من أجل الإحاطة بعلاقة “المرشد” و”السلطان”، لا بد من إدراجها في سياق لعبة الأمم التي تدور منذ حرب العراق في العام 2003 على حساب النظام الإقليمي العربي المهمّش لصالح إسرائيل وإيران وتركيا.
طوت إيران وتركيا سجالا بينهما إثر اتهامات متبادلة حيال أدوار الطرفين في ساحات النزاع في الشرق الأوسط، وبدا واضحا أن التقاطع بين القوتين الإقليميتين يطغى على تناقضات طارئة أو تصريحات يتم استدراك تداعياتها. ويتلازم انخراطهما في الحروب بالوكالة على أراضي الدول العربية مع قرار تفادي الصدام المباشر بين الجارين اللذين لم نشهد بينهما نزاعا كبيرا منذ حقبة الصراع الصفوي-العثماني في القرن السابع عشر.
بيد أن التطورات المتصلة بانتشار حزب العمال الكردستاني والمقربين منه في سوريا والعراق، ومواقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من إيران، وتتمات الدور الروسي في سوريا، يمكن أن تضع على المحك مستقبل العلاقة الإيرانية-التركية.
تحكم الواقعية السياسية علاقة طهران وأنقرة، إلى حد أن غلبة شبكة المصالح بينهما لها الأولوية على ما عداها من اعتبارات مذهبية وأيديولوجية، ولا يدلل على ذلك فقط رقم المبادلات الاقتصادية (تقدر بحوالي 12 مليار دولار في 2016 مع طموح تركي لجعل الرقم مستقبلا بحدود 30 مليار دولار) بل احترام الطرفين لموازين القوى والموقف الموحد ضد قيام دولة كردية، بالرغم من الصلات المتينة بين أنقرة ومسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان في شمال العراق، والاختراق الإيراني الكبير لقيادة جبل قنديل التابعة لحزب العمال الكردستاني.
ويحدو هذا الواقع ببعض الأوساط الكردية والعربية لتصنيف الثنائي التركي – الإيراني على أنه “محور الشر الجديد” لأنه “متربص بالمنطقة العربية ومعاد للحق الكردي”. وبالطبع هناك مبالغة في تناغم الطرفين أو تقاطعهما، ويجري ذلك وفقا لإدارة المصالح تحت سقف دولي ملائم. من أجل الإحاطة بعلاقة “المرشد” و“السلطان”، لا بد من إدراجها في سياق لعبة الأمم التي تدور منذ حرب العراق عام 2003 على حساب النظام الإقليمي العربي المهمش لصالح إسرائيل وإيران وتركيا.
وإذا كانت إسرائيل من المستفيدين من انهيار الدولة الوطنية العربية، فإن إيران نجحت في تمديد نفوذها مستفيدة من إسقاط واشنطن لعدويها اللدودين في العراق وأفغانستان (حينها ركزت الدعاية الإيرانية على زنار النار حولها لا غير)، بينما لم تكن أنقرة تمتلك حينها أي مشروع إقليمي، وكان جهدها مركزا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن مع الوقت بدأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بلورة سياسة موجهة نحو العالم العربي وإيران، دشنها بموقفه من الحرب في غزة عام 2009 وحادث سفينة مرمرة في مايو 2010، مما أدى حينها إلى قطع العلاقات بين تركيا وإسرائيل (انتظر التطبيع صيف 2016 مع الاستدارة التركية). وهكذا بدأت حقبة جديدة منذ 7 سنوات اتسمت بالتعاون أو التنافس بين المشروعين الإقليميين الإيراني والتركي.
إبان مرحلة التفاوض حول الملف النووي الإيراني، كانت أنقرة غالبا إلى جانب طهران واستفادت اقتصاديا من انعكاسات العقوبات ضد إيران. لكن مع بدء اندلاع موجات الربيع العربي و”الفوضى غير الخلاقة” أصبحت الصلات التركية الإيرانية أسيرة مصالح تتناقض وتتنافس على حصد المكاسب.
