إذا كان ثمة دولة لا يجوز أن تسقط أو تفشل في منطقة الشرق الأوسط، فهي حتماً تركيا.
قبل أعوام قليلة، كان الاعتزاز والرضا عنواني الخطاب السياسي في تركيا. فالنمو الاقتصادي كان قد انتقل بتركيا إلى مصاف أنجح الدول، فيما الإصلاح الإداري كان يعدّ البلاد لعضوية عتيدة في الاتحاد الأوروپي. وتركيا، إحدى الدول المؤسسة لحلف شمالي الأطلسي، كانت على ثقة بموقعها المميز كحليف رئيسي للولايات المتحدة في المنطقة. والحزب الحاكم فيها، في خلفيته الدينية وتوجهاته المحافظة، كان قد اعتمد سياسة انفتاح خارجية قوامها الاقتصاد والتواصل بناءاً على مبدأ تجاوز كل الخلافات مع دول الجوار، وسياسة انفتاح داخلية تسعى إلى إنهاء المعضلة الكردية التي سبق أن استنزفت الموارد والطاقات. وعند اندلاع ثورات «الربيع العربي»، تكرر الحديث عن «النموذج التركي» كصيغة بديلة عمّا كانت ترزح دول المنطقة تحته من استبداد وتخبط اقتصادي واجتماعي.
إلا أن الأمور اليوم قد تبدلت. فتوقعات القيادة التركية بشأن المنطقة لم تتحقق، ثم كان الانقلاب الذي هزّ القناعات وبدّد الاطمئنان. وإذ بتركيا تنتقل إلى ما يحاكي الاستبداد الانطوائي في الاستفاضة والمبالغة بردود الفعل إزاء الأعداء، الحقيقيين منهم والوهميين، فيما إعادة النظر تجري بشأن السياسة الخارجية باتجاه عرقلة التطورات السلبية بدلاً من إطلاق المبادرات الإيجابية. وعلى الرغم من هذا الانحدار، فإذا كان ثمة دولة لا يجوز أن تسقط أو تفشل في منطقة الشرق الأوسط، فهي حتماً تركيا.
ما لا شك فيه هو أن تركيا سوف تصاب بضرر فادح نتيجة العزل المفروض على الكفاءات المتهمة بعلاقة ما مع مجموعة «الخدمة» ذات الولاء لفتح الله غولن، لا سيما أن اتهام هذه المجموعة بالمسؤولية عن الانقلاب يبقى إلى اليوم دون الدليل الواضح. فهذا العزل، بالإضافة إلى تجاوزه الحقوق الثابتة والمعايير الدولية، فإنه كذلك يحرم تركيا من طاقات قد ساهمت إلى أمس قريب بالنجاح الذي تحقق على مختلف المستويات، ويرمي بها، إذ يمنع عنها أي شكل من أشكال الاستمرار بالولاء للوطن، في أحضان أية حركة معادية للحكم القائم. هو مسار إضرار ذاتي تتدحرج تركيا باتجاهه، وواجب أي صديق لها هو تنبيهها ودعوتها إلى التصحيح.
