قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر.. كلي الاحترام، تحية إسلامية إبراهيمية لبنانية زاكية.
يقول مولانا جلال الدين الرومي: «قل هل تريد أن أجعل منك نخلة يقطف منها الغربي والشرقي الثمار؟» «أو أن يجعلك الحق في ذلك العالم شجرة سرو حتى تبقى نضراً أخضر إلى الأبد؟»
صاحب القداسة، ستعرفون أني رجل دين مسلم شيعي من جنوب لبنان، أي من المكان الذي نالته بركات ربنا عز وجل عندما بارك القدس وما حولها كما في القرآن الكريم، ونالته بركات سيدنا وحبيبنا السيد المسيح، يسوع الملك، بعدما مر بقانا وعرج على صور وشفى الكنعانية في صيدا.
من هنا انطويت وأهلي، أسوة بجميع الموحدين، على محبة إضافية للقدس عاصمة أرواحنا وقلوبنا، وذاكراتنا وأحلامنا.. وعلى موجب هذه المحبة، يزداد خوفنا عليها، أن تصبح أحادية البعد في هوية ساكنيها، إذا ما خسرت الوجود أو الحضور المسيحي الفاعل فيها، أولاً، ثم الإسلامي لاحقاً كما تدل الوقائع.
وربما شعرت بالحرج، إذا أبديت حرصي على سلامة الوجود المسيحي في البلاد العربية، وتمكين هذا الوجود من تحقيق كمالاته وخيراته، باعتبار أن ذلك ضرورة إسلامية أيضاً، فضلاً عن أنها ضرورة وحاجة إنسانية ووطنية في كل بلاد العرب التي تفقد كثيراً من نكهتها ومصادر حيويتها، إذا تلاشى أو تراجع الحضور المسيحي فيها.. أما سبب حرجي، فهو شعوري بأننا جميعاً قد قصرنا، بنسب متفاوتة، في حق الوجود والحضور المسيحي والإسلامي، أو العربي، في فلسطين وفي القدس خصوصاً حتى انخفضت النسبة العامة للمسيحيين إلى 1% وانخفض العدد المسيحي في القدس من خمسين ألفاً عام 1967 إلى أقل من ثلاثة آلاف الآن.
قداسة الحبر الأعظم.
يسعدني أن أخفف حرجي وخوفي بأن أضع نفسي في خدمتكم ورهن إشارتكم من أجل أن نعمل شيئاً حقيقياً من أجل القدس وبحجمها، وحجم الخطر الذي يهددها، هذا من دون نية أو رغبة في حل مأساة الشعب الفلسطيني بمأساة يهودية ثانية.. وتكفينا دولة فلسطينية مستقلة ومسالمة، ويمكن ان نتراضى على دولة واحدة من دون مانع من نص دستوري على أرجحية يهودية نسبية في مؤسسات هذه الدولة.. وقد سبق لإمام لبنان المظلوم السيد موسى الصدر أن ضرب لنا مثلاً بإعلانه التمسك بمارونية رئيس الجمهورية في لبنان وإلى آخر أعمارنا وأعمار أجيالنا، مهما يكن عدد المسيحيين في بلدنا. وإلا فإن إعلان إسرائيل دولة يهودية في ظل شرعية دولية، أمر يقول لنا بأن أكثر من مليون فلسطيني مهددون بتشريد جديد قد يحولهم إلى ألغام قد لا نقوى على حصر آثارها.
إلى ذلك فإن التطرف الديني اليهودي، الذي يصل إلى حد الطموح إلى صهينة مسيحية، ونظراً إلى أن سلوك اليمين الإسرائيلي في تقوية هذا التطرف والاستقواء به، من شأنه أن يضع حداً لديموقراطية إسرائيلية مخصصة للاستخدام الداخلي فقط، وهذا الاحتمال يلتقي مع التطرف الإسلامي الذي يتذرع به، ويضع عائقاً أمام الشعوب العربية في سعيها لتحقيق الدولة العربية الوطنية الديموقراطية المدنية الحديثة والمنشودة، والتي يعدنا بها الربيع العربي، لأن التطرف وإصراره على التهويد وإذعان اليمين الإسرائيلي له، سيشجِّع الأصولية الإسلامية على التمسك بشموليتها والتملص من مطلب الحرية، وإعادة إنتاج الاستبداد الديني الذي لن يكون أقل قسوة من الاستبداد السابق، إن لم يكن أقسى. وعليه فإننا بحاجة كل من في فلسطين ليساعدنا على إقامة دولنا على المواطنة تحت سقف القانون وحقوق الإنسان، أي دول الأفراد المواطنين، التي تحترم الأديان والطوائف وتساعدها على تجديد وعيها بذاتها وبالمشتركات التي تجمع أهلها بالآخرين من الشركاء في الإيمان والوطن. وإلا فإننا نخاف أن تبقى فلسطين ذريعة لاستبدال الاستبداد بالاستبداد، وتستخدم كما استخدمتها الأنظمة العربية القمعية، في إلغاء الحريات والحيويات الاجتماعية التقدمية والعلوم والآداب والفنون التي تساعد على ترسيخ وتجميل الإيمان بالله ورسالاته.
قداسة البابا.. لا أريد أن أحملكم ما لا تتحملون من مسؤولية، ولكن موقعكم العظيم ودوركم المسكوني، يشجعنا على أن نعبر عن رغبتنا في أن تبحثوا مع الفاعلين الذين تعرفونهم على النطاق الدولي، عن طريقة لنتحمل مسؤولياتنا تجاه قضية الشعب الفلسطيني بواقعية وعقلانية وشراكة ومحبة وعدالة ورجاء، لنتحرر من الإحباط والانتظار اليومي على رعب شديد، للحروب التي تتكرر، وتهدم من جديد ما بنيناه من حجر وزرعناه من شجر، حتى بتنا نعتقد، خاصة هنا في البلاد المجاورة بأننا نبني للخراب ونزرع للعواصف ونلد للموت أو القتل أو الهجرة أو الغربة عن الوطن أو عن الذات.
صاحب القداسة.. إني كمؤمن موحد لأهل التوحيد وعموم الإبراهيميين وغيرهم من الناس، أي للإنسان عامة، بشرط الخير والصلاح، مع الالتزام بكره المعصية لا العصاة، أشعر بأنني قد أستطيع دخول ملكوت الله وحدي، أي بناء على استحقاق شخصي وبشروط اجتماعية قطعاً على صعوبة ذلك إلا إذا شملتني رحمة الله الرحمان الرحيم، ولكني لا أستطيع وحدي أن أذهب أو أصل إلى مستقبل وطني لبناني حضاري مستقر وآمن ونام… لا وحدي ولا مع جماعتي الشيعية أو جماعتي الإسلامية وحدها، أي من دون المسيحيين، ولا أظن أن باستطاعة أي مسيحي أو عموم المسيحيين في لبنان أن يصلوا وحدهم إلى لبنان المرتجى، أي لبنان الرسالة كما وصفه الإرشاد الرسولي لسلفكم العظيم، والذي وصف لنا طريقاً إلى الحداثة تمر بالمشتركات العربية غير العنصرية. والآن نحن على موعد مع الإرشاد الرسولي الجديد، الذي ينظر إلى لبنان ويراه من محيطه وعمقه الشرقي الأوسطي، وينظر إلى الشرق الأوسط، من الشرفة اللبنانية المطلة على ما حولها بسبب أهليتها التي اكتسبتها من تعددها ونزوع المتعدد اللبناني إلى الحوار والديموقراطية باعتبارها الناظم الحقيقي للتعدد، وقد أسهم عدد من المعنيين المسلمين، في قراءة مسودات الإرشاد وشاهدوا إصغاء عميقاً لملاحظاتهم وتمنياتهم، من هنا نرجو أن يحصل ما لم يحصل على وجه تام، مع الإرشاد الرسولي السابق، أي أن لا نقتل الإرشاد بالمديح والتبجيل وكأنه أمر مفاجئ أو مستهجن في موضوعيته وطموحاته وجماليته، بل نسارع إلى تشكيل ورشة متنوعة لحمله وإجرائه، أي تحويله إلى برنامج عمل لا إلى معتقد، وبذلك يصبح الحضور الإسلامي في الإرشاد فاعلا من دون انتقاص للخصوصية المسيحية ومسؤوليتها المميزة عن الإرشاد الذي يمكن ان يكون الاشتغال عليه داعياً لإنصاف الإرشاد السابق، الذي لا ينبغي التحجج بتعقيدات وصعوبات الوضع اللبناني والإقليمي لتعطيله أو تأجيله، لان العمل عليه هو أحد السبل الموصلة إلى حل كثير من التعقيدات وتفادي كثير من احتمالات الخطر، عن طريق السعي إلى الاتفاق على تسوية تاريخية عادلة وشجاعة بين أطراف النزاع في لبنان، من أجل ان يعود إلى حمل رسالته بقوة وجدارة وطمأنينة إلى سيادة السلام وتعاظم الحوار ورسوخ العيش المشترك.
قداسة الأب الأكبر، ان المسيحيين الذين كانوا أكثر وأجمل، ومصدراً نوعياً لجمال بلادنا العربية، قد أصبحوا أقل عددا مما كانوا، وهذا يشعرنا بالخوف الشديد من أن تتدنى صفات جمالنا، وان نخسر فاعلا أساسياً في حياتنا ومكونا عميقا في هويتنا ونكهة مميزة في ثقافتنا الإسلامية والعربية وشخصيتنا.
على اننا نستطيع معا ان نرجح الكيف على الكم والدور على العدد، مع أقصى درجات العناية والمحافظة على العدد بمنع المحاصرة والمضايقة من جهة وإيجاد الأسباب المانعة من المبالغة في المخاوف من جهة ثانية. وهنا يحسن بنا الكف عن تداول مفهوم الأقليات لإشعار المسيحيين والآخرين، بالخطر، والاتفاق على مدونة أو شرعة أو ميثاق من أجل حماية التعدد وتفعيله الدائم وتغليب المعاني على المباني، بحيث لا يضطر المسيحيون الذين كانوا رواداً في إنتاج ونشر المعرفة بالحرية والحداثة، إلى الاطمئنان أو التمسك بحماية المستبد لوجودهم، عندما تتحول الحرية بسعيه وإهمالنا إلى الفتنة، التي تحول الأكثرية إلى أقلية إذا تخلت عن عقلها ووظيفتها في الجمع لا الاستئثار ولا الإلغاء.
قداسة الحبر الأعظم… من أجل لبنان والعرب ومن أجل علاقات متكافئة وفاعلة ومتحررة من العقد، مع المغرب والمشرق معاً، يجب ان يسود الحوار بين جميعنا. ومن خلال تجربتنا المتواضعة في هذا المجال نستطيع ان نؤكد لكم أن ازدهار الحوار المسيحي المسيحي يؤدي إلى ازدهار الحوار الإسلامي الإسلامي، ليصب النجاح فيهما في نجاح وازدهار الحوار المسيحي الإسلامي، واستقراره على حال من الجدوى وإعادة ترسيم آفاق وأنظمة المصالح المشتركة والأفكار المشتركة والقيم المشتركة بين الأديان… ومن هنا فإننا كمسلمين لبنانيين، نثبت فرادتنا بالحفاظ على التشارط الروحي والثقافي العميق بيننا جميعا، كأطياف مختلفة مؤتلفة على الكيان اللبناني، ومن خلال تظهير وتوكيد حاجتنا الدينية والوطنية، الدنيوية والأخروية، إلى ما يشجع وينشط الحوار المسيحي المسيحي ومن دون مجاملة لكم أو للمسيحيين. لان التفاهم أو الوفاق المسيحي مع عدم اعتبار الاختلاف عيبا، وحسن إدارته، هو ـ التفاهم المسيحي ـ شرطنا لوفاقنا وتفاهمنا الإسلامي ووحدتنا الوطنية. ونقول هذا الرجاء معتمدين على ما نعرفه من علمكم وسعة أفقكم والى حكم على رعيتكم الكاثوليكية بالانفتاح العميق على البروتستانت وتنقية الذاكرة معهم، وعلى العلمانيين وحتى على الملحدين، إيماناً منكم بأن الفضاء الإنساني يجمع ويستدعي الشراكة.
قداسة البابا، هذه فرصة قد لا تتكرر فعذرا لهذه الإطالة لان شجوننا في لبنان كثيرة، ونحن نلتمس المشاركة في خلاصنا من كل مخلص.. اننا نعيش كما تشاهدون حالة من التحول غير المفاجئ وان تأخر وأصبح صعبا، في عدد من البلدان العربية التي استفاقت على نقص هائل من حرياتها وخبزها ورجائها، وقررت، عفوياً، غالبا، وضع حد للاستبداد الذي عطل كل مصادر وفرص الحياة فيها. هذا الأمر يعطينا فرصة للفرح المشروط بالعطاء، ولكن لا يمنعنا بل يحثنا على إظهار بعض الخوف من المستقبل، ومن دون يأس أو رعب، آخذين في اعتبارنا ان هناك مسافة بين سقوط الباطل وإحقاق الحق، وان المرض الذي طال زمانه، يحتاج علاجه إلى مهلة زمنية، نعمل معا على تقصيرها وتخفيف ضرائب التغيير، أي إنجاز دولنا المدنية بالمعنى الكامل وبالتدريج، وبما يساعدنا على حفظ أدياننا ودورها الإنساني بعيداً عن الأوهام والمغامرات الأيديولوجية القاتلة، هذا بالإضافة إلى ضرورة العمل على الحيلولة دون استثمار الحرية أو الديموقراطية في إنتاج ديكتاتورية أخرى، قد لا تكون السياسوية الدينية من محسناتها بل مصدرا إضافياً لمساوئها. وهنا نتوجه إليكم ان تساعدونا في تحذير الإدارات الغربية الحاكمة والمؤثرة، من التواطؤ مرة ثانية، مع من تبقى من وارثي الديكتاتوريات العربية وتراثها، على إنتاج استبداد يذهب بآمالنا وأمانينا ودماء شهدائنا الذين سقطوا على طريق التحرر والتجديد.
لقد قبلنا بنتائج الانتخابات حيث جرت، بشرط ان تكون التطلعات المدنية والتحديثية والمواطنية، للقوى الجديدة، جادة، بحيث يتحقق لنا فصل حقيقي بين الدين والدولة، لا بين الدين والمجتمع ولا الأفراد.. نريد بذلك أن نحفظ إيماننا وأدياننا وأوطاننا ودولنا وإنساننا وإنسانيتنا، التي لن تحفظ إلا بتداول السلطة وشراكة الجماعة من خلال الرأي الحر لأفرادها، في إنتاج الحكم والحاكم والحكومة، بدل التوهم بإمكان ان يكون الحاكم قادرا أو مصيبا في إنتاج الجماعة، أو ان يكون الدين قادرا أو راغبا في إنتاج الدولة، أو ان تكون الدولة صالحة أو مؤهلة لإنتاج الدين.
إن كل هذه الشؤون التي هي في صلب همومكم واهتماماتكم وعملكم اليومي وفكركم اللاهوتي والفلسفي، تؤدي رعايتها بالشراكة، إلى تمكين رجائنا بالخلاص الأخروي واستمتاعنا وفرحنا برضى الله ورحمته وغفرانه وقبوله ورضوانه في الجنة التي يجتمع فيها أخيار البشر الذين نرجو ونعمل على ان يكونوا أكثر وان نكون في عدادهم.. والسبل الراهن أو الدنيوي إلى ذلك، هو ان نجعل أوطاننا مستقرة وآمنة بدولة حاضنة ونظام للحريات الناظمة لحياتنا وعلائقنا، ما من شأنه ان يفتح ويوسع أمامنا أبواب الجنان والحياة الدائمة والدينونة في كنف الرحمن.
ونسأل الله ان تكون هذه الرؤى والأماني مصوغة في الإرشاد على ما تقتضي لغتكم الدقيقة ومقامكم الرفيع، ويناسب ما تحملونه في قلبكم وعقلكم ولسانكم وصلاتكم إلى (سنة الإيمان) التي بشرتم بها في كانون الثاني من هذا العام، كما جاء في رسالتكم بمناسبة افتتاح السنة القضائية.. اننا جميعا بحاجة إلى فهم شرائعنا فهما إنسانيا عميقا من أجل تطبيقها وملاقاة الله في إرادته للعدل، أي الفهم الصحيح للإيمان.
أيها السيد المبجل أودعك بالسلام وأنتظر سلاما وأرجو ان أكون قد أثبت في هذه الرسالة ان ثوبي الديني ذا الدلالة الإسلامية عامة والشيعية خاصة إنما هو من تفاصيل إيماني الكبير وتوحيدي وإنسانيتي، ودعائم وطنيتي. من دون ان أنسى بشريتي واحتمال الخطأ مع الإصرار على تكرار التوبة.
سددكم الله وأعانكم على أداء رسالتكم.
جريدة “السفير”