شهدت منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا نشوء “مقاومات وطنية مسلحة” ضد محتل او مستعمر او نظام مستبد، لقيت ترحيبا في اوساط شعبية انخرطت في صفوفها وايدتها في مواجهة العدو المشترك. الا ان معظم حركات المقاومة الناشئة منذ نصف القرن المنصرم حتى الآن تحولت بشكل مأساوي عن اهدافها لتنهش في لحم مجتمعاتها التي اولتها ثقتها ودعمها فعملت للهيمنة على مقدراتها او اعاقة تقدمها واخضاعها لاحتكارها للسلطة والثروات.
من اوضح حركات المقاومة هذه حزب الله الذي انطلق من لبنان لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي لجنوبه. وعندما انسحبت اسرائيل كليا الى الحدود الدولية في العام 2000 ، رفض نزع سلاحه كما رفض انتشار الجيش اللبناني في الجنوب لحماية الحدود وادعى انه سيحتفظ بسلاحه طالما القدس غير محررة، اي عمليا للابد! وانفرد بقرارالحرب والسلم المفترض انه مسؤولية الحكومة المنتخبة وادخل لبنان في حرب تموز 2006 الكارثية التي اعلنها “نصر الهي” رغم خسائر لبنان الفادحة بشريا وماديا. اصبح بذلك دولة ضمن الدولة وشكل حالة نادرة حيث لدولة جيشين مستقلين احدهما تابع للحكومة الشرعية والآخر يخضع لدولة خارجية، ايران.
في العام 2008 حول الحزب بنادقه للداخل اللبناني بعد اغلاق الحدود مع اسرائيل بقرارات دولية وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب، اذ شن حملة شاملة ضد الحكومة اللبنانية المطالبة بتجريده من السلاح بعد ان لم يعد من شيء “ليقاومه”. فسبب شللا في وسط بيروت السياحي والتجاري لمدة سنة ونصف وعطل جلسات المجلس النيابي ومنع انتخاب رئيس جمهورية، وحاصر سراي الحكومة وحاول اسقاطها وعندما فشل جرد سلاحه “المقاوم” واحتل بيروت الغربية في 7 أيار 2008 وحرق مراكز حزبية ومقرات صحف معارضة له وفرض بالنهاية اتفاق الدوحة كعقد اذعان، اعطى للحزب مع انصاره حق الفيتو على قرارات الحكومة التي اصبحت رهينة لسلاح الحزب المدعي انه “مقاوم”. لكن الاكثر وحشية فيما ارتكبه باسم “المقاومة”، ما يعرفه الجميع حاليا من ارسال مسلحيه للقتال الى جنب النظام الدموي السوري والمساهمة في المقتلة التي يقوم بها ضد الشعب السوري المنتفض من اجل حريته.
ولا تختلف عن حزب الله الكثير من الفصائل الفلسطينية “المقاومة”. فجبهة احمد جبريل “الشعبية” المدعية للمقاومة في معظم تاريخها عملت كمخلب للنظام القمعي السوري. اما حماس فبحجة المقاومة قامت بانقلاب على سلطة الرئيس الفلسطيني الشرعية وقتلت العديد من قيادات وعناصر فتح في القطاع، القت بعضهم من شرفات بنايات عالية واستولت على السلطة في القطاع وتسببت بانقسام الحركة الوطنية الفلسطينية وتقسيم ما تبقى من فلسطين لدولتين دولة حماس في غزة، والسلطة الفلسطينية المعترف بها دوليا في الضفة. فصيل آخر “مقاوم” خرج من عباءة تنظيم “فتح الانتفاضة” في مخيم النهر البارد باسم “فتح الإسلام”. في بداية انطلاقه إعلن أنه جاء “ليقيم الدين وليرفع راية لا الله إلا الله فوق سماء فلسطين”، وبدأ “التحرير!” بقتل عشرات الجنود اللبنانيين غدراً وتفجير المدنيين اللبنانيين الأبرياء.
كذلك المنظمات التي ادعت انها قامت لمقاومة الاحتلال الاميركي للعراق تحولت الى منظمات ارهابية ترتكب الجرائم البشعة ضد المدنيين بتفجيراتها العشوائية التي قتلت من العراقيين الابرياء مئات الالاف، فيما قتلت من جنود المحتل بضعة آلاف. كان قتل المدنيين فقط لاثبات انه لا يوجد استقرار وامن وسلام في ظل الوجود الاميركي، بعمليات بعضها قتل متعمد حسب الهوية الطائفية. استمرت المقتلة رغم ان الاميركان انسحبوا كليا من العراق في العام 2010 .. وتحولت “المقاومة العراقية” الى ما يعرف الآن باسم داعش، التنظيم الارهابي التكفيري الدموي الذي يحتل مساحات شاسعة في العراق وسوريا، ولا يزال يدعي “مقاومة” الغزو الصليبي في الوقت الذي يقتل المدنيين في البلدين.