إزاء التحولات من تونس إلى القاهرة، كانت طهران تهلل لما أسمته “الصحوة الإسلامية”، لكن عند وصول التحولات إلى ما تعتبره منطقة نفوذها في سوريا، غيرت إيران نظرتها وبلورت سياسة تقوم على الاستقطاب وانخرط حرسها الثوري ليضمن دوام النفوذ في العراق وسوريا ولبنان.
في المقابل سعى أردوغان، المسكون بالتاريخ، إلى التحكم بقطار الربيع العربي بعد حذر في بداياته، وكان يريد لعب الدور القيادي في المنطقة من خلال لعب ورقة منظومة الإسلام السياسي التي برزت في 2011-2013، لكن التطورات في مصر وسوريا وبروز تنظيم داعش والرهان الأميركي على الأكراد، ووصول الفوضى التدميرية إلى تركيا نفسها، دفعت بالرئيس التركي إلى مراجعة حساباته مع روسيا. ومن الواضح أن المشروع الإيراني تقدم على المشروع التركي لأن إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تغاضت عن تمدد طهران، ولأن حلف شمال الأطلسي لم يقف إلى جانب تركيا.
وكان الأدهى ارتكاب أردوغان لأخطاء في التقدير والنهج سواء في المسألة السورية أو في عدم استيعاب أهمية العنصر الكردي في المعادلة الإقليمية. وبالطبع استفادت إيران من هذه الثغرات، ومقابل نجاحها في قيادة محور إقليمي متماسك، عانى التنسيق التركي-السعودي من عدم الثقة بين 2013 و2015 ومن عدم القدرة على تحقيق نقلة نوعية منذ التردد التركي في الوقوف إلى جانب عاصفة الحزم.
انطلاقا من عملية “درع الفرات” في أغسطس 2016، والتي أتت عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، تعاملت أنقرة مع اللحظة الإقليمية الحرجة، لأنها كانت تخشى استبعادها من بلورة ملامح الشرق الأوسط القادم. لكن بعد المراوحة الطويلة أمام مدينة الباب في سوريا، وعدم تمكنها من لعب دور في معركة الموصل، استدارت أنقرة لكي تعزف على أنغام ربما تحب إدارة ترامب سماعها، وتطمئن الدول العربية في الخليج.
وهكذا أتت تصريحات أردوغان في المنامة ضد التوسع الإيراني وخطاب وزير خارجيته في مؤتمر ميونخ ضد الدور الطائفي لطهران، في سياق استعداد للانخراط في تحالف إقليمي ضد إيران بمسعى من إدارة ترامب. لكن ذلك لا يتم بالتخلي عن ورقة الانفتاح على موسكو التي ستستضيف في التاسع والعاشر من هذا الشهر قمة القيصر والسلطان.
في مواجهة ذلك كانت الردود الإيرانية صاعقة، سواء في الميدان، في منبج لقطع الطريق التركية إلى الرقة، أو عبر تصريحات غير “ظريفة” للوزير محمد جواد ظريف قال فيها “أصدقاؤنا يعانون ضعف الذاكرة وداء النسيان، نسوا أننا لم نغف حتى الصباح ليلة الانقلاب الذي شهدته دولتهم غير الشيعية، ونكروا الجميل أمام محبتنا لهم”. وأتبع ذلك بتصريح متعال عندما قال “إيران هي القوة الأولى في المنطقة وليس ثمة بلد يجرأ على مهاجمتها”.
إزاء ذلك، حرصت أنقرة على احتواء السجال واستدرك وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو معترفا بمساعدة إيران إثر المحاولة الانقلابية، وحصلت قمة بين الرئيسين التركي والإيراني على هامش قمة التعاون الاقتصادي في باكستان.
لا يعني هذا الاحتواء غياب الخلافات بين الجارين اللدودين، وآخر دليل اندلاع معارك بين أنصار الجانبين من الأكراد في سنجار على الحدود السورية-العراقية. لكن مسارات النزاع وأبعادها الدولية تدفع الطرفين إلى الحذر حتى لا يتحول التجاذب على صفيح الشرق الأوسط إلى ما لا يخدم مصالحهما.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب