- لا تسمح فلسفتهم الدينية بالتمركز حول أو تحت مرجعيّة، وليست حساسيتهم السياسية اليوم، تجاه تعرّض المملكة لأدنى انتقاد في خطواتها ودورها، إلا نتيجة مفهومة لاندفاعة طهران المفاجئة.
فعرب الشرق الأوسط الذين تجذبهم السياسة يوما، وتقودهم غرائزهم دهرا، لم يضيعوا بوصلة الغريزة، واندفعوا نحو بيوتهم الآمنة، ولاذوا إلى خياراتهم الهاجعة في قحوف رؤوسهم منذ أربعة عشر قرنا ،وانحازوا إلى ثوابتهم المتجذّرة التي لم تستطع متغيرات الكون أن تهزّ عرشها أو تزحزحه بوصة!
لماذا استقرت هذه الثوابت ولم تتعرض لأي احتمال عصف بها؟ وكيف تجمّع المذعورون بسرعة هنا وهناك؟ لا مجال يسمح الآن بفتح الجروح والتبحّر في صديدها، فالسكاكين حادّة، والرقاب لا تحتمل هذيان التنظير.
حدث أن ذهب كل فريق إلى عشيرته الإثنية، وصار إيواء النازحين عن الأفكار العلمانية واليسارية والقومية، والمغادرين عقلية التمترس في أوطان وضمن ذهنية الوطن المستقلّ؛ الذين اكتشفوا ” للتوّ ” أنهم لم يشتركوا يوما في رسم حدود أوطانهم، ولم يكن لهم رأي في تقدير حجومها، صار احتواء هؤلاء جميعا وتنظيم مشاعرهم وتهدئة مخاوفهم، مسؤولية السعودية وإيران بوصفهما وجهتي القوافل المهاجرة.
في هذا الجوّ، باتت النأمة محسوبة، فكيف بالتصريح؟ والكلمة تخضع فورا لقياس الوزن، والخطاب تنخله المقاييس والحسابات، وضاقت هوامش الخطأ إلى حدود مضنية، ولم يعد بإمكان المحاسبين التغاضي عن قرش مهدور هنا، أو دينار ضائع هناك.
لم يعد بإمكان السياسيين أن يتكلموا إلا بميزان مرهف الحساسية، ووفق ضوابط لا يدلّ انتهاكها إلا على جهل يقصي صاحبه، أو قصد سيدفع به إلى مصير وخيم.
عند هذه التخوم المتقابلة أطل نائب الرئيس السوريّ فاروق الشرع ليقول للناس: إنّ الدور السعوديّ هامّ، ولكنه: مشلول!!
فهل درست الديبلوماسية السورية هذا القصف قبل أن تطلقه؟ وهل تنبّهت إلى الحساسية؟ والتوقيت؟
مجرّد تصوّر أن يقال هذا الكلام بتبسيط واندفاع أمر يستعصي على الفهم، ولا يستسيغه أحد. وأن يقال بعيد انفضاض مؤتمر الجوار العراقي الذي عقد في دمشق مؤخرا، و ” تغيّبت ” عنه المملكة رغم المشاركة الأمريكية والعراقيّة اللافتة، أمر أثار أسئلة تجاوزت ” التغيّب ” إلى إطلاق سيل من التكهنات عن حقيقة ما جرى فيه.
الثابت، أنّ النظام السوريّ ظنّ حضور الأمريكيين إلى دمشق للمشاركة في مؤتمر دول الجوار العراقيّ فرجا ومتنفّسا، وأنّ مجرد قبول استضافة سوريا له، أعطى إشارة إيجابية مبشّرة على تغيّر ملموس في المزاج الدوليّ تجاهها، ولكن حسابات الحقل سقطت أمام حقائق البيدر، فالفريق التفاوضيّ الأمريكيّ فاجأ المتفائلين من أركان النظام وأتباعهم هنا وهناك، بتصلّب ممعن في الاستخفاف بمخاوفهم من استحقاقات خطرة تنتظرهم، ولم يكن الحضور الأمريكيّ الفاعل في المؤتمر إلا رسالة مضمونها أن مشكلة المجتمع الدولي مع النظام السوريّ تنحصر في: تصدير الإرهاب عراقيا وفلسطينيا ولبنانيا، ما عنى أنّ الحوار بشأن استحقاق المحكمة الدولية لم يعد واردا. وسرعان ما تبيّن، أنّ مناخ الحضور الأمريكيّ في دمشق لم يسفر عن مطر رحيم، فقد صرّح موفق الربيعي بعد ثلاثة أيام فقط من انفضاض المؤتمر أنّ تواصل العنف في العراق مؤامرة يدبّرها بعض الجوار لتصفية حسابات إقليمية على التراب العراقيّ، الأمر الذي أثار حفيظة النظام في سوريا، ووضعه تحت ضغوط ومخاوف راهن على تفاديها، فلطمته بعنف، لأنه فهم أنّ تصريحات الربيعي ليست إلا رسالة أمريكية واضحة في تشديدها على تبخير آماله، وإرعابه بوجوب الاستعداد لمواجهة مصيره.
طال انتظار أركان النظام السوري التبدّل الفرنسيّ، فحدث، وزار” كوشنير ” سوريا، ولكنّه لم يلبث أن فجّر صاعقة في القاهرة، عندما اتهم سوريا وإيران بالإمساك بالملفّ اللبنانيّ وبالتحكم بمجرى رياح أزمته، وراهن النظام السوري أيضا على عجز أمريكيّ يفضي إلى راية بيضاء يرفعها الأمريكيون فتعيد لحكام دمشق مكانتهم دوليا وسطوتهم إقليميا، ولكن الرياح مرة أخرى عاندت السفن، ولم تنجح وعود المساعدة عراقيا في قبض أي أثمان، ولم يرج أحد النظام في دمشق أن يقود مفاوضات حماس وفتح، ولم تأبه أمريكا أو أوروبا لانهيار اتفاق مكة، وأسقط الأمريكيون السوريين من حساباتهم في لبنان، وواصلوا مع الأكثرية الدولية والعربية مساندتهم لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأخفق حلفاء النظام السوري في لبنان المعززين بالجنرال ميشال عون في إزاحتها، أو زحزحتها على الأقلّ، ودعا الرئيس الأمريكيّ الجميع إلى مؤتمر للسلام يغقد في الولايات المتحدة، كاد الترحيب العربيّ فيه الذي عنى للنظام السوري استخفافا إضافيا بدوره الإقليميّ، أن يجعل سوريا تنسحب وحدها من الجامعة العربية، ولم يؤت اعتذار الرئيس بشار الأسد عن عبارة ” أشباه الرجال ” أكله، فتغيّبت المملكة العربية السعودية عن حضور مؤتمر الجوار العراقي في دمشق، وفشل المؤتمر في إعادة سوريا إلى واجهة الشرق الأوسط أثرا وتأثيرا، وتجمّع ذلك كله وارتصّ، فكان طبيعيا جدا أن يمطر على النظام في دمشق يأسا! وكان أكثر من طبيعيّ أيضا أن يرتبك أركانه، ويخرج فاروق الشرع إلى الناس ليتهم الدور السعوديّ بالشلل!
ثمة ارتباك، نعم، ويأس لا تخطئه العين بالتأكيد، ولكنّ تصريح نائب الرئيس السوري حول المملكة ودورها، انطوى وللمرّة الأولى في تاريخ سوريا الحديث، على إعلان واضح وجهوريّ بمغادرة الصفوف العربية، لأن أحدا من الحكّام العرب لن يغامر بالدفاع عن وجهة النظر السورية هذه، أو قبولها وممالأتها، وسيشنّ الجميع عليها هجماتهم لأسباب أكثر من أن تحصى، أقلها أهمية معرفتهم الراسخة أن السعودية التي رعت اتفاق مكة، و نالت من أفانين الاستحسان العربي والدولي الشيء الكثير، لم تكن مسؤولة عن انهياره، وهو الشاهد الذي ساقه نائب الرئيس السوري للبرهنة على شلل الدور السعودي، وأن معظم الحكام العرب لا تعتورهم شكوك كثيرة تجاه هوية من أفشل الاتفاق ودفع حماس إلى انقلابها الدمويّ في غزة.
وإذا لم يخرج توضيح ما في غضون أيام، أو لم يبادر الرئيس الأسد إلى إقالة نائبه للتنصّل من التصريح، فإن التفسيرات لن تتوقّف عند فكرة استهداف السعودية وحدها، على ما يحمله استهدافها علنا من سوء تقدير وخلل في القراءة، و ستندفع قراءة تصريحات الشرع إلى الاستنتاج أن النظام السوريّ لم يرغب بإعلان قطيعة مع المثلث الذي أخذ ينساه العرب والعالم، مصر والسعودية وسوريا، فحسب، وإنما أعلن بوضوح أنه جزء لا يتجزّأ من المحور الإيرانيّ، يصادق من تصادقه طهران، ويخاصم من تخاصمه.
وإذا كان هذا هو الخيار والاختيار، فليتذكر النظام جيّدا أنّه يحكم دمشق، دمشق بالذات، وأنّ عزلته العربية والدولية آخذة في تمدد خطر نحو سوريا نفسها، وليتذكر أيضا أن خيارا بحجم هذا الخيار لا يستطيع احتماله الذين استشرى الفساد بين ظهرانيهم، وانتهكوا في أرزاقهم، وأنهم لن يقبلوا ببيع تاريخهم وتراثهم، وشراء مجهول لا يرضون في أغلبيتهم الساحقة ممالأته وادّعاء شرف الانتماء إلى أجندته وغاياته الآجلة منها والعاجلة، وعلى النظام أن يفعل شيئا آخر بدل هذا الخطو في الضباب لهؤلاء الذين يمعن في اغتصاب حريّاتهم، ويواصل التضييق على حناجرهم، وتوسيع سجونهم.
ولا بدّ أن يعي أنّ السحب التي تجمّعت فوق رأسه، وأمطرت يأسا، فانفجر في وجهها غضبا، قد تجمّع أضعافها فوق رؤوس السوريين، وأنّ أمطارها كانت سيولا، حامضة وسوداء، انصبّت في حلوقهم، فبلغت بأجسادهم شفير القبور، وصعدت بأرواحهم حدود التراقي، ولم يعودوا قادرين على احتساء المزيد، فقد سقاهم الاستبداد حتى الثمالة!!
khaledhajbakri@hotmail.com
تصريحات فاروق الشرع: قراءة يائسة وخطوات في الضباب
كلما اقتربت المحاكمة أكثر أتوقع أن تطيش أحلام البعض
والمجرم يعرف نفسه ولذا فهو سيواصل الهروب إلى الأمام ، وينتظر المفاجآت التي تنقذه
تصريحات فاروق الشرع: قراءة يائسة وخطوات في الضباب
لقد حاولوا التنصل من تصريحات الشرع ولكن لايمكنهم التنصل من أفعالهم وعندما تشتد الرياح ستقتلع خيامهم ذات الحبال الواهية … وإن كانت السعودية ليست مرجعا للسنة ولو حالوا أن يلبسوها هذا الثوب فإننا نقول مالعيب أن تكون مرجعا ومالعيب أن يكون للسنة مرجعيتهم ليت السعودية تفعلها فتحتضن السنة وبدورهم السنة الذين يشكلون أكثرية ساحقة في المنطقة يلتفون حول الملكة ليشكلوا قوة ضاربة في وجه الوحش الصفوي المتربص على أعتاب أوطاننا ليعيث فيها فسادا من أجل أن يقنع الغرب أنه قوة لايستهان بها ولو على حساب دماء الشعوب.