لم يكد الشعار ينهي أغنية “البحر بيضحك ليه” في “كافامينوس” حتى اخترقت الفكرة رؤوس بضعة ناشطين ممن ثابروا على متابعة الأمل الذي بدأوا رحلته حين كانوا شباباً وكان “الشيخ إمام”، صاحب الأغنية، يتنقل مع رفاقه من الشعراء والفنانين والحالمين بين الميادين والمدرجات والزنازين. و”الكافا” هو المكان الذي كان يلتقي فيه مساء كل أربعاء من أول الشهر محبي الشعر والفرح وبعض أصحاب السوابق اليسارية والعلمانية وغيرها من سوابق زمن الشيخ إمام.
وكما استطاع سيد درويش النفاذ إلى قلوب وعقول الملايين حين غنى على “باب الله” للعمال والفلاحين والكسبه، وشكل جزءاً مكوناً من المقاومة المصرية للإحتلال الإنكليزي وثورة سعد زغلول، فقد استطاع الشيخ الضرير تحويل كلمات أحمد فؤاد نجم وزين العابدين فؤاد وبيرم التونسي وغيرهم إلى طاقة تشحن عزيمة الثائرين بوجه الظلم والإستبداد والإحتلال صارخا “بئيدي عود أوّال وجسور وصبحت أنا في العشق مثل”.
والكلمة الجميلة تتحول مع اللحن الجميل إلى سلاح هادر يأسر القلوب ويجذب العشاق ويجمع الأحباب حين يعجز الخطباء والسياسيون وتجار الهيكل.
هكذا حولت فيروز رائعة سعيد عقل “يا قدس يا زهرة المدائن” مع الرحابنة إلى ملحمة ثورية، وهكذا فعل مرسيل مع محمود درويش وفلسطينه في “أحنّ إلى أمي وإلى خبز أمي ودمعة أمي” وهكذا نادانا أحمد قعبور بالنيابة عن توفيق زياد في رائعته “أناديكم”، ولم يهدأ بال ماجدة الرومي إلاّ حين أنشدت “حاصر حصارك”.
الثورة دون فن كالجسد دون روح. ألم تتحول راقصة البرجوازية إيزادورا إلى معبودة البروليتاريا حين تمايلت لهم على أنغام الثورة البولشفية في ساحات بيترسبورغ؟ ومن من الثوريين والعاشقين القدامى لم يرتشف كاس نبيذ أحمر مع أغاني جاك بريل وجورج موستاكي، ومن منا لم يتحرك في كرسيه حين رقص أنطون كوين في زوربا على أنغام كازانتياكس. فللثورة أنغامها وللحياة ألحانها.
لا أعرف فناناً جديا لم يغني للحب والثورة وهما لطالما كانا رمزين توأمين لثقافة الفرح والحياة بوجه البؤس والإحباط ولطالما أصبح مغنوا الثورات أيقونات لها. ترى ألهذا انتزع مجرمو النظام السوري زلعوم ابراهيم قاشوش ودسوا للمنتفضين قطعة خردة مكانه؟
في رائعة العصفور للمخرج الراحل يوسف شاهين وبينما تخرج محسنة توفيق وغلاديس أبو جودة مع الجماهير الغاضبة إلى شوارع القاهرة بعد الهزيمة المذلة وانسحاب عبد الناصر يصدح الشيخ إمام مع عصفور محود المليجي الطليق بـ“مصر يمّا يا بهية يمو طرحة وجلّابية“. ومن حينها لم يذهب المنتفضون الشباب إلى الميادين إلاّ مصطحبين الشيخ أو حنجرته معهم.
لم يكن الحفل الحاشد الذي أحياه الشعار وفرقته في الرابطة الثقافية التحية الوحيدة التي وجهتها طرابلس إلى الأيقونة المصرية التي لطالما انتظرنا أغانيها كما ينتظر العاشقون ظهور القمر في الليالي المظلمة، لكنها شكلت تحية استثنائية، توقيتاً وحضوراً ومكاناً، لذا كانت الحرارة متناسبة مع الحدث. ومع أن المدينة صاحبة الصورة النمطية لطالما شهدت، حتى في جولات العنف، نشاطات ثقافية وفنية ومدنية متنوعة وازدادت وتيرة وتنوعاً في السنة الأخيرة، إلا أن حفل الشيخ كان فريداً بكل المقاييس.
كلهم كانوا هناك وملأوا المسرح أجساداً وحياة، أصحاب السوابق اليسارية بشعورهم البيضاء والناشطون الشباب بحيويتهم الجاذبة وعشاق الطرب والجمال والفرح، والمتيمون بالمدينة ورومانسييها والمتمسكون بأمل لا شفاء منه، غنوا مع “البحر بيضحك ليه” ورقصوا مع “شيد قصورك على المزارع” واهتاجوا مع يا “فلسطينية” واعادوا التضامن مع المعتقلين في زنازين الإستبداد من خلال “وبلغ يا سمير غطاس يا زين المعتقل سنوي” وخرجوا بمزيد من التصميم ب”وعرفنا روحنا والتقينا” واختلطت المنوعات والأجيال والأطياف، كما اختلطت في الساحات والميادين العربية في انتفاضات الربيع.
في أحد مقالاتي عن الإنتفاضة المصرية، لم أجد أفضل من تعبير ثورة الورد لأطلقه على إنتفاضة 25 يناير، ذلك أن زوايا الميدان كانت تصدح بأغنية الشيخ “صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر“. ورغم الأشواك ستظل الورود تتفتح وسيزهر الربيع من جديد وسنعيد للقاشوش زلعومه ولمحمود درويش خبزه وقهوته ولعبد الحليم سده العالي ولصباح قلعتها وللشيخ إمام عوده الأّوّال والجسور، وليهنأ تجار القتل والموت والإنتحار بأسيادهم وسلاحهم برميلا كان أم سكينا ام صاروخا، أم طائرة بطيار أو بلا طيار، وسنظل نغني ولو دون زلعوم.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس لبنان