إلا أنه لا فائدة أو جدوى بالمقابل من اعتبار أن ما يجري يفضح حزب الرئيس رجب طيب أردوغان و يكشف عمّا كان يضمره من نوايا حبيثة، سواءاً صُنّفت إسلامية أو عثمانية جديدة أو توسعية تركية. القرائن عديدة بالفعل أن تركيا كانت ممراً للناشطين المتطرّفين الدوليين في توافدهم إلى سوريا، وبأنها كذلك قد استفادت من توافدهم هذا لاعتراض توجهات الانفصال أو الحكم الذاتي الكردي عند حدودها الجنوبية، ولكن أنقرة كذلك قد شهدت باستهجان واستغراب التحول في سياسات حكومة الرئيس أوباما باتجاه التعويل المتصاعد في سوريا على من تعتبره تركيا مجرد فرع لحزب العمال الكردستاني، وصولاً إلى اعتبار هذه القوات الكردية السورية الشريك الأول للحكومة الأميركية على الأرض، في حين أن واشنطن لم تتجاوب مع الرؤية والتوجهات التركية المقترحة. قد يكون التباعد بين واشنطن وأنقرة مسألة اختلاف في تسخير الموارد. فرغبة أردوغان بإسقاط النظام في دمشق تتطلب مستوى مرتفع من الالتزام لا يتوافق مع نهج الانسحاب من الشرق الأوسط الذي تسير فيه حكومة الرئيس أوباما، والتي وجدت، مع غياب البدائل، ضالتها في الفصائل الكردية السورية قوة برية لمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» تعفيها من إنزال قواتها، وهو أمر هي مصرّة على تجنبه. كان الأحرى بتركيا أن تجتهد في توضيح العواقب السيئة، من وجهة نظرها، لهذا التوجه الأميركي مباشرة، إذ ترى أن ثمن إيجاد الحل الآني السهل هو المزيد من التعقيد في منطقة قد تشهد نتيجة إعلاء شأن هذه الفصائل نبديلاً في تركيبتها القومية والاجتماعية. غير أن خطوط التواصل بين أنقرة وواشنطن ليست على ما يرام، لتآكل الثقة بين العاصمتين. فتركيا والولايات المتحدة لم تتصرفا في الموضوع السوري انطلاقاً من تحالفهما، بل اعتمدت كل منهما سياسة موازية للأخرى، متوافقة حيناً متعارضة أحياناً. والأسوأ أن تفضيل واشنطن للنار الخفيفة في متاببعة الأزمة السورية كان مطابقاً كذلك لرأي بعض الأوساط العسكرية داخل تركيا نفسها. فاليوم، بعد أن أمسى الولاء للقيادة هو معيار الاستمرار في تركيا ما بعد الانقلاب، فإن المؤسسة العسكرية التركية تنزف كفاءات وخبرات كان لها الدور الهام في توطيد العلاقة مع الولايات المتحدة.
والمفارقة هنا هي أن المحاولة الانقلابية قد قرّبت من وجهات النظر التركية والأميركية، دون أن يتبلور هذا التقريب عملياً. ذلك أن تركيا لم تعد قادرة على السعي وراء التصورات الكبيرة، بل عليها وحسب تحجيم مقارباتها بما يتوافق مع مصالحها المباشرة، وتحديداً تذليل المخاطر عند حدودها مع كل من سوريا والعراق. ذلك لا يعني بالضرورة التخفيف من حدة إدانة أنقرة للنظام الحاكم في دمشق، إلا أن الأولوية بالنسبة لتركيا قد تراجعت إلى حد المطالبة بمنع قيام دويلة كردية في الشمال الشرقي السوري، وليس إسقاط نظام دمشق. والعمل لهذا الهدف قد يبطن في إطار مساعدة اللاجئين، أو الإصرار على وحدة الأراضي السورية، أو الدفاع عن حقوق التركمان، أو التنبيه إلى مخاطر تجاهل مصالح الكتلة السكانية العربية السنية، إلا أن الهدف هو دوماً وأولاً منع قيام الدويلة الكردية.
وهذا الهاجس التركي يلقى تأجيجاً من جانب حرب العمال الكردستاني وحلفائه، عبر الأقوال والأفعال. فالإرهاب كما المواجهات مع القوات المسلحة قد عادت إلى تركيا، فيما تتصاعد الهجمة الإعلامية مع الاستفادة من التأهيل العالمي لوسم تركيا بأنها «الرجل المريض» في المنطقة والدولة المقبلة على الانهيار والتفكك.
والمنطق الدفاعي التركي يمتد كذلك إلى العراق، حيث العلاقات الجيدة والمثمرة تستمر بين تركيا وحكومة إقليم كردستان. أما الأولوية التركية في العراق فهي في درء العواقب الوخيمة التي سوف تترتب عن تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة والتي قد تؤدي إلى المزيد من الإضرار بتركيا. فمن شأن الأوضاع في الموصل، لو تركت لحالها، أن تتسبب بأزمة لاجئين وأعباء اقتصادية ومخاطر أمنية جديدة تثقل كاهل تركيا كما هي الأوضاع عند الحدود السورية. وهي هموم ذات أهمية وأحقية، إلا أن القيادة التركية قد تأخرت بالتطرق إليها وأقدمت بشأنها على خطوات مكلفة وغير مثمرة. فالحشد الوطني الذي تدربه القوات التركية في العراق هو نسخة مصغّرة للحشد الشعبي الذي توظّفه إيران، إلا أنه في حين أن طهران تلقى التصديق على دورها والترحيب في بغداد، فإن أنقرة معرّضة للإحراج نتيجة ما تواجهه من رفض واتهام بالاعتداء على السيادة العراقية.
والواقع أن الأزمات المشتعلة في سوريا والعراق تدفع بتركيا إلى إيلاء مواجهتها لتنظيم الدولة إلى الصف الثالث، خلف تفكيك مجموعة «خدمة» والتصدي للحراك الكردي. وهذا يشكل مخاطرة كبيرة، فحسابات قدرة تركيا على احتواء التحدي الذي يشكله تنظيم الدولة قد لا تكون في مكانها. وتحديداً فأن أسلوب تركيا في معالجة عواقب المحاولة الانقلابية قد ضاعف من إمكانية تعرّضها للأذى من قبل تنظيم الدولة. ذلك أن استهداف الفئات والشرائح المختلفة داخل البلاد على أساس التماهي لا المسؤولية، من المنسجمين مع جماعة فتح الله غولن إلى العلمانيين والأكراد والعلويين، قد يدفع إلى التوهم أن الأمر تمحيص تتأتى عنه كتلة سنية محافظة موالية لحزب العدالة والتنمية. أما الواقع، فهو أن هذا الفرز يرفع من إمكانية الاستقطاب لصالح التطرّف والجهادية. فهذه الإمكانية منخفضة في حساب مجموع الشعب التركي، ولكنها ترتفع نسبياً عند تطرّف هذه الفئات المستهدفة. ثم أن الاقتطاع يجري عبر خطاب تعبوي تسطيحي من جانب الحكومة يمكن تجييره بدوره للقطعية. فاللهجة السياسية في تركيا تزداد حدّة وفئوية، وتفتح المجال أمام الطروحات المتطرفة. والفجوة المفتوحة هنا هي ما ساهم في دعوة تنظيم الدولة مؤيديه إلى شن حرب شاملة على تركيا. والتجربة التاريخية في كل من الشرق الأوسط ومنطقة البلقان يجب أن تفيد تركيا أن اعتماد السلطوية والاستبداد يقدم للقيادة وهم القوة والديمومة ولكنه يؤدي في الواقع إلى التآكل الاجتماعي والفئوية والقطعية. فالسؤال اليوم هل أن الرئيس رجب طيب أردوغان قادر على تجنب الوقوع في فخ الاستبداد.
واشنطن تمسك بالمعطيات التي من شأنها دفع السياسة التركية إزاء سوريا والعراق في الاتجاه المنتج. ولا بد لذلك من مقاربة إقدامية للإدارة الأميركية المقبلة تعمل على رأب الصدع في الثقة بين الولايات المتحدة وتركيا. إلا أنه لا يجوز التغاضي عن الميل إلى الممارسة الاستبدادية وإن جاءت في إطار تطويق نتائج محاولة انقلابية. فالتواصل مع الرئيس أردوغان، إذ ينبني على الاحترام والتقدير، لا بد أن ينبه تركيا إلى أنها عند مقترق طرق، فإما استعادة سلطة القانون والعدالة واإنقاذ الديمقراطية، مع التأكيد على مركزية تركيا كحليف مفصلي للولايات المتحدة، أو السير بمقامرة تمنح تركيا وهم الأمن الآني فيما تتسبب بالضرر الدائم.