في الحوار المطوّل مع صحيفة “السفير” اللبنانية، أواخر آذار (نيسان) الماضي، استخدم بشار الأسد معلومة مغلوطة تماماً، لكي يسبغ على سياسة قمع الرأي في سورية صفة الإجراء القانوني السليم، الذي تتخذه السلطات القضائية (وليس أجهزة الإستبداد، استطراداً)، بسبب مخالفة القوانين المرعية (وليس معارضة السلطة، أو الخلاف معها، ضمن الإستطراد ذاته). كان رأس النظام يجري مقارنة، في تطبيقات هذا السلوك تحديداً، بين القضاء السوري والقضاء الفرنسي ـ ليس أقلّ! ـ فقال بالحرف: “هل دخل روجيه غارودي إلى السجن أم إلى مكان تسلية عندما تحدث عن الهولوكوست؟”. وكان يقصد تثبيت الاجتهاد بأن القانون يمكن أن يعاقب على الرأي أيضاً، إذْ تابع يقول: “إذاً الرأي في دول ديموقراطية يعتبرون أن له جانباً تقييدياً، إذا وقفت خارجاً الآن وتحدثت في موضوع طائفي، ألا يعتبر هذا رأي؟ لكنه ممنوع في القانون”.
والحال، بادىء ذي بدء، أنّ غارودي لم يدخل إلى أيّ سجن (ويمكن القول، في المقابل، إنه زار أكثر من مكان تسلية بعدئذ، هنا وهناك)، بل كان الحكم الذي صدر بحقّه قد اعتمد الغرامة المالية (160ألف فرنك، تعادل اليوم قرابة 24 ألف يورو)، وعقوبتَيْ سجن لمدّة ثلاثة أشهر وستة أشهر، مع وقف التنفيذ، وذلك بعد استئناف الحكم الابتدائي الذي اكتفى بالغرامة المالية. وأياً كان الموقف من آرائه وكتاباته، وما إذا كان الحكم عليه جائراً أم عادلاً، فإنّ اقتباس حكاية سجنه المزعوم لتبرير سجن أصحاب الرأي في سورية، أمر يتجاوز خطل المعلومة إلى انتفاء أي وجه للمقارنة، ومجافاة أي منطق سليم. إنه، كذلك، إهانة لصفوة من خيرة أبناء سورية، يواصلون القبض على جمرة التعبير عن رأي معارض لنظام الإستبداد الفساد، والإستهانة بعقل كلّ مَن يقرأ هذه الأقوال.
فهل يقارن الأسد، في جرم الرأي الذي يخالف القانون، بين روجيه غارودي وكلّ من حبيب عيسى وميشيل كيلو وأنور البني وفداء الحوراني ورياض سيف وأكرم البني وأحمد طعمة وعلي العبد الله وجبر الشوفي وياسر العيتي ووليد البني ومحمد حجي درويش وفايز سارة وطلال أبو دان ومروان العش ومشعل التمو ومحمد موسى، وسواهم من السجناء اليوم؛ وقبلهم أمثال رياض الترك وفائق المير وعارف دليلة، والعشرات من المعتقلين السابقين، في عهد الأسد الابن، دون احتساب المئات في عقود حكم الأسد الأب؟
وإذا كانت آراء هؤلاء قد قادتهم إلى المثول أمام القضاء، استناداً إلى “قانون موجود منذ زمن” كما قال الأسد، فكيف حدث أنّ البعض من هؤلاء، وسواهم كثر، قد اعتُقلوا في ماضي “الحركة التصحيحية” القريب، طيلة 5، أو 10، أو 15 أو 18 سنة… دون تهمة أو محاكمة، أو مثلوا أمام محاكمات صورية قرقوشية (اشتهر بترؤسها فايز النوري، عضو القيادة القطرية لحزب البعث، وكبير مهرّجي القضاء السوري)، انعقدت قبيل الإفراج عنهم وحكمت عليهم بمدد في السجن كان بعضها أقلّ مما قضوه فعلياً خلف الزنازين؟
ثمّ كيف حدث أنّ بشار الأسد نفسه كان، قبل ثلاث سنوات، في تصريح إلى صحيفة “لاريببليكا” الإيطالية، قد ضبط ميشيل كيلو متلبساً بجريمة أخرى غير “تهديد الوحدة الوطنية”، التي كرّرها على مسامع رهط صحيفة “السفير”، بل كان قد حرم كيلو حتى من صفة “سجين رأي”، فأكد أنه: “مرتبط بحزب لبناني يدعو أمريكا للهجوم علينا وغزو دمشق”، وذلك “حزب خارج عن القانون في سورية”. صحيح أنّ الأسد آنذاك عفّ عن إيضاح هوية ذلك الحزب اللبناني الخارج عن القانون (أي القانون السوري، وليس اللبناني!)، إلا أنّ الإعلامية اللبنانية ماريا معلوف، ولكن في مقال نشرته صحيفة “الثورة” السورية، أبانت الحقّ وزهقت الباطل: كيلو اجتمع في قبرص مع مروان حمادة، أحد كبار رجالات “الحزب التقدمي الإشتراكي”، وقبض منه أموالاً لصالح الموقّعين على بيان “إعلان دمشق ـ بيروت”!
ومن جانب آخر، إذا كان الأسد الابن قد اختار عبادة لم يكن يكترث بها الأسد الأب، القضاء والمحاكم وطبخ الإتهامات مسبقة الصنع والتصنيع (مثل “إضعاف الشعور القومي”، “النيل من هيبة الدولة وإيقاظ النعرات العنصرية والمذهبية”، “تكوين جمعية بقصد قلب كيان الدولة”، “نشر أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة”…)، فهل تكون محاكمة غارودي هي أمثولته القياسية؟ بأيّ معنى؟ وفي أيّ مستوى؟ وهل كانت آراء الكاتب والصحافي فايز سارة على درجة عالية من انتهاك المحرّم، لكي يُقارن بما فعله غارودي حين تجاسر على نفي بعض تفاصيل الهولوكوست؟ أم أنّ الحموية فداء الحوراني وضعت كتاباً في وصف مجزرة حماة مثلاً، أو رسم الحلبي طلال أبو دان لوحة تستعيد مجزرة حيّ المشارقة؟
ألا يجد المرء نفسه مضطراً، مرّة بعد مرّة، إلى طرح أسئلة ساذجة من الطراز التالي: كيف يعقل أنّ 163 مواطناً سورياً من المنتسبين إلى “إعلان دمشق”، اجتمعوا في عاصمة بلدهم، وتحاوروا واتفقوا واختلفوا وانقسموا حول حاضر ومستقبل سورية، ولم يكن في حوزة ايّ منهم مسدّس أطفال أو سكين مطبخ، كانوا يعتزمون تغيير الدستور بالقوّة؟ وأيّ نظام هذا، إستبدادي دكتاتوري إستخباراتي عسكري، مدعوم إقليمياً ودولياً، بل تحافظ عليه عدوّته “الرسمية” إسرائيل مثل أيّ من أصدقائه، وأكثر بين حين وآخر… يخشى هؤلاء الـ 163، أو 12 منهم على وجه الدقة، فيقدّمهم إلى قضاء كاريكاتوري، ويزجّ بهم في السجون؟
وكيف للوحدة الوطنية السورية أن تضعف، إذا كانت قيادات الإعلان، وهي على شاكلة قواعده في نهاية المطاف، تضمّ “فداء حوراني، المسلمة السنية الحموية العلمانية القومية، والكردي الوطني عبد الحميد درويش، والمسلم العلوي اليساري الماركسي عبد العزيز الخير، والماركسي الليبرالي أكرم البني، والإسلامي الديمقراطي أحمد طعمة”… كما عبّر رياض سيف أمام قوس الحكمة، ومن الحكمة اقتباس وإعادة اقتباس قوله هذا كلما اقتضى المقام؟ أليس ما يهدد الوحدة الوطنية هو جملة ممارسات السلطة، في الإستبداد والفساد والحكم العائلي الوراثي؛ مترافقة مع سياسات اقتصادية ـ خرقاء أو خبيثة، سيّان ـ لا يزدهر بموجبها إلا نهب البلاد والعباد؛ وخيارات في السياسة الخارجية، إنتحارية أو إرتهانية ـ أياً كان الطرف دافع الرهن، سيّان هنا أيضاً ـ أو مغامرة أو تابعة؟
هذه، بدورها، قد تبدو أسئلة ساذجة، والإجابات عليها ليست واضحة للعيان فحسب؛ بل الخوض فيها يكاد ينقلب إلى نافل القول. لكنّ ولع الأسد باستثمارها، مقلوبة تسير على رأسها دائماً، يجعل استعادتها بين الحين والآخر بمثابة لازمة طبيعية لا بدّ أن ترافق التطرّق إلى أيّ من أحاديثه الصحفية، سيما في الآونة الأخيرة. الأمر الذي لا يعني غياب التناقض الصارخ، بين حديثين تفصل بينهما بضعة أسابيع، كما في مثال حوار الأسد مع صحيفة “الخليج” الإماراتية، مطلع آذار الماضي، والذي سبق حديثه مع “السفير” اللبنانية.
ففي جانب أوّل، انطوى الحديث إلى “الخليج” على تأثيم منظمات حقوق الإنسان الدولية، هذه التي كان الأسد يفاخر بأنّ نظامه لا يعيق عملها، لأنه في الأصل لا يوجد معتقلون سياسيون في سورية! ولقد قال في تبيان طريقة مخاطبته لتلك المنظمات: “قلنا لهم قد نكون نحن مائة في المائة خطأ وأنتم مائة في المائة صح، في ما تطرحونه، لكن لأن الطرح يأتي من قبلكم وأنتم في الخارج فهذا كلام مرفوض”. في عبارة أخرى، إذا كان كلام هذه المنظمات الدولية مرفوضاً لأنه يأتي من الخارج، وليس لأنه باطل مثلاً، فهل يعني هذا أنّ كلام الداخل ينبغي أن يكون مقبولاً، بفضيلة كونه صادراً عن منظمات وطنية هي بِنْت الداخل؟ فما القول، والحال هذه، في كلام أحزاب المعارضة الوطنية والديمقراطية، و”التجمع الوطني الديمقراطي”، و”إعلان دمشق”، و”لجان المجتمع المدني”، ومنظمات حقوق الإنسان؟ هل يصغي إليها الأسد؟ هل يصغي إليها أيّ من قياداته السياسية؟ وهل يتعامل معها طرف آخر من أطراف نظامه، ما خلا أجهزة الإستخبارات التي تعمل فيها تنكيلاً واعتقالاً؟
ومن جانب ثانٍ، أعاد الأسد ترتيب أولوياته في الإصلاح السياسي، فقال: “هذه العملية تأثرت وتتأثر بالظروف التي مررنا بها، والأولويات تختلف، إذا كانت الأولوية بالنسبة لنا هي الإصلاح الاقتصادي وثانياً الإصلاح السياسي، وقد رتبت هذا عندما بدأت في مهمتي، فإنه لاشك في أن الظروف خلقت الاستقرار، فاستقرار سورية مستهدف، ودور سورية مستهدف، كل وضع سورية مستهدف، فأصبح الاقتصاد ثانياً، والإصلاح السياسي ثالثاً”. حسناً، ولكنه في “السفير” سوف يقول ما يلي: “هناك أولويات لعملية الإصلاح، أولاً ماذا يفعل المواطن عندما يستيقظ صباحاً؟ أولاً يأكل، ويشرب ويطعم أولاده، ثانياً يريد نظاماً صحياً جيداً، ثالثاً يحتاج إلى عمل وإلى مدرسة، هذه هي الأمور الأساسية، هذه هي أولوياتنا، بعد ذلك يأتي الإصلاح السياسي”. وبين هذا الترتيب وذاك، يواصل الأسد ربط مصير المواطن السوري بمصير النظام، أو بنجاته ومنجاته على وجه الدقة، فلا حياة لواحد من دون الآخر، وهذا بالضبط هو معنى “الإستقرار” لديه: “إذا كان الإنسان غير قادر على العيش فلا قيمة للأكل ولا قيمة للإصلاح السياسي”.
في حديث ثالث، مع “النهار” الكويتية و”الشرق” القطرية، في الفترة ذاتها، عقّب الأسد على مرحلة الصدام مع “الإخوان المسلمين”، فقل إنّ “كلّ من دخل إلى السجن في هذه المرحلة هو خارج السجن اليوم”، و”لدينا مبادىء، كل من يأتي مع وطنه خاصة في ظل وجود هجمة وتحديات كبيرة فنحن معه”. والحال أنه لم يخبر سائليه عن الذين دخلوا إلى السجن ولم يعودوا فيه، ليس لأنهم خرجوا منه، بل لأنهم قضوا بين جدرانه تحت آلة التعذيب والتحقيق والإعدامات الفورية، وهؤلاء ليسوا بالمئات بل بالآلاف، كما تُجمع منظمات حقوق الإنسان (السورية، داخل البلد، وليست تلك التي تتحدث من الخارج). وفي ما يخصّ القادمين إلى وطنهم، فإنّ وقائع ما ترتكبه أجهزة النظام الامنية في مطار دمشق يكذّب خطاب الأسد كلّ يوم، بصدد مواطنين سوريين عادوا بعد تطمينات من السفارات السورية، أو من الأجهزة إياها مباشرة، ثمّ اعتُقلوا على سلّم الطائرة.
وبالطبع، لا يملك الأسد إلا العودة إلى أطروحته المفضّلة، الغارودية إذا جاز التعبير، فيكرر أنّ نظامه يطبّق القوانين المرعية بحقّ المخالفين: “لدينا أسماء من خرقوا القانون، ومن يخرق القانون يحاسب، وهذا في أي دولة من دول العالم، أما نوع القانون فهو أمر سوري، هل هو صحيح أم خطأ هذا شأن سوري”. بعد أيام معدودات سوف تعتقل الأجهزة الأمنية المواطن السوري أسد خياط (66 سنة)، حامل الجنسية النمساوية، الذي عاد إلى بلاده بعد أن تلقى تطمينات تامة من تلك الأجهزة، ولعلّ زيارة الأسد إلى فيينا زوّدته بتفاؤل إضافي.
فليحمدْ ربّه أنّ القضاء لم يكن له بالمرصاد، في دمشق، بتهمة وهن عزيمة الأمّة… النمساوية!
s.hadidi@libertysurf.fr
• كاتب سوري