اما النموذج الاوضح خارج المجال العربي فهو الحركات الجهادية الاسلاموية التي تشكلت لـ”مقاومة” الاحتلال السوفييتي لافغانستان. وعندما انسحب السوفييت تحولت منظمات “المجاهدين” المسلحة لقتال بعضها بعضا بوحشية منقطعة النظير لتحديد من سيسيطر على العاصمة كابول، فاستخدموا كافة اسلحتهم في صراعهم الدموي وقتلوا عشرات الآلاف من سكانها وكان دمار المدينة شبه كامل وآثاره ما زالت الى الآن رغم مرور حوالي ربع قرن على حرب “المجاهدين” المدمرة. لم تتوقف الحرب بين انقاض كابول الى ان سيطر على المدينة فريق من “مجاهدي”، تنظيم الطالبان، وطرد بقية الاطراف، ليقيم حكمه الوحشي على ما تبقى من بيوت مهدمة.
ولا تختلف كثيرا المنظمات الاسلاموية في سوريا من داعش ونصرة واضرابها في انها لا تقيم اي وزن للشعب والناس الذين ادعت انها اتت لنصرتهم وانها تقاوم النظام الذي اضطهدهم، فهم آخر من تهتم بهم في حروبها المدمرة التي تنشب في اي وقت بين اطرافها المختلفة، تستخدمهم دريئة تتخفى خلفها ولا يهمها ابدا ان تدمرت بيوتهم ووسائل رزقهم في سبيل ما تدعيه من تطبيق للشريعة ولو على قبورهم. كما لا يختلف النظام الوحشي في تدمير المدن على رؤوس المدنيين الابرياء متلطيا خلف ادعائه انه نظام “مقاوم وممانع” للمؤامرة الكونية!
“تشرشحت”المقاومة حتى لتكاد تصبح ممسحة بالية، وفقدت قيمتها الرمزية وكفرت بها الغالبية، حتى باتت اعداد كبيرة تتمنى لو ان الاستعمار يعود لحكم بلادها، فقد كان ارحم مما ابتلت به من “مقاومين” على تعدد اصنافهم واهدافهم الخاصة التي لا تتفق مع اهداف الشعب في الحرية واقامة انظمة تعمل في خدمة شعوبها وتستمد سلطتها من ثقة غالبية الشعب بها.
هذا لا يمنع من وجود بعض المقاومين في التاريخ الحديث لم يستغلوا قتالهم للحصول على مكاسب مقابلها واوضح نموذج الثوار السوريون المقاومون للاستعمار الفرنسي، فلم نسمع ابدا انهم سعوا للاستيلاء على السلطة بقوة سلاحهم، فالثائر سلطان باشا الاطرش ورفاقه عند جلاء المستعمر رموا سلاحهم وعادوا للعمل في حقولهم، ومن سعى لدور في الشأن العام فعن طريق صناديق الاقتراع وبالوسائل الديمقراطية، التي بقيت هي الاساس رغم بعض الانقلابات العسكرية الى ان جاء “البعث” ليسحقها ويعلي حكم البندقية على حكم الشعب.
الناس من تجربتها لم تعد تولي اية “مقاومة” تأييدها الا بعد التأكد من انها فعلا لا قولا يهمها مصالح الشعب وتعمل من اجل اهدافه ويهمها بالدرجة الاولى سلامته وامانه وتفعل اي شيء لمنع معاناته من الحروب التي تشنها. وان هناك ضمانات كافية ان “مقاومتها” للطغاة او للاحتلال تستهدف في النهاية ارجاع السلطة للشعب وليس الاستحواذ عليها بقوة سلاحها، واعادة دورة الاستبداد والعنف وحجب الحريات عن الناس الذين ادعت انها “قاومت” من اجلهم. ثم انه عندما تكون الوسائل السلمية فعالة لوصول الناس لاهدافهم لتأمين مصلحتهم في حياة افضل، فان اعلان اية مقاومة مسلحة في اي بلد دون الحاجة اليها وصفة لكارثة تلحق بالشعب لما توفره من فرصة لانتشار الارهاب الاصولي والفلتان الامني والفوضى والحروب الاهلية المدمرة.
ahmarw6@gmail.com
كاتب سوري