تطوير الصلة الروسية الإيرانية لا يشكل اختبارا للرئيس الأميركي فحسب، بل يمثل تحولا في موازين القوى الدولية والإقليمية، ستكون له تداعياته في أكثر من ميدان انطلاقا من سوريا إلى باب المندب.
في الوقت الذي لم يبرز فيه حتى الآن أيّ زخم لانطلاق إدارة الرئيس دونالد ترامب في خضم أزمات الشرق الأوسط، وبينما يتبين عدم وجود رؤية متماسكة لها حيال شؤون المنطقة وشجونها، تكرّس موسكو دورها هناك في ظل انحسار النفوذ الأميركي ويتوافد إليها على التوالي قادة إسرائيل وتركيا وإيران.
وتندرج القمة الأخيرة بين الرئيسين فلاديمير بوتين وحسن روحاني في سياق تعزيز شراكة المصالح المتبادلة بين بلديهما. إلا أن تطوير الصلة الروسية – الإيرانية لا يشكل اختباراً للرئيس الأميركي فحسب، بل يمثل تحوّلا في موازين القوى الدولية والإقليمية، وستكون له تداعياته في أكثر من ميدان انطلاقا من الساحة السورية إلى باب المندب.
طوال حملته الانتخابية تميّزت خطابات الرئيس دونالد ترامب باللهجة المعادية لإيران. لكن بعد تسلمه الحكم غاب شعار إلغاء أو تعديل البرنامج النووي، وأصبح التركيز على الحد من التوسع الإيراني الإقليمي، وتقويض التعاون الاستراتيجي بين موسكو وطهران.
مقابل الرهان الأميركي الافتراضي، أتى كلام بوتين معبّرا خلال لقائه روحاني حين أشار إلى أن “إيران جار طيب وشريك مستقر وموثوق به وآمن”. ولفت بوتين أيضا إلى أن “روسيا وإيران تتعاونان على مدى قرون، مضيفا أن البلدين أقاما علاقات دبلوماسية قبل 500 عام”. لكن ذلك لا يعني أن كل ما يلمع ذهبا وأن التعاون الاقتصادي والاستراتيجي والسياسي بين الطرفين لا تشوبه شائبة وهذا أمر طبيعي في علاقات بين لاعبين لهما صلات مع أطراف أخرى وليس من الضروري أن تتناغم مصالحهما على طول الخط.
أما أن تصبح العلاقة مع طهران ورقة بيد موسكو تساوم بها في مقايضة منتظرة مع إدارة ترامب فهذه مسألة أخرى تتطلب المزيد من التدقيق والإحاطة، إذ يبدو أن الثقة بين قطبي الحرب الباردة السابقين مفقودة ولن تتوطد بسهولة للوصول إلى حبك صفقات كبيرة بالرغم من الاستعداد الحماسي للرئيس دونالد ترامب والذي جرى كبح اندفاعه مع إبعاد مايكل فلين من مجلس الأمن القومي والتحقيقات المستمرة حول الصلة بين بعض فريق ترامب وروسيا.
من جهته، لا يبدو “القيصر الجديد” المتحكم بكل نظامه وقراراته (على عكس الدونالد الخاضع للعبة المؤسسات في بلاد جفرسون) مستعجلاً أو مستعداً للتضحية بعناصر القوة في لعبة استعادة النفوذ الروسي، ومنها ورقة العلاقة مع إيران التي لم يسبق لها في تاريخها فتح قواعدها أمام قوة خارجية، كما فعلت مع الطيران العسكري الروسي.
وثمن تخلي طهران عن “حيادها” أو عن قسط من سيادتها، يتلازم مع زخم في العلاقات التجارية والصفقات العسكرية (في العام 2016 ارتفع حجم التبادل بنسبة70.1 بالمئة ليبلغ 2.18 مليار دولار، لكنه يعادل حوالي سدس رقم المبادلات الروسية – التركية).
يذهب البعض من المحللين للتركيز على أهمية البعد الاقتصادي وعلى توقيع العديد من العقود (محطتين نوويتين في بوشهر، طيران مدني وفي قطاع سكك الحديد والأسلحة وغيرها). لكن البلدين المنتجين للطاقة واللذين يتنافسان على أسواق الغاز(روسيا وإيران في رأس قائمة منتجي هذه المادة الأساسية اليوم في سوق الطاقة) بشكل غير مباشر، يتمتعان بقدر كبير من براغماتية وصبر حائك السجاد الفارسي واللاعب الروسي على رقعة الشطرنج، ولذا تتم مقاربة الفوارق والتباينات دون المس باستمرارية العلاقة.
خلال حلقة دراسية انعقدت في باريس، أواخر الأسبوع الماضي، ضمت العديد من المسؤولين الروس (أبرزهم ألكس بوشكوف، رئيس لجنة في مجلس الشيوخ الروسي)، تحت عنوان “احتمال التقارب الروسي – الأميركي وانعكاساته السياسية والجيوبوليتيكية على أوروبا والعالم العربي”، صارح جو كوفمان عضو الحزب الجمهوري وأبرز أنصار ترامب في ولاية فلوريدا، الحضور بقوله “من يريد أن يكون صديقا أو متعاونا مع الولايات المتحدة الأميركية، عليه ألا يدعم إيران وسياساتها”، ويتقاطع ذلك مع تصريحات البنتاغون ومراكز دراسات صنع القرار التي تصب في اتجاه العمل لفك التعاون الاستراتيجي بين روسيا وإيران.
مقابل هذا “التفاؤل المبالغ به” عند صانعي سياسات واشنطن، يعتقد باحث أوروبي مختص بالشأن الروسي إن ذلك مجرد “وهم” لأن موسكو تنتظر مساومة حول أوكرانيا أي التخلي الأميركي عن هذا البلد، وينظر البعض الآخر لمساومة حول سوريا وهذا غير وارد عمليا نتيجة امتلاك روسيا لغالبية الورقة والاستثمار المستديم فيها.
قبل اللقاء المنتظر بين الرئيسين ترامب وبوتين على هامش قمة العشرين في يوليو القادم، في هامبورغ بألمانيا يحصل تنسيق تكتيكي في سوريا في الحرب ضد داعش كما جرى في منبج التي تحوّلت إلى برلين مشرقية صغيرة مع تواجد الجيشين الأميركي والروسي حولها لصد القوات التركية وإفساح المجال للقوات الكردية كي تخوض معركة الرقة. بيد أن التفاهمات الجزئية لا تعني عدم استمرار تناقضات عميقة في النهج والمصالح، وعلى الأرجح بدل أن تكون صلة موسكو مع طهران ورقة مساومة في تقارب مفترض ومأمول بين ترامب وبوتين، يمكن لإيران أن تتحوّل إلى مسرح تجاذب دولي طرفه الثالث الصين (مع مشروع طريق الحرير الجديدة وحاجتها للطاقة من إيران وجوارها) وهكذا يصبح الصراع حJول إيران كما الصراع حول سوريا من مقاييس تحديد الأحجام ومناطق النفوذ.
بالرغم من أهمية الصلة وحيويتها بالنسبة إلى موسكو كما أشرنا، لا ترقى العلاقة الروسية – الإيرانية إلى مصاف الحلف الاستراتجي، لكنها تتميز بمستوى متقدّم من التنسيق تحت سقف لعبة المصالح المتبادلة. وكانت الساحة السورية مختبر العمل بين الجانبين حيث ينتظم الانتداب الروسي والاستحواذ الإيراني، إذ يقود الرئيس بوتين لعبة تقاطع حيدت تركيا وأخذت تسلبها دورها تحت ستار مؤتمر أستانة، وتراعي حاجات إسرائيل الأمنية دون إعطاء وعد قاطع لبنيامين نتنياهو حول مطلبه المتعلق بإنهاء الوجود الإيراني ووجود حزب الله في سوريا .
من أجل فهم هذا الموقف الروسي المتمسك بالصلة مع طهران، تجدر العودة إلى مقابلة قديمة مع يفغيني بريماكوف مؤلف كتاب “روسيا والعرب” الصادر في 2009، والذي كان من أبرز خبراء ودبلوماسيي روسيا في الشرق الأوسط، وأحد خريجي مدرسة المخابرات التي انبثق منها الرئيس الحالي.
إذ قال خلال حوار معه في (1985) إبان حرب إيران – العراق إن إيران أهم كثيرا من العراق بالنسبة إلى الاتحاد السوفييتي، وأن تسليحها يأخذ أولوية عندهم، لسبب مهم جدا من وجهة نظره، وهو أن إيران مضادة جذريا للمصالح الغربية في المنطقة، أما العراق فتحكمه مجموعة برجوازية ضيقة الأفق، يمكن أن تغير رأيها في أي وقت في المستقبل.
تصلح كلمات بريماكوف اليوم لتكون برسم صانعي السياسات في واشنطن وغيرها.